تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

{ أُولَئِكَ } أي : الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } أي : على هدى عظيم ، لأن التنكير للتعظيم ، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة ، وهل الهداية [ الحقيقية ] إلا هدايتهم ، وما سواها [ مما خالفها ]{[36]} ، فهو  ضلالة .

وأتى ب " على " في هذا الموضع ، الدالة على الاستعلاء ، وفي الضلالة يأتي ب " في " كما في قوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى ، مرتفع به ، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر .

ثم قال :

5


[36]:- في ب: فهي ضلالة.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أُوْلََئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله جل ثناؤه بقوله : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فقال بعضهم : عَنَى بذلك أهل الصفتين المتقدمتين ، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين وبما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من قبله من الرسل ، وإياهم جميعا وصف بأنهم على هدى منه وأنهم هم المفلحون . ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب ، فهم المؤمنون من العرب ، والذين يؤمنون بما أنزل إليك : المؤمنون من أهل الكتاب . ثم جمع الفريقين فقال : أُولَئِكَ على هدَىً مِنْ رَبّهِمْ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .

وقال بعضهم : بل عَنَى بذلك المتقين الذين يؤمنون بالغيب وهم الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد ، وبما أنزل إلى من قبله من الرسل .

وقال آخرون : بل عَنَى بذلك الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل إلى من قبله ، وهم مؤمنو أهل الكتاب الذين صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، وكانوا مؤمنين من قبلُ بسائر الأنبياء والكتب .

وعلى هذا التأويل الاَخر ، يحتمل أن يكون : الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ في محل خفض ، ومحل رفع فأما الرفع فيه فإنه يأتيها من وجهين : أحدهما من قبل العطف على ما في يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ من ذكر «الذين » . والثاني : أن يكون خبر مبتدأ ، ويكون : أُولَئِكَ على هُدىً مِنْ رَبّهِمْ رافعها . وأما الخفض فعلى العطف على الْمُتّقِينَ . وإذا كانت معطوفة على «الذين » اتجه لها وجهان من المعنى ، أحدهما : أن تكون هي «والذين » الأولى من صفة المتقين ، وذلك على تأويل من رأى أن الاَيات الأربع بعد الم نزلت في صنف واحد من أصناف المؤمنين . والوجه الثاني : أن تكون «الذين » الثانية معطوفة في الإعراب على «المتقين » بمعنى الخفض ، وهم في المعنى صنف غير الصنف الأول . وذلك على مذهب من رأى أن الذين نزلت فيهم الاَيتان الأوّلتان من المؤمنين بعد قوله الم غير الذين نزلت فيهم الاَيتان الاَخرتان اللتان تليان الأوّلتين . وقد يحتمل أن تكون «الذين » الثانية مرفوعة في هذا الوجه بمعنى الاستئناف ، إذ كانت مبتدأ بها بعد تمام آية وانقضاء قصة . وقد يجوز الرفع فيها أيضا بنية الاستئناف إذ كانت في مبتدأ آية وإن كانت من صفة المتقين . فالرفع إذا يصح فيها من أربعة أوجه ، والخفض من وجهين .

وأولى التأويلات عندي بقوله : أُولَئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبّهِمْ ما ذكرت من قول ابن مسعود وابن عباس ، وأن تكون «أولئك » إشارة إلى الفريقين ، أعني المتقين وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وتكون «أولئك » مرفوعة بالعائد من ذكرهم في قوله : على هُدًى مِن رَبّهِمْ وأن تكون «الذين » الثانية معطوفة على ما قبل من الكلام على ما قد بيناه .

وإنما رأينا أن ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله جل ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثم أثنى عليهم فلم يكن عزّ وجل ليخص أحد الفريقين بالثناء مع تساويهما فيما استحقا به الثناء من الصفات ، كما غير جائز في عدله أن يتساويا فيما يستحقان به الجزاء من الأعمال فيخص أحدهما بالجزاء دون الاَخر ويحرم الاَخر جزاء عمله ، فكذلك سبيل الثناء بالأعمال لأن الثناء أحد أقسام الجزاء . وأما معنى قوله : أُولَئِكَ على هُدًى مِنْ رَبّهِمْ فإن معنى ذلك أنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم كما :

حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أُولَئِكَ على هُدىً مِنْ رَبّهِمْ أي على نور من ربهم ، واستقامة على ما جاءهم .

القول في تأويل قوله تعالى : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .

وتأويل قوله : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أي أولئك هم المُنْجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله ، من الفوز بالثواب ، والخلود في الجنان ، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة . قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شرّ ما منه هربوا . ومن الدلالة على أن أحد معاني الفلاح إدراك الطلبة والظفر بالحاجة ، قول لبيد بن ربيعة :

اعْقِلِي إنْ كُنْتِ لَمّا تَعْقِلِي*** ولَقَدْ أفْلَحَ مَنْ كانَ عَقَلْ

يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرا . ومنه قول الراجز :

عَدِمْتُ أُمّا وَلَدَتْ رَباحا *** جاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحا فِرْكَاحَا

تَحْسَبُ أنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجاحا*** أشْهَدُ لاَ يَزِيدُهَا فَلاحا

يعني خيرا وقربا من حاجتها . والفلاح : مصدر من قولك : أفلح فلان يُفلح إفلاحا ، وفلاحا ، وفَلَحا . والفلاح أيضا البقاء ، ومنه قول لبيد :

نحُلّ بلادا كُلّها حُلّ قَبْلَنَا *** وَنَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عادٍ وحِمْيَرِ

يريد البقاء . ومنه أيضا قول عَبيد :

أفْلِحْ بما شِئْتَ فَقَدْ يَبْلُعُ بالضّ *** عْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ أَلارِيبُ

يريد : عش وابق بما شئت . وكذلك قول نابغة بني ذبيان :

وكُلّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ *** وَإنْ أثْرَى وَإنْ لاقى فَلاحا

أي نجاحا بحاجته وبقاءً .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدٗى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (5)

{ أولئك على هدى من ربهم } الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له فكأنه لما قيل { هدى للمتقين } قيل ما بالهم خصوا بذلك ؟ فأجيب بقوله : { الذين يؤمنون بالغيب } إلى آخر الآيات . وإلا فاستئناف لا محل لها ؟ فكأنه نتيجة الأحكام والصفات المتقدمة . أو جواب سائل قال : ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى ؟ ونظيره أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان ، فإن اسم الإشارة ههنا كإعادة الموصوف بصفاته المذكورة ، وهو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده لما فيه من بيان المقتضى وتلخيصه ، فإن ترتب الحكم على الوصف إيذان بأنه الموجب له . ومعنى الاستعلاء في { على هدى } تمثيل تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه بحال من اعتلى الشيء وركبه ، وقد صرحوا به في قولهم : امتطى الجهل وغوى واقتعد غارب الهوى . وذلك إنما يحصل باستفراغ الفكر وإدامة النظر فيما نصب من الحجج والمواظبة على محاسبة النفس في العمل . ونكر هدى للتعظيم . فكأنه أريد به ضرب لا يبالغ كنهه ولا يقادر قدره ، ونظيره قول الهذلي :

فلا وأبي الطير المربة بالضحى *** على خالد لقد وقعت على لحم

وأكد تعظيمه بأن الله تعالى مانحه والموفق له ، وقد أدغمت النون في الراء بغنة وبغير غنة .

{ وأولئك هم المفلحون } كرر فيه اسم الإشارة تنبيها على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي كل واحدة من الأثرتين وإن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عن غيرهم ، ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين ههنا بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } ، فإن التسجيل بالغفلة والتشبيه بالبهائم شيء واحد فكانت الجملة الثانية مقررة للأولى فلا تناسب العطف . وهم : فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ، ويفيد اختصاص المسند إليه ، أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك . والمفلح بالحاء والجيم : الفائز بالمطلوب ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، وهذا التركيب وما يشاركه في الفاء والعين نحو فلق وفلذ وفلي يدل على الشق . والفتح وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة . أو الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصوصياتهم .

تنبيه : تأمل كيف نبه سبحانه وتعالى على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله كل أحد من وجوه شتى ، وبناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز وتكريره وتعريف الخبر وتوسيط الفصل ، لإظهار قدرهم والترغيب في اقتفاء أثرهم ، وقد تشبث به الوعيدية في خلود الفساق من أهل القبلة في العذاب ، ورد بأن المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح ، ويلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم ، لا عدم الفلاح له رأسا .