{ 6 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ْ }
هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة ، نذكر منها ما يسره الله وسهله .
أحدها : أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به ، لأنه صدرها بقوله { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ْ } إلى آخرها . أي : يا أيها الذين آمنوا ، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم .
الثاني : الأمر بالقيام بالصلاة لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ }
الثالث : الأمر بالنية للصلاة ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ْ } أي : بقصدها ونيتها .
الرابع : اشتراط الطهارة لصحة الصلاة ، لأن الله أمر بها عند القيام إليها ، والأصل في الأمر الوجوب .
الخامس : أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت ، وإنما تجب عند إرادة الصلاة .
السادس : أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة ، من الفرض والنفل ، وفرض الكفاية ، وصلاة الجنازة ، تشترط له الطهارة ، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء ، كسجود التلاوة والشكر .
السابع : الأمر بغسل الوجه ، وهو : ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا . ومن الأذن إلى الأذن عرضا .
ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق ، بالسنة ، ويدخل فيه الشعور التي فيه . لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة ، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها .
الثامن : الأمر بغسل اليدين ، وأن حدهما إلى المرفقين و " إلى " كما قال جمهور المفسرين بمعنى " مع " كقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ْ } ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق .
العاشر : أنه يجب مسح جميعه ، لأن الباء ليست للتبعيض ، وإنما هي للملاصقة ، وأنه يعم المسح بجميع الرأس .
الحادي عشر : أنه يكفي المسح كيفما كان ، بيديه أو إحداهما ، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما ، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة ، فدل ذلك على إطلاقه .
الثاني عشر : أن الواجب المسح . فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف ، لأنه لم يأت بما أمر الله به .
الثالث عشر : الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين ، ويقال فيهما ما يقال في اليدين .
الرابع عشر : فيها الرد على الرافضة ، على قراءة الجمهور بالنصب ، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين .
الخامس عشر : فيه الإشارة إلى مسح الخفين ، على قراءة الجر في { وأرجلكم ْ }
وتكون كل من القراءتين ، محمولة على معنى ، فعلى قراءة النصب فيها ، غسلهما إن كانتا مكشوفتين ، وعلى قراءة الجر فيها ، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف .
السادس عشر : الأمر بالترتيب في الوضوء ، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة .
ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين ، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب .
السابع عشر : أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية .
وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه ، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين ، فإن ذلك غير واجب ، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه ، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين ، وتقديم مسح الرأس على مسح الأذنين .
الثامن عشر : الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة ، لتوجد صورة المأمور به .
التاسع عشر : الأمر بالغسل من الجنابة .
العشرون : أنه يجب تعميم الغسل للبدن ، لأن الله أضاف التطهر للبدن ، ولم يخصصه بشيء دون شيء .
الحادي والعشرون : الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة .
الثاني والعشرون : أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر ، ويكفي من هما عليه أن ينوي ، ثم يعمم بدنه ، لأن الله لم يذكر إلا التطهر ، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء .
الثالث والعشرون : أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما ، أو جامع ولو لم ينزل .
الرابع والعشرون : أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا ، فإنه لا غسل عليه ، لأنه لم تتحقق منه الجنابة .
الخامس والعشرون : ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد ، بمشروعية التيمم .
السادس والعشرون : أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء ، فيجوز له التيمم .
السابع والعشرون : أن من جملة أسباب جوازه ، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء ، فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به ، وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر .
الثامن والعشرون : أن الخارج من السبيلين من بول وغائط ، ينقض الوضوء .
التاسع والعشرون : استدل بها من قال : لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران ، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره .
الثلاثون : استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به{[255]} لقوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ ْ }
الحادي والثلاثون : أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء .
الثاني والثلاثون : اشتراط عدم الماء لصحة التيمم .
الثالث والثلاثون : أن مع وجود الماء ولو في الصلاة ، يبطل التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء .
الرابع والثلاثون : أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء ، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه ، لأنه لا يقال " لم يجد " لمن لم يطلب .
الخامس والثلاثون : أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته ، فإنه يلزمه استعماله ، ثم يتيمم بعد ذلك .
السادس والثلاثون : أن الماء المتغير بالطاهرات ، مقدم على التيمم ، أي : يكون طهورا ، لأن الماء المتغير ماء ، فيدخل في قوله : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ْ }
السابع والثلاثون : أنه لا بد من نية التيمم لقوله : { فَتَيَمَّمُوا ْ } أي : اقصدوا .
الثامن والثلاثون : أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره . فيكون على هذا ، قوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ْ } إما من باب التغليب ، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين ، وإما أن يكون إرشادا للأفضل ، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى .
التاسع والثلاثون : أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس ، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا .
الأربعون : أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط ، دون بقية الأعضاء .
الحادي والأربعون : أن قوله : { بِوُجُوهِكُمْ ْ } شامل لجميع الوجه وأنه يعممه{[256]} بالمسح ، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف ، وفيما تحت الشعور ، ولو خفيفة .
الثاني والأربعون : أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط ، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك .
فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك ، كما قيده في الوضوء .
الثالث والأربعون : أن الآية عامة في جواز التيمم ، لجميع الأحداث كلها ، الحدث الأكبر والأصغر ، بل ولنجاسة البدن ، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء ، وأطلق في الآية فلم يقيد [ وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء ]{[257]}
الرابع والأربعون : أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد ، وهو الوجه واليدان .
الخامس والأربعون : أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما ، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية وإطلاقها .
السادس والأربعون : أنه يكفي المسح بأي شيء كان ، بيده أو غيرها ، لأن الله قال { فامسحوا ْ } ولم يذكر الممسوح به ، فدل على جوازه بكل شيء .
السابع والأربعون : اشتراط الترتيب في طهارة التيمم ، كما يشترط ذلك في الوضوء ، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين .
الثامن والأربعون : أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر ، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم ، وليتم نعمته عليهم .
وهذا هو التاسع والأربعون : أن طهارة الظاهر بالماء والتراب ، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد ، والتوبة النصوح .
الخمسون : أن طهارة التيمم ، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة ، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى .
الحادي والخمسون : أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله ، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما ، ويزداد شكرا لله ومحبة له ، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة .
وبعد أن بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فيما يتعلق بمطاعمهم . وفي ما يتعلق بما يحل لهم من النساء . أتبع ذلك ببيان مظاهر فضله عليهم فيما يتعلق بعبادتهم التي من أهمها الوضوء ، والغسل . والصلاة . وأمرهم بالمحافظة على شرعه لهم من شرائع وأحكام فقال - تعالى - :
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة . . . }
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - افتتح السورة بقوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية .
فقوله : { أَوْفُواْ بالعقود } طلب الله - تعالى - من عباده أن يفوا بعهد العبودية . فكأنما قيل : يا إلهنا العهد نوعان : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإِحسان . فقال - تعالى - : نعم أنا أوفى أولا بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا بالوفاء بعهد الربوبية والكرم .
معلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح فاستقصى - سبحانه - في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح . وعند تمام هذا البيان كأنه يقول : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية .
ولما كان أعظم الطاعات بعد الإِيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة لا جرم بدأ - سبحانه - بذكر فرائض الوضوء فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } .
والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها ، والتهيؤ للدخول فيها من باب إطلاق المسبب وإرادة المسبب ، للإيجاز وللتنبيه على أن الشأن في المؤمنين أن يكونوا دائماً على ذكر من إرادتها ودم الإِهمال في أدائها .
وإنما قلنا المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها لأنه لو بقي الكلام على حقيقته للزم تأخير الوضوء عن الصلاة ، وهذا باطل بالإجماع .
وليس المراد بالقيام انتصاب القامة أو ما يشبه ذلك ، بل المراد به الاشتغال بأفعال الصلاة وأقوالها وكل ما يتعلق بذاتها .
قال الآلوسي ما ملخصه : وظاهر الآية يفيد وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم { الذين آمَنُواْ } من غير اختصاص بالمحدثين . لكن الإِجماع على خلاف ذلك ، فقد أخرج مسلم وغيره " أن النبي صلى الله عليه سلم صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد . فقال له عمر : يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه . فقال صلى الله عليه وسلم : " عمداً فعلته يا عمر " " .
يعني : بيانا للجواز . فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة ، والمعنى : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون بقرينة دلالة الحال .
ولأنه اشتراط الحدث في البدل وهو التيمم ، فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا .
وقوله - تعالى - { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } صريح في البدلية .
ويحكى عن داود الظاهري أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يتوضأون لكل صلاة ، ورد بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب وقد ورد : " من توضأ على طهر كتب الله - تعالى - له عشر حسنات " .
وقوله : { فاغسلوا } من الغسل وهو إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه وزاد بعضهم : مع الدلك .
وقوله : { وُجُوهَكُمْ } جمع وجه . وهو مأخوذ من المواجهة .
وحد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضاً .
والمرافق : جمع مرفق - كمنبر ومجلس - وهو ملتقى عظم العضد بعظم الذراع .
والكعبين : تثنية كعب . وهما الجزءان البارزان في أعلى القدم .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون حدثا أصغر ، فاغسلوا وجوهكم ، أي : فأسيلوا الماء على وجوهكم ، وأسيلوه أيضاً على أيديكم إلى المرافق وامسحوا بأيديكم المبللة بالماء رءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وهنا توسع الفقهاء وبعض المفسرين في ذكر مسائل تتعلق بهذه الآية نرى من الواجب الالمام بأهمها فنقول :
أولا : أخذ جمهور الفقهاء من قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا } إلخ أن الوضوء لابد فيه من القصد إليه وإرادته لأجل الصلاة لا لأجل أي شيء آخر كالنظافة وغيرها مما يشبهها ، وذلك لأن الوضوء عمل من الأعمال التي يقصد بها المسلم الطاعة لله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما الأعمال بالنيات " وعليه تكون النية ركنا من أركان الوضوء ، فإذا لم يقصد بوضوئه إرادة الصلاة وابتغاء رضاء الله ، لم تكن صلاته بهذا الوضوء صحيحة .
وقال الأحناف : إن النية في الوضوء ليست بفرض . لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة لذاتها .
وإنما هو وسيلة لغيره وهو الصلاة ، والنية إنما هي شرط في العبادة نفسها وهي الصلاة باعتبارها المقصد ، وليست شرطاً في الوسيلة وهي الوضوء .
وعليه فالوضوء يتحقق بغسل ما يجب غسله من الأعضاء المعروفة ، ومسح ما يجب مسحه منها ، وللمسلم أن يصلي بهذا الوضوء ما شاء من الفرائض والنوافل . قالوا : ومما يشهد بأن الوضوء وسيلة لعبادة ظاهر قوله - تعالى - { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } فإنه يدل على أن الصلاة هي المقصودة وهي الغاية أما الوضوء فقد شرع ليكون سبيلا إليها .
ثانيا : قوله { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } اتفق الفقهاء على وجوب غسل الوجه إلا أنهم اختلفوا في دخول المضمضة والاستنشاق فيه .
فجمهور الفقهاء اتفقوا على أنهما لا يدخلان في غسل الوجه ، بل هما سنتان كان يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل غسل الوجه .
وقال بعض الفقهاء : المضمضمة والاستنشاق داخلان في الغسل .
ثالثاً : أخذ كثير من الفقهاهء من قوله - تعالى - { إِلَى المرافق } . . و { إِلَى الكعبين } أن المرافق داخله مع اليدين في وجوب الغسل ، وأن الكعبين داخلان مع الرجلين في وجوب الغسل .
قالوا : لأن { إلى } هنا بمعنى مع ، ولأن بعض علماء اللغة وعلى رأسهم سيبوية قد قرروا أن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد ، وإذا لم يكن من نوعه لم يدخل . وهنا ما بعد إلى من نوع ما قبلها فوجب دخوله في الحد .
ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا ، لا يصلح أن يكون علامة واضحة على ذلك ، ومن شأن العلامات أن تكون واضحة وهذا لا يتأتى إلا بغسل المرفقين والكعبين .
وفضلا عن كل ذلك فالمعروف من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل المرفقين والكعبين .
قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لما رواه الدارقطني عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه " .
ويرى بعض الفقهاء أن غسل المرفقين والكعبين مستحب ، لأن الغاية من قوله : { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } تحتمل أن تدخل المرافق والكعبين في الوجوب وتحتمل عدم الدخول ، ولا وجوب مع الاحتمال .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذه المسألة بقوله : قوله { إِلَى المرافق } تفيد معنى الغاية مطلقا . فأما دخولها في الحكم وخروجها ، فأمر يدور مع الدليل . فمما فيه دليل على الخروج قوله : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } لأن الإِعسار علة الإِنظار . وبوجود الميسرة تزول العلة . ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين معسراً وموسراً . وكذلك { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } لو دخل الليل لوجب الوصال في الصوم . ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظة القرآن من أوله إلى آخره - لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله - تعالى - : { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } لوقووع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله .
وقوله { إِلَى المرافق } و { إِلَى الكعبين } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط فحكموا بدخولها في الغسل . وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدير الماء على مرفقيه " .
رابعا : أجمع الفقهاء على أن مسح الرأس من أركان الوضوء ، لقوله - تعالى - { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } إلا أنهم اختلفوا في مقدار المسح .
فال المالكية : يجب مسح جميع الرأس أخذا بالاحتياط ، وتبعهم في ذلك الحنابلة .
وقال الشافعية : يكفى مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين وقال الحنفية : يفترض مسح ربع الرأس .
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء زائدة أو أصلية . فقال المالكيبة والحنابلة إن الباء كما تكون أصلية تكون - أيضاً - زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول واعتبارها هنا زائدة أولى ، لأن التركيب حينئذ يدل على مسح جميع الرأس ، ويكون البعض داخلا في ذلك .
وقال الأحناف والشافعية الباء هنا للتبعيض ، إلا أن البعض لم يقدره الشافعية بمقدار معين ، وقدره الأحناف بمقدار ربع الرأس أخذا من حديث المغيرة بن شعبة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته " قالوا : والناصية تساوي ربع الرأس .
قال بعض العلماء : والسنة الصحيحة وردت بالبيان . وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقص العمامة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه هي التي استمر عليها صلى الله عليه وسلم فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي يداوم عليها . وهي مسح الرأس مقبلا ومدبراً . وإجراء غيرها في بعض الأحوال .
خامساً : قوله تعالى { وَأَرْجُلَكُمْ } وردت فيه قراءتان متواترتان .
إحداهما : بفتح اللام وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص الكسائي ويعقوب .
والثانية : بكسر اللام وهي قراءة الباقين .
أما قراءة النصب فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على قوله { وُجُوهَكُمْ } أو هو منصوب بفعل مقدر أي : وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين .
وأما قراءة الجر فعلى أن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } معطوف على { بِرُؤُوسِكُمْ } .
قال القرطبي ما ملخصه : فمن قرأ بالنصب جعل العامل " اغسلوا " وبنى على ذلك أن الفرض في الرجلين الغسل دون المسح . وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء وهو الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم واللازم من قوله في غير ما حديث . وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته . " ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء " ثم إن الله حدهما فقال : { إِلَى الكعبين } كما قال في اليدين { إِلَى المرافق } فدل على وجوب غسلهما .
ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء . فقال ابن العربي : اتفقت العلماء على وجوب غسلهما ، وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم . وتعلق الطبري بقراءة الخفض - أي قال بمسح الرجلين .
ثم قال : وقد قيل : إن قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } بقراءة الخفض - معطوف على اللفظ دون المعنى - أي لفظ الرءوس - وهذا أيضاً يدل على الغسل ، فإن المراعي المعنى لا اللفظ وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب . وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال - تعالى - { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } بالجر لأن النحاس هو الدخان .
ثم قال : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين السغل ما قدمناه ، وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم
" ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " فخوفنا ذكر النار على مخالفة مراد الله . ومعلوم أن النار لا يعذب بها إلا من ترك الواجب . ومعلوم أن المسح ليس من شأنه الاستيعاب . ولا خلاف بين القائلين بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما فتبين بهذا الحديث بطلان من قال بالمسح . إذ لا مدخل بطونهما عندهم ، وإنما ذلك يدرك بالغسل لا بالمسح .
ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما . وحسبك بهذا احجة في الغسل مع ما بيناه فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعنى فيها الغسل لا المسح وأن العامل في قوله و { وَأَرْجُلَكُمْ } وقوله { فاغسلوا } والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به أحدهما . تقول : أكلت الخبز واللبن . أي : وشربت اللبن .
وقد عقد الإِمام ابن كثير فصلا أورد فيه - عند تفسيره لهذه الآية - كثيراً من الأحاديث التي وردت في غسل الرجلين ، وجعل عنوانه : " ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لابد منه " .
ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين والسنن عن عثمان وعلى ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة ، وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم .
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .
وعن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْلَ رَجل مثل الدرهم لم يغسله فقال : " ويل للأعقاب من النار " .
ثم قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة . وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنه يجوز ذلك لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل . بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف .
ويرى الزمخشري أن قراءة الجر في قوله { وَأَرْجُلَكُمْ } محمولة في المعنى على النصب ويكون السبب في عطفها على الرءوس المجرورة ، للإشارة إلى وجوب عدم الإِسراف في الماء . فقد قال : فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح ؟ قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها : فكانت مظنة للإِسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الثالث المسموح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها .
وقد وضح هذا المعنى الشيخ ابن المنير بقوله : لم يوجه الزمخشري قراءة الجر بما يشفي الغليل . والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان من حيث أن كل واحد منهما مساس بالعضو ، فيسهل عطف المغسول على الممسوح من ثم ، كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً .
وعلفتها تبنا وماء باردا . ونظائره كثيرة .
ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاص به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإِيجاز والاختصار . وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا : واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك - الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جداً . على أن الغسل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح . وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة وهذا تقرير كامل لهذا المقصود .
هذا ومن كل ما تقدم نرى وجوب غسل الرجلين في الوضوء سواء أكانت القراءة بالنصب أم بالجر . وقد بسطت بعض كتب الفقه والتفسير هذه المسألة بسطا موسعا فليرجع إليها من شاء .
سادساً : أخذ الأحناف من هذه الآية الكريمة أن أركان الوضوء هي هذه الأربعة فحسب أي : غسل الوجه ، واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين .
وقد أضاف جمهور الفقهاء إلى ذلك النية - كما سبق أن أشرنا - كما أضافوا الترتيب بين الأركان بحيث يغسل الوجه أولا ثم اليدان ثم من بعدهما مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، لأن هذه الأركان قد ذكرت بهذا الترتيب في القرآن فيجب التزامه . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالف هذا الترتيب ولو مرة واحدة فوجب اتباع ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم .
وقال الأحناف : الترتيب ليس فرضاً ، لأن العطف بين الأركان بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا .
كذلك أضاف بعض الفقهاء إلى أركان الوضوء الموالاة بمعنى أن يواصل المتوضئ الاشتغال بوضوئه ولا ينقطع عنه . وذهب بعضهم إلى أن ذلك سنة .
والذي تطمئن إليه النفس أن المتوضئ إذا انقطع وضوؤه بعمل أجنبي لمدة جفت معها أعضاء الوضوء وجب عليه استئناف الوضوء مبتدئأ بأوله . أما إذا قطع المتوضئ وضوء لفترة قصيرة بحيث بقيت آثار الوضوء ظارهة فإنه في هذه الحالة يجوز له الاستمرار فيه .
تلك هي بعض المسائل التي رأينا أن نتكلم عنها بإيجاز بمناسبة حديثنا عن هذه الآية الكريمة وهناك مسائل أخرى تتعلق بها تكفلت كتب الفروع بتفصيلها . وقد انتقلت الآية الكريمة بعد حديثها عن الوضوء إلى الحديث عن الاغتسال وموجبة فقال - تعالى - { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } .
والجنب من أصابته الجنابة بسبب جماع أو احتلام أو غيرهما مما تتحقق معه الجنابة . وكلمة جنب من الألفاظ التي يستوي فيها الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث لجريانها مجرى المصدر ، فيقال : رجل جنب ، وامرأة جنب ، وهما جنب ، ورجال ونساء جنب . . واشتقاقه من المجانبة بمعنى المباعدة ، لأن الجنابة معنى شرعي يستلزم من السملم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يتطهر .
وقوله { فاطهروا } أصله فتطهروا فأدغمت التاء في الطاء فسكنت فأتى بالهمزة .
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم الدخول في الصلاة فعليكم أن تتوضئوا قبل دخولكم فيها بأن تغسلوا وجوهكم وتغسلوا أيديكم إلى المرافق ، وتمسحوا برؤوسكم . وتغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، هذا إذا كنتم محدثين حدثاً أصغر وأردتم الصلاة أما إذا كنتم محدثين حدثا أكبر ، بأن كنتم جنبا بسبب خروج منى أو التقاء ختانين وأردتم الدخول في الصلاة فعليكم في هذه الحالة أن تتطهروا . أي : تغسلوا بالماء جميع بدنكم . لأن الأمر بالتطهر لما لم يتعلق بعضو دون عضو ، كان أمراً شاملا لتطهير جميع البدن ، بدليل أن الوضوء لما تعلق بعضو دون عضو نص الله - تعالى - في الآية على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها .
وإنما حملت الطهارة هنا على الطهارة بالماء لأن الماء هو الأصل كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ولأنه - سبحانه - قد ذكر بعد هذه الحملة ما يحل محل الماء عند فقده .
والتعبير بقوله { فاطهروا } فيه إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء على الجسد كله ، وإيماء إلى أن النجاسة المعنوية قد عمت كل أجزاء الجسم ، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم ولا شك أن الاغتسال بعد الجنابة أو الحيض أو النفاس فيه انتعاش الجسم بعد أن أصابه التعب والإِنهاك ، وفيه كذلك طهارة نفسية ، لأنه يبعث في الإِنسان حسن الاستعداد لذكر الله ، ولأداء تكاليفه .
قال الفخر الرازي : والدلك غير واجب في الغسل . وقال مالك : الدلك واجب وحجة غيره أن قوله { فاطهروا } أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك . ثم قال : والشافعي قال : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل - ومثله في ذلك الإِمام مالك .
وقال أبو حنيفة - والحنابلة - هما : واجبان لأن الآية تقول { فاطهروا } وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم . وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ، ما عدا الأجزاء الباطنة التي لا يمكن تطهيرها . وداخل الفم والأنف يمكن تطيرهما . فوجب بقاؤهما تحت النص . ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " بلوا الشعر وأنقوا البشرة فإن تحت كل شعرة جنابة " فقوله " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف . لأن داخله شعر . وقوله " وأنقوا البشرة " يدخل في الجلدة التي داخل الفم . وحجة الشافعي - ومالك قوله صلى الله عليه وسلم أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مجلس جماعة من أصحابه كانوا يتحدثون أمامه في أمر الغسل ، وكل يبين ما يعمله .
ثم شرع - سبحانه - في بيان الأعذار التي تبيح التيمم من أجل الطهارة عند العجز عن استعمال الماء فقال - تعالى - : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } .
والمراد بالمرضى في قوله - تعالى - { وَإِن كُنتُم مرضى } المرض الذي يمنع من استعمال الماء مطلقاً كأن يكون اسعمال الماء يزيد المرض شدة ، أو يبطئ البرء .
وقوله { أَوْ على سَفَرٍ } في محل نصب عطفا على خبر كان وهو قوله مرضي وليس المراد بالسفر هنا سفر القصر ، وإنما المراد السير خارج العمران سواء أوصل المسافر إلى مسافة القصر أم لا ، بخلافة في قوله - تعالى - في سورة البقرة : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإن المراد به هناك سفر القصر ، إنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء لأن السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء بخلاف الحضر ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية .
وقوله { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط } معطوف على ما قبله والغائط : من الغيط وهو المكان المنخفض من الأرض . وهو هنا كناية عن الحدث لأن العادة جرت أن من يريد الحدث يذهب إلى ذلك المكان المنخفض ليتوارى عن أعين الناس .
وفي إسناد المجيء إلى واحد من مبهم من المخاطبين ، سمو في التعبير . حيث تحاشى - سبحانه - التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا من ذكره أو يستهجن التصريح به . وفي ذلك ما فيه من تعليم الناس الأدب في الخطاب ، والبعد عن الألفاظ التي تخدش الحياء ، ويمجها الذوق السليم .
والمراد بالملامسة في قوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع : فهو هنا كناية عما يكون بين الرجل والمرأة مما يوجب الاغتسال : وهي كناية قرآنية أراد - سبحانه - أن يعلم الناس منها حسن التعبير ، والبعد عن الألفاظ التي تتنافى مع آداب الإِسلام وتعاليمه السامية .
وإلى هذا الرأي اتجه كثير من الصحابة ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو موسى .
وتبعهم في ذلك كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والثوري فقد قالوا : لا ضوءو على من مس امرأة سواء أكان المس بشهوة أو بدونها . واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولم يتوضأ وكان يقبلهن وهو صائم .
واستدلوا - أيضاً - بأن ظاهر مادة المفاعلة يكون في الفعل من الجانبين مقصوداً ، وذلك إنما يتأتى في الجماع دون اللمس باليد . وأيضاً فإن اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع كما في قوله - تعالى -
{ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ويرى جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود أن المراد بالملامسة هنا اللمس باليد ، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء .
وقد سار الإِمام الشافعي على هذا الرأي فقال : إذا مس جسدها فعليه الوضوء سواء أكان المس بشهوة أم بغير شهوة .
ومن أدلته أن اللمس حقيقة في المس باليد ، وهو في الجماع مجاز أو كناية ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة ويرى الإِمام مالك أن اللمس إن كان بشهوة وتلذذ فعليه الوضوء ، وكاذا إذا مسته بشهوة وتلذذ ، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليهما .
وقد انتصر كل فريق لرأيه بصورة أوسع من ذلك في كتب الفروع . والذي نراه أولى بالصواب في هذ المسألة ما قاله الإِمام مالك - رحمه الله - لأنه بني رأيه على وجود الشهوة وعدمها . والفاء في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } عطفت ما بعدها على الشرط السابق وهو قوله { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ } يعودل لكل ما تقدم من مريض ومسافر ومتغوط وملامس وفيه تغليب للخطاب على الغيبة .
والمراد بعدم الوجدان في قوله هنا { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } ما هو أعم من الوجود الحسي أي : أن قوله : " فلم تجدوا ماء " كناية عن عدم التمكن من استعماله وإن وجد حسا ، إذ أن الشيء المتعذر استعماله هو والمعدوم سواء .
وقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } جواب الشرط وهو قوله : { وَإِن كُنتُم مرضى } .
والمعنى : وإن كنتم - أيها المؤمنون - في حالة مرض يحول بينكم وبين استعمال الماء أو كنتم مستقرين على سفر ؛ أو كنتم محدثين حدثاً أصغر أو أكبر ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء تستعملونه لطهارتكم ، ولأداء ما كلفكم الله به من تكاليف ، أو وجدتموه ولكن منعكم مانع من استعماله ، أو كنتم في حاجة ماسة إليه ، فعليكم في هذه الأحوال أن تتيمموا صعيداً طيبا بدلا من الماء ، فإن الله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين } ومنهم من يرى أن الضمير في قوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } يعود إلى الجميع ما عدا المرضي ، لأن المرضى يباح لهم التيمم مع وجود الماء إذا تضرروا من استعماله . وعلى هذا الرأي يكون المراد بعدم الوجدان ، عدم الوجدان الحسي .
والتيمم لغة القصد . يقال تيممت الشيء إذا قصدته .
ويطلق في الشرع على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به .
وأما الصعيد - بوزن فعيل - فيطلق على وجه الأرض البارز ترابا كان أو غيره . وقيل يطلق على التراب فحسب .
والطيب : الطاهر الذي لم تلوثه نجاسة ولا قذر .
وقوله : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } بيان لكيفية التيمم .
أي : إذا لم تجدوا ماء للتطهر به ، أو وجدتموه ولكنكم عجزتم عن استعماله ، فاقصدوا ترابا طاهرا فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم .
وقد استدل بعض الفقهاء بقوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب الطاهر ، لأنه هو المقصود بالصعيد الطيب .
ويرى بعض آخر أن التيمم يجوز التراب وبالحجر وبما ماثله من كل ما كان من جنس الأرض . متى كان طاهراً . قالوا : لأن الظاهر من لفظ الصعيد وجه الأرض . وهذه الصفة لا تختص بالتراب .
قال القرطبي - بعد أن ذكر آراء الفقهاء في ذلك - " وإذا تقرر هذا فالعم أن مكان الإجماع فيما ذكرناه أن تيمم الرجل على تراب طاهر غير منقول ولا مغصوب . ومكان الإِجماع في المنع أن يتيمم الرجل على الذهب والصرف والفضة والياقوت والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات واختلف في غير هذا كالمعادن ، فأجيز وهو مذهب مالك وغيره ومنع وهو مذهب الشافعي وغيره " .
كما استدل الأحناف والشافعية بقوله - تعالى - { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } على أن التيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير . والعضوان هما الوجه واليدان إلى المرفقين ، فقد جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " التيمم ضربتان ضربة للوجه . وضربة للذراعين إلى المرفقين " .
ويرى الحنابلة والمالكية أن العضوين هما الوجه واليدين إلى الرسغين . هذا ، وقد تكلمنا عن هذه المسألة وغيرها بصورة أوسع عند تفسينا لقوله - تعالى - في سورة النساء : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده ، ورعايته لمصالحهم فقال - تعالى { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
أي : ما يريد الله - تعالى - بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل بعد الجنابة ، ومن الأمر بالتيمم عند وجود أسبابه ، ما يريد - سبحانه - بذلك { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي ضيق ومشقة وعسر ، ولكن يريد بذلك ليطهركم .
أي : ليطهر نفوسكم من الأرجاس الحسية والمعنوية وليزيل عنها ما علق بها من ذنوب وأوساخ ، ويريد بذلك أيضاً { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بما شرع لكم من أحكام ميسرة ومن آداب عالية ، ومن تكاليف جليلة لكي تشكروه على نعمه وإحسانه وتشريعاته ، لأنكم متى شكرتموه زادكم من فضله ومننه .
وعبر - سبحانه - عن نفي الحرج بنفي إرادته ، مبالغة في بيان رأفته - سبحانه - بعباده ، ورعايته لمصالحهم . فكأنه - سبحانه - يقول : ما كان من شأن الله - تعالى - مع عباده أن يشرع لهم ما فيه مشقة أو حرج .
وقوله { لِيَجْعَلَ } يحتمل أن يكون الجعل بمعنى الخلق والإِِيجاد فيتعدى لواحد وهو قوله : { مِّنْ حَرَجٍ } وتكون { من } زائدة لتأكيد النفي وقوله { عَلَيْكُم } متعلق بالجعل . ويحتمل أن يكون بمعنى التصير فيكون قوله { عَلَيْكُم } هو المفعول الثاني ، وقوله : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } استدراك قصد به بيان بعض مظاهر رحمته - سبحانه - بالمؤمنين ومحبته لسعادتهم ولتزكية نفوسهم وتطيرها من الذنوب والأدران كما قصد به حضهم على مداومة شكره حتى يزيدهم من فضله .
وقريب من معنى هذه الجملة قوله - تعالى - { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله تعالى - { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت للمؤمنين ما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما أرادوا الدخول في الصلاة ، وما يجب عليهم أن يفعلوه إذا ما كانوا جنبا ، وما يجبع أن يفعلوه إذا ما فقدوا الماء أو عجزوا عن استعماله وكانوا يريدون الطهارو أو أداء ما علهيم من تكاليف ، كما بينت لهم حكمة الله في تشريعاته لهم ، ورعايته لمصالحهم حتى يشكروه على نعمه فيزيدهم منها .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام إليه قصد له ، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا ، والإجماع على خلافه لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته " فقيل مطلق أريد به التقييد ، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين . وقيل الأمر فيه للندب . وقيل كان ذلك أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " . { فاغسلوا وجوهكم } أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك . { وأيديكم إلى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل : { إلى } بمعنى مع كقوله تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أو متعلقة بمحذوف تقديره : وأيديكم مضافة إلى المرافق ، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة ، لأن مطلق اليد يشتمل عليها . وقيل : إلى تفيد الغاية مطلقا وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية ، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا . وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } لكن لما لم تتميز الغاية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا . { وامسحوا برؤوسكم } الباء مزيدة . وقيل للتبعيض ، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم ، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل : وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله : { فاغسلوا وجوهكم } واختلف العلماء في قدر الواجب . فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه : أقل ما يقع عليه الاسم أخذا باليقين . وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : مسح ربع الرأس ، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع . ومالك رضي الله تعالى عنه : مسح كله أخذا بالاحتياط . { وأرجلكم إلى الكعبين } نصبه نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب عطفا على وجوهكم ويؤيده : السنة الشائعة ، وعمل الصحابة ، وقول أكثر الأئمة ، والتحديد ، إذ المسح لم يحد . وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى : { عذاب يوم أليم } { وحور عين } بالجر
في قراءة حمزة والكسائي ، وقولهم جحر ضب خرب . وللنحاة باب في ذلك ، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح ، وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب . وقرئ بالرفع على { وأرجلكم } مغسولة . { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فاغتسلوا . { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } سبق تفسيره ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة . { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم . { ولكن يريد ليطهركم } لينظفكم ، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب ، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء . فمفعول { يريد } في الموضعين محذوف واللام للعلة . وقيل مزيدة والمعنى : ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة . { وليتم نعمته عليكم } ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين ، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . { لعلكم تشكرون } نعمته . والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل ، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب ، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود ، وأن آلتهما مائع وجامد ، وموجبهما حدث أصغر وأكبر ، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة .
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص : من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً ، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع ، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع : وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء ، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل ، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين ، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة ، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ . وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى } في سورة النّساء ( 43 ) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء ، أم آية سورة المائدة . وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم ، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم ، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول » ، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة : أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية ، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم ، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة ، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ ، أراد أن يذكر آية { يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا } ، وهي آية النّساء ( 43 ) ، فذكر آية { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية . فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية { يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة } قد نزلت قبل نزول سورة المائدة ، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة ، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة ، والأرجح عندي : أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة .
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن ؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة . ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك ، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء . قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام » « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية ، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا : إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة ، معناه كان بالسنّة . فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً .
وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ .
وفي « سيرة ابن إسحاق » ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ . وقولهم : الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود . وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة . قال بعض علمائنا : ولذلك قالوا في حديث عائشة : فنزلت آية التّيمّم ؛ ولم يقولوا : آية الوضوء ؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية .
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة ، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك ، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن . وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل ، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء ؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة ، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء . ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا { فاطَّهّروا } ، وقوله هنالك { تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء .
ومعنى { إذا قمتم إلى الصّلاة } إذا عزمْتم على الصّلاة ، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل ، قال الشاعر :
فقام يذود النّاس عنها بسيفه *** وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وعلى العزم على الفعل ، قال النابغة :
أي عزموا رأيهم فقالوا . والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته ب ( إلى ) لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا .
وروى مالك في « الموطّأ » عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم ، وهو مروي عن السديُّ . فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية ، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة .
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب { إذا قمتم } فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة . والأمر ظاهر في الوجوب . وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف ؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري ، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى » ولم أره لغير الطبرسي .
وقال بريدة بن أبي بردة : كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد ، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد . وقال بعضهم : هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه ، كيفَ وهي مصدّرة بقوله : { يأيّها الّذين آمنوا } . والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين » ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء ( 43 ) المصدّرة بقوله : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى - إلى قوله- ولا جُنباً } الآية . وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية ، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة ؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة . وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره . والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء . وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها ؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط ، هو القيام إلى الصّلاة ، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله : { وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا } فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء ، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات ، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر ، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم ، فمفهوم الشرط وهو قوله : { وإن كنتم مرضى } ومفهوم النّفي وهو { فلم تجدوا ماء } تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل ، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب .
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة . وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو ، ولذلك اقتصر على قوله : { وأيديكم } في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء . وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة ، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما .
وقد اختلف الأيمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة ، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود . وفي « المدارك » أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها . ثمّ قال للسائل بعد أيّام : قرأت « كتاب سيبويه » فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود . وفي مذهب مالك : قولان في دخول المرافق في الغسل ، وأوْلاهما دخولهما . قال الشيخ أبو محمد : وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد . وعن أبي هريرة : أنّه يغسل يديه إلى الإبطين ، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة . وقيل : تكره الزيادة .
وقوله : { وأرجلكم } قرأه نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على { وأيديكم } وتكون جملة { وامسحوا برؤوسكم } معترضة بين المتعاطفين . وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي ، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة ؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي ، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها ، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه " وَيْلٌ للأعقاب من النّار "
وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بخفض { وأرجلكم } . وللعلماء في هذه القراءة تأويلات : منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل ، وروي هذا عن ابن عبّاس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة . وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال : « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما » فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم } . ورويت عن أنس رواية أخرى : قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل ، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة ، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح ، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار » مرّتين . وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة ، قالوا : ليس في الرجلين إلاّ المسح ، وإلاّ ابن جرير الطبري : رأى التخيير بين الغسل والمسح ، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح .
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء . ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل ، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح .
وجملة { وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه } مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا .
وجملة { مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج } تعليل لرخصة التيمّم ، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق .
واللام في { ليجعل } داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر ، وهي لام زائدة على الأرجح ، وتسمّى لام أَنْ . وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يُريد الله ليبيّن لكُم } في سورة النّساء ( 26 ) ، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود .
والحرج : الضيق والشدّة ، والحَرَجَة : البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق ، والجمع حَرَج . والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر ، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها .
وقوله : { ولكن يريد ليطهّركم } إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف ، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة ؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار : منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة ؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله ، ككون الظهر أربع ركعات ، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم ، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم ، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع . فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء ، كما تقدّم في سورة النساء .
وقوله { وليتمّ نعمته عليكم } أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام ، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة . فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن ، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم .
وقوله : { لعلّكم تشكرون } أي رجاء شكركم إيّاه . جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا}: إن أصابتكم جنابة، {فاطهروا}: فاغتسلوا، {وإن كنتم مرضى}، نزلت في عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أو أصابكم جراحة، أو جدري، أو كان بكم قروح وأنتم مقيمون في الأهل، فخشيتم الضرر والهلاك، فتيمموا الصعيد؛ ضربة للوجه وضربة للكفين، {أو} إن كنتم {على سفر}، نزلت في عائشة، رضي الله عنها، حين أسقطت قلادتها وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بني أنمار، وهم حي من قيس عيلان. {أو جاء أحد منكم من الغائط} في السفر {أو لامستم النساء}: جامعتم النساء في السفر، {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، يعني من الصعيد ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع، ولم يؤمروا بمسح الرأس في التيمم. {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج}، يعني ضيق في أمر دينكم، إذ رخص لكم في التيمم، {ولكن يريد ليطهركم} في أمر دينكم من الأحداث والجنابة، {وليتم نعمته عليكم}: إذ رخص لكم في التيمم في السفر، والجراح في الحضر، {لعلكم تشكرون} رب هذه النعم فتوحدونه، فلما نزلت الرخصة، قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لعائشة رضوان الله عليها: والله ما علمتك إلا مباركة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق.
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:"إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ" أمراد به كلّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه من أنه معنىّ به بعض أحوال القيام إليها دون كلّ الأحوال، وأن الحال التي عني بها حال القيام إليها على غير طهر. سئل عكرمة عن قول الله: "إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيكُمْ إلى المَرَافقِ "فكلّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلاّ من حدث.
وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
وقال آخرون: بل ذلك معني به كل حال قيام المرء إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا. وقال آخرون: بل كان هذا أمرا من الله عزّ ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به أن يتوضؤوا لكلّ صلاة، ثم نسخ ذلك بالتخفيف.
حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: ثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازنيّ، مازن بني النجار، فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثَتْنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب، أن عبد الله بن زيد بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة، فشقّ ذلك عليه، فأمر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه، فكان يتوضأ...
فإن ظنّ ظان أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كلّ صلاة، دلالة على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظنّ غير الصواب، وذلك أن قول القائل: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، محتمل من وجوه لأمر الإيجاب والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق، وإذ كان محتملاً ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقية مدّعية. وقد أجمعت الحجة على أن الله عزّ وجلّ لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرض الوضوء لكلّ صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك الدلالة الواضحة على صحة ما قلنا من أن فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك كان على ما وصفنا من إيثاره فعل ما ندبه الله عزّ ذكره إلى فعله وندب إليه عباده المؤمنين بقوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافقِ..."، وأن تركه في ذلك الحال التي تركه كان ترخيصا لأمته وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلاّ من حدَث يوجب نقض الطهر.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بقعب صغير، فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم. قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد...
وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ، فأذن له بهذه الآية أن يفعل كلّ ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عدا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلّم عليه فلا يردّ علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمك فلا تكلمنا ونسلم عليك فلا تردّ علينا قال: حتى نزلت آية الرخصة: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ...".
اختلف أهل التأويل في حدّ الوجه الذي أمر الله بغسله، القائم إلى الصلاة بقوله: "إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ"؛ فقال بعضهم: هو ما ظهر من بشرة الإنسان من قصاص شعر رأسه، منحدرا إلى منقطع ذقنه طولاً، وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين فليس من الوجه ولا غيره، ولا أحبّ غسل ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاء شعر اللحية والصدغين اللذين قد عطاهما عذر اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر مجزئ عن غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، لأن الوجه عندهم هو ما ظهر لعين الناظر من ذلك فقابلها دون غيره...
"وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ".
اختلف أهل التأويل في المرافق، هل هي من اليد الواجب غسلها أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب. فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ: أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ قال: الذي أمر به أن يُبلغ «المرفقين»، قال تبارك وتعالى: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فذهب هذا يغسل خلفه فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال: لا أدري ما لا يجاوزهما، أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين. وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى أن تغسل المَرَافِقِ.
وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله: "وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ" غسل اليدين إلى المرافق، فالمرفقان غاية لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدّ، كما غير داخل الليل فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: "ثُمّ أتِمّوا الصّيامَ إلى اللّيْلِ" لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله: "فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ" غاية لما أوجب الله غسله من اليد.
والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تَجزه الصلاة مع تركه غسله. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندب إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله: «أُمّتي الغُرّ المُحَجّلُونَ مِنْ آثارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيلَ غُرّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» فلا تفسد صلاة تارك غسلهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبل فيما مضى من أن كل غاية حدت ب «إلى» فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلاّ لمن لا يجوّز خلافه فيما بين وحكم، ولا حكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه.
اختلف أهل التأويل في صفة المسح الذي أمر الله به بقوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ"؛ فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رؤوسكم بالماء إذا قمتم إلى الصلاة... عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدم رأسه.
عن إبراهيم، قال: أيّ جوانب رأسك مسست الماء أجزأك.
وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء لم تجزه الصلاة بوضوئه ذلك... سئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردّهما إلى حيث بدأ منه.
وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقلّ من ثلاث أصابع، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جلّ ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائم إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدّ ذلك بحدّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقّ بمسحه ذلك أن يقال: مسح برأسه، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم ما مسح برأسه إذا قام إلى صلاته.
فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: "فامْسَحُوا بوُجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ" أفيجزئ المسح ببعض الوجه واليدين في التيمم؟ قيل له: كلّ ما مسح من ذلك بالتراب فيما تنازعت فيه العلماء، فقال بعضهم: يجزيه ذلك من التيمم، وقال بعضهم: لا يجزئه، فهو مجزئه، لدخوله في أسم الماسحين به. وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا حجة لأحد علينا في ذلك إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عاما في معنى فالواجب الحكم به على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خصّ منه شيء كان ما خصّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم... والرأس الذي أمر الله جلّ وعزّ بالمسح بقوله به: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ" هو منابت شعر الرأس دون ما جاوز ذلك إلى القفا مما استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبل من قِبَل وجهه إلى الجبهة.
"وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ": اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأه جماعة من قرّاء الحجاز والعراق: "وأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ" نصبا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجُلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون «الأرجل» منصوبة، عطفا على «الأيدي». وتأوّل قارئو ذلك كذلك، أن الله جلّ ثناؤه إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
وقرأ ذلك آخرون من قرّاء الحجاز والعراق: «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ» بخفض الأرجل. وتأوّل قارئو ذلك كذلك أن الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا الأرجل عطفا على الرأس، فخفضوها لذلك... والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. ومسحهما: إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض والاَخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القرّاء في قوله: وأرْجُلَكُمْ فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء، وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح. ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد توجيها منه قوله: «وَامْسَحُوا برُءُوسِكُمْ وأرْجُلِكُمْ إلى الكَعْبَيْنِ» إلى مسح جميعهما عاما باليد، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء، وأجاز ذلك من أجاز توجيهه منه إلى أنه معنيّ به الغسل... فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به، وكان صحيحا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد أن مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح فبين صواب القراءتين جميعا، أعني النصب في الأرجل والخفض، لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحهما، فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومهما بأمرار الماء عليهما، ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد مسحا بهما. غير أن ذلك وإن كان كذلك وكانت القراءتان كلتاهما حسنا صوابا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ" فالعطف به على الرؤوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي، وقد حيل بينه وبينها بقوله: "وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ".
فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصا نظير قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَيْلٌ للأَعْقابِ وَبُطُونِ الأقْدَامِ منَ النارِ»، ولو كان مسح بعض القدم مجزيا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضها، لأن من أدّى فرض الله عليه فيما لزمه غسله منها لم يستحقّ الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل، فوجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه، أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحة ما قلنا في ذلك وفساد ما خالفه. "إلى الكَعْبَيْنِ": واختلف أهل التأويل في الكعب؛
فقال بعضهم: قال أبو جعفر: أين الكعبان؟ فقال: القوم ههنا، فقال: هذا رأس الساق، ولكن الكعبين هما عند المفصل.
قال مالك: الكعب الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
وقال آخرون: قال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع فصل الساق والقدم.
والصواب من القول في ذلك أن الكعبين هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم تسميهما العرب المِنْجَمين. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها.
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته.
"وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا": وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها "فاطهروا"، يقول: فتطهروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها...
"وَإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أوْ على سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ": وإن كنتم جرحى أو مجدرين وأنتم جنب.
"أوْ على سَفَرٍ": وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب "أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ": أو جاء أحدكم من الغائط بعد قضاء حاجته فيه وهو مسافر، وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه. "أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ": أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون.
فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله: أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ إن كان معنى اللمس الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا"؟ قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه بقوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا" غير المعنى الذي ألزمه بقوله: "أوْ لامَسْتُمُ النّساءَ" وذلك أنه بين حكمه في قوله: "وإنْ كُنْتُمْ جُنُبا فاطّهَرُوا" إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهره فرض عليه الاغتسال به، ثم بين حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيل وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
"فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدا طَيّبا فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ": فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهله في سفره ماء، "فتيمموا صعيدا طيبا" يقول: فتعمدوا واقصدوا وجه الأرض طيبا، يعني طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالاً. "فامْسَحُوا بُوجُوهِكُمْ وأيْدِيكُمْ مِنْهُ": فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، "فامسحوا بوجوهكم وأيديكم" مما علق بأيديكم منه، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من ترابه وغباره.
"ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ": ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء، "لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ": ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه. "وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ولِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعلّكُمْ تَشْكُرُونَ": ولكن الله يريد أن يطهركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسل من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظّفوا وتطهروا بذلك أجسامكم من الذنوب. كما:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الوُضُوءَ يُكَفّرُ ما قَبْلَهُ، ثم تَصِيرُ الصّلاة نَافِلة». قال: قلت: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، لا مرّة، ولا مرّتين، ولا ثلاثَ، ولا أربَع، ولا خمس.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذَا غَسَلَ المُؤْمِنُ كَفّيْهِ انْتَثَرَتِ الخَطايا مِنْ كَفّيْهِ، وإذَا تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرَيْهِ، وَإذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ حتى تَخْرُجَ مِنْ أشْفارِ عَيْنَيْهِ، فإذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ، فإذَا مَسَحَ رأسَهُ وأُذُنَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ رأسِهِ وأذنَيْهِ، فإذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ حتى تَخْرُجَ مِنْ أظْفارِ قَدَمَيْهِ، فإذَا انْتَهَى إلى ذَلِكَ مِنْ وُضُوئِهِ كانَ ذَلِكَ حَظّهُ مِنْهُ، فإنْ قامَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً فِيهِما بِوَجْهِهِ وَقَلْبِهِ على رَبّهِ كانَ مِنح خَطاياهُ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ».
"وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ": ويريد ربكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه، أن يتمّ نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نعمه التي أنعم بها عليكم أيها المؤمنون "لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ": تشكرون الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} قيل فاغتسلوا بأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف، لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة. ألا ترى أنه به يضعف إذا كثره، وبتركه يقوى. فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه. وأما الحدث فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف من نحو الأكل والشرب والحدث، وليس باستعمال كل البدن، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} الآية. ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط والملامسة. ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر ولكن باسم الغائط، ولكن كان متعلقا لمعنى فيه دلالة جواز القياس لأنه ذكر الغائط والمجيء منه، [والغائط] هو المكان الذي تقضى فيه، والمراد منه المعنى، وهو قضاء الحاجات. فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد بمعنى، فوجد ذلك المعنى في غيره وجب ذلك الحكم في ذلك الغير. فإذا عدم الماء في المكان الذي يعدم، وإن لم يكن سفرا، يجوز التيمم فيه، وكذلك إذا خاف الضرر من الماء جاز له التيمم، يكون مريضا لأنه ليس أباح ذلك، هذا هو المعنى الثاني للمريض باسم المرض ولا باسم السفر، ولكن لمعنى فيه.
وقوله تعالى: {أو لامستم النساء} قد ذكرنا في ما تقدم أن الملامسة هو الجماع. [كذلك] روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن عباس: الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان، كله جماع، ولكن الله كريم يكني.
وقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} جعل الطهارة بالماء والتراب لأنه بهما معاش الخلق، وبهما قوام الأبدان حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما. فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما، والله أعلم. ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف لأنه يقدم على الملك الجبار، ويقوم بين يديه ويناجيه. ومن أتى ملكا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزين، ثم يدخل عليه، فعلى ذلك هذا، والله أعلم.
وقوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} قيل {صعيدا طيبا} والصعيد هو وجه الأرض. وقوله تعالى: {طيبا} قال بعضهم: الطيب ما ينبت من الزرع وغيره. وقال آخرون: الطيب ههنا هو الطاهر. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» [البخاري: 335] أخبر أن الأرض جعلت له مسجدا وطهورا. فكان قوله: «طهورا» تفسيرا لقوله تعالى: {طيبا} والله أعلم...
وقوله تعالى: {ما يريد ليجعل عليكم من حرج} يحتمل هذا وجهين: يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيث ما كنتم في الأسفار وغيره، ولكن جعل لكم التيمم، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره، والله أعلم. ووجه آخر: ما أراد الله بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل {عليكم من حرج} ولكن أراد ما ذكر.
وقوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} يحتمل يريد ليطهركم بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعا. ويحتمل قوله {يريد ليطهركم} من الذنوب والآثام التي ارتكبوها كقوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114] ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل.
وقوله تعالى: {وليتم نعمته عليكم} تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه والتكفير مما ارتكبوا. ويجوز أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم يموتون على الإيمان حين أخبر أنه يتم نعمته عليهم.
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ} والغائطُ هو المطمئنُّ من الأرض، وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم فيه، وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس؛ لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم، وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سَلَسِ البول والمذي ودم الاستحاضة؛ فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله -تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) يعني: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وذلك مثل قوله: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) أي: فإذا أردت القراءة. تقول: إذا اتجرت فاتجر إلى البر، وإذا جالست، فجالس فلانا، أي: إذا أردت المجالسة. وظاهر الآية يقتضي أنه يجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة، ولكن بالسنة عرفنا جواز الجمع بين الصلوات بوضوء واحد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين أربع صلوات يوم الخندق بوضوء واحد، وجمع صلى الله عليه وسلم بين خمس صلوات يوم فتح مكة بوضوء واحد، وحكى عن علي- رضي الله عنه -أنه قال: الوضوء لكل صلاة مكتوبة. وقيل: هو على الاستحباب...
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) يعني: مع المرافق، قال المبرد: إذا مُدّ الشيء إلى جنسه تدخل فيه الغاية، وإذا مُدّ إلى خلاف جنسه، لا تدخل فيه الغاية، فقوله: (إلى المرافق) مُدَّ إلى جنسه، فتدخل فيه الغاية. وأما قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) مُدَّ إلى خلاف جنسه، فلا تدخل فيه الغاية. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الإنسان به بالاتكاء عليه...
(ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) قال محمد ابن كعب القرظي: أراد بإتمام النعمة: تكفير الخطايا بالوضوء على ما روينا، وهذا مثل قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك يعني: بغفران الذنب، وفي الوضوء تكفير الخطايا التي ارتكبها في الدنيا، ونور يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: «أمتي غرّ محجّلون من آثار الوضوء يوم القيامة؛ فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل».
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وإن كنتم جنباً} الجنب مأخوذ من جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل {والجار الجنب} [النساء: 36] ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون {الجار الجنب} [النساء: 36] هو البعيد الجوار ويكون مقابلاً للصاحب بالجنب. و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء،...
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية، فقوله {أوفوا بالعقود} طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية، فكأنه قيل: إلهنا العهد نوعان: عهد الربوبية منك، وعهد العبودية منا، فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان. فقال تعالى: نعم أنا أوفي أولا بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح، لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح، وعند تمام هذا البيان كأنه يقول: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات، فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية، ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال {يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وليتم نعمته عليكم} ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. {لعلكم تشكرون} نعمته. والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وليتم نعمته عليكم} أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل: الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء:"ويتم نعمته عليكم"، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين. وقيل: تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله: {وأتممت عليكم نعمتي} وقيل: بغفران ذنوبهم. وفي الخبر: « تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار». {لعلكم تشكرون} أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا به! صدقوه بأنكم {إذا} عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة {قمتم} أي بالقوة، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام {إلى الصلاة} أي جنسها محدثين، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما:"ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه، فقوله "المصلون "إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة، فما دامت قائمة فهو زائل، ومتى زالت والعياذ بالله -رجع، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بين العبد والكفر ترك الصلاة "وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة". ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط: {فاغسلوا} أي لأجل إرادة الصلاة، ومن هنا يعلم وجوب النية، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية {وجوهكم} وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة، لأنه من الحرج، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب {وأيديكم}.
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم: {إلى المرافق} أي آخرها، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدخل كقوله تعالى {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وتارة لا تدخل كقوله تعالى
{ثم أتموا الصيام إلى اللّيل} [البقرة: 187] والمرفق ملتقى العظمين، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً {وامسحوا} ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه، بل أتى بالباء فقال: {برءوسكم} علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف: المراد إلصاق المسح بالرأس، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح.
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً، قرئ: {وأرجلكم} بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب، قال في القاموس: المسح كالمنع: إمرار اليد على الشيء السائل. فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل.
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل- كما مضى في المرافق، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل: {إلى الكعبين} وهما العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين، ولو قيل: إلى الكعاب، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل -كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب، لأن عادة العرب- كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب -أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب: ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض، لظهور الكفار وغلبتهم، كما كانت المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه، عاطفاً على ما تقديره: هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر: {وإن كنتم} أي حال القصد للصلاة {جنباً} أي ممنين باحتلام أو غيره {فاطهروا} أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء.
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء، وبدأ بالوضوء لعمومه، ذكر الطهارة رخصة بالتراب، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة: {وإن كنتم مرضى} أي بجراح أو غيره، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب {أو على سفر} طويل أو قصير كذلك، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال {أو جاء أحد منكم} وهو غير جنب {من الغائط} أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره. كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له، فغضب وقال: كأنك ما تعرفني؟ فقال بلى والله! إني لأعرفك، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة.
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال: {أو لامستم النساء} أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا {فلم تجدوا ماء} أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره {فتيمموا} أي اقصدوا قصداً متعمداً {صعيداً} أي تراباً {طيباً} أي طهوراً خالصاً {فامسحوا}.
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة، وبينت السنة أن المراد جميع العضو، فقال: {بوجوهكم وأيديكم منه} أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً: {ما يريد الله} أي الغني الغنى المطلق {ليجعل عليكم} وأغرق في النفي بقوله: {من حرج} أي ضيق علماً منه بضعفكم، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم {ولكن يريد ليطهركم} أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وبامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه، عقلتم معناه أو لا، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن {وليتم نعمته} أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال {عليكم} لأجل تسهيلها، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به، إلا لمن لج طبعه في العوج، وتمادى في الغواية والجهل والبطر {لعلكم تشكرون} أي و فعل ذلك كله.
هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. وفي رواية: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل، فثنى رأسه في حجري راقداً. فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6]، وفي رواية: فأنزل الله آية التيمم {فتيمموا} فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة لهم، وفي رواية: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته" وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً، وجعل للمسلمين فيه بركة "وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكم ومزيد الامتنان به، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجنابة نص خاص، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه المناسبة بين آية الوضوء وما قبلها هو أن الحدثين اللذين هما سبب الطهارتين هما أثر الطعام والنكاح، فلولا الطعام لما كان الغائط الموجب للوضوء، ولولا النكاح لما كانت ملامسة النساء الموجبة للغسل، وأما المناسبة بين آية الميثاق وما قبلها فهي أن الله تعالى بعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعبادات والعادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة لله ولرسوله بقبول دينه الحق، لنقوم بها مخلصين."
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء. وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام.. إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد، ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه.. إنما هو يجيء في موضعه من السياق، ولحكمته في نظم القرآن.. إنها -أولا- لفتة إلى لون آخر من الطيبات.. طيبات الروح الخالصة.. إلى جانب طيبات الطعام والنساء.. لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله، في جو من الطهر والخشوع والنقاء.. فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة؛ استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان.. والتي بها يتكامل وجود "الإنسان". ثم اللفتة الثانية.. إن إحكام الطهارة والصلاة؛ كأحكام الطعام والنكاح؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب... كبقية الأحكام التالية في السورة... كلها عبادة لله. وكلها دين الله. فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا -في الفقه- على تسميته "بأحكام العبادات"، وما اصطلح على تسميته "بأحكام المعاملات"...
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج. ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم، لعلكم تشكرون).. والتطهير حالة واجبة للقاء الله -كما أسلفنا- وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا. فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه؛ ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء. ذلك أن الله -سبحانه- لا يريد أن يعنت الناس، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف. إنما يريد أن يطهرهم، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها.. فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم.
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا: (ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).. تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء. فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد، ليقول متفلسفة هذه الأيام: إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات، كما كان العرب البدائيون! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه. وجانب التطهر الروحي أقوى. لأنه عند تعذر استخدام الماء، يستعاض بالتيمم، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى.. وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات، وجميع البيئات، وجميع الأطوار، بنظام واحد ثابت، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطوار؛ في صورة من الصور، بمعنى من المعاني؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال. فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء. كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها، عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة؛ وإزالة كل عائق يمنع منها.. فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان.. كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية. إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء.. لقاء العبد بربه.. وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب.. إنها نداوة القلب، واسترواح الظل، وبشاشة اللقاء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذا جرينا على ما تحصحص لدينا وتمحّص: من أنّ سورة المائدة هي من آخر السور نزولاً، وأنّها نزلت في عام حجّة الوداع، جَزمنا بأنّ هذه الآية نزلت هنا تذكيراً بنعمة عظيمة من نعم التّشريع: وهي منّة شرع التيمّم عند مشقّة التطهُّر بالماء، فجزمنا بأنّ هذا الحكم كلّه مشروع من قبْل، وإنَّما ذُكر هنا في عداد النّعم الّتي امتنّ الله بها على المسلمين، فإنّ الآثار صحّت بأنّ الوضوء والغسل شرعا مع وجوب الصّلاة، وبأنّ التيمّم شرع في غزوة المريسيع سنة خمس أو ستّ. وقد تقدّم لنا في تفسير قوله تعالى: {يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} في سورة النّساء (43) الخلاف في أنّ الآية الّتي نزل فيها شرع التيمّم أهي آية سورة النّساء، أم آية سورة المائدة. وذكرنا هنالك أنّ حديث الموطأ من رواية مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس فيه تعيين الآية ولكن سَمّاها آية التيمّم، وأنّ القرطبي اختار أنّها آية النّساء لأنّها المعروفة بآية التيمّم، وكذلك اختار الواحدي في « أسباب النّزول»، وذكرنا أنّ صريح رواية عمرو بن حُريث عن عائشة: أنّ الآية الّتي نزلت في غزوة المريسيع هي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، كما أخرجه البخاري عن يحيى عن ابن وهب عن عمرو بن حريث عن عبد الرحمان بن القاسم، ولا يساعد مختارنا في تاريخ نزول سورة المائدة، فإن لم يكن ما في حديث البخاري سهواً من أحد رواتِه غير عبدِ الرحمان بن القاسم وأبِيهِ، أراد أن يذكر آية {يأيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتُم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون ولا جُنباً إلاّ عابري سبيل حتّى تغتسلوا}، وهي آية النّساء (43)، فذكر آية {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية. فتعيّن تأويله حينئذ بأن تكون آية {يأيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة} قد نزلت قبل نزول سورة المائدة، ثُمّ أعيد نزولها في سورة المائدة، أو أمر الله أن توضع في هذا الموضع من سورة المائدة، والأرجح عندي: أن يكون ما في حديث البخاري وهماً من بعض رواته لأنّ بين الآيتين مشابهة.
فالأظهر أنّ هذه الآية أريد منها تأكيد شرع الوضوء وشرع التيمّم خلفاً عن الوضوء بنصّ القرآن؛ لأنّ ذلك لم يسبق نزول قرآنٍ فيه ولكنّه كان مشروعاً بالسنّة. ولا شكّ أنّ الوضوء كان مشروعاً من قبل ذلك، فقد ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لم يصلّ صلاة إلاّ بوضوء. قال أبو بكر ابن العربي في « الأحكام» « لا خلاف بين العلماء في أنّ الآية مدنية، كما أنّه لا خلاف أنّ الوضوء كان مفعولاً قبل نزولها غير متلوّ ولذلك قال علماؤنا: إنّ الوضوء كان بمكّة سنّة، معناه كان بالسنّة. فأمّا حكمه فلم يكن قطّ إلاّ فرضاً.
وقد روى ابن إسحاق وغيره أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم لمّا فرض الله سبحانه عليه الصّلاة ليلة الإسراء ونزل جبريل ظُهْر ذلك اليوْم ليصلّي بهم فهمز بعقبه فانبعث ماء وتوضّأ معلِّماً له وتوضّأ هو معه فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا صحيح وإنْ كان لم يروه أهل الصّحيح ولكنّهم تركوه لأنّهم لم يحتاجوا إليه اهـ.
وفي « سيرة ابن إسحاق» ثُمّ انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجةَ فتوضّأ لها ليريها كيف الطُهور للصّلاة كما أراه جبريل اهـ. وقولهم: الوضوء سنّة روي عن عبد الله بن مسعود. وقد تأوّله ابن العربي بأنّه ثابت بالسنّة. قال بعض علمائنا: ولذلك قالوا في حديث عائشة: فنزلت آية التّيمّم؛ ولم يقولوا: آية الوضوء؛ لمعرفتهم إيَّاه قبل الآية.
فالوضوء مشروع مع الصّلاة لا محالة، إذ لم يذكر العلماء إلاّ شرع الصّلاة ولم يذكروا شرع الوضوء بعد ذلك، فهذه الآية قرّرت حكم الوضوء ليكون ثبوته بالقرآن. وكذلك الاغتسال فهو مشروع من قبل، كما شرع الوضوء بل هو أسبق من الوضوء؛ لأنّه من بقايا الحنيفية الّتي كانت معروفة حتّى أيّام الجاهليّة، وقد وضّحنا ذلك في سورة النّساء. ولذلك أجمل التّعبير عنه هنا وهنالك بقوله هنا {فاطَّهّروا}، وقوله هنالك {تغتسلوا} [النساء: 43]، فتمحّضت الآية لشرع التيمّم عوضاً عن الوضوء.
ومعنى {إذا قمتم إلى الصّلاة} إذا عزمْتم على الصّلاة، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل...
... وروى مالك في « الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السديُّ. فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة.
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط ب {إذا قمتم} فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة. والأمر ظاهر في الوجوب. وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري، ولم يذكر ذلك ابن حزم في « المحلّى» ولم أره لغير الطبرسي.
وقال بريدة بن أبي بردة: كان الوضوء واجباً على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد. وقال بعضهم: هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيفَ وهي مصدّرة بقوله: {يأيّها الّذين آمنوا}. والجمهور حملوا الآية على معنى « إذا قمتُم محدثين» ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء (43) المصدّرة بقوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى -إلى قوله- ولا جُنباً} الآية. وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضاً على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصّاً به غير داخل في هذه الآية، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة. وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره. والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء. وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصّلاة، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة ثمّ بيّن هذا الإجمال بقوله: {وإنْ كنتم مرضى -إلى قوله- أو جاء أحد منكم من الغائط -إلى قوله- فلم تجدوا ماء فتيمّموا} فجعل هذه الأشياء موجبة للتّيمّم إذا لم يوجد الماء، فعلم من هذا بدلالة الإشارة أنّ امتثال الأمر يستمرّ إلى حدوث حادث من هذه المذكورات، إمّا مانِعٍ من أصل الوضوء وهو المرض والسفر، وإمَّا رافع لحكم الوضوء بعد وقوعه وهو الأحداث المذكور بعضها بقوله: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، فإن وجد الماء فالوضوء وإلاّ فالتيمّم، فمفهوم الشرط وهو قوله: {وإن كنتم مرضى} ومفهوم النّفي وهو {فلم تجدوا ماء} تأويل بَيِّن في صرف هذا الظّاهر عن معناه بل في بيان هذا المجمل، وتفسير واضح لحمل ما فعله الخلفاء على أنّه لقصد الفضيلة لا للوجوب.
وما ذكره القرآن من أعضاء الوضوء هو الواجب وما زاد عليه سنّة واجبة. وحدّدت الآية الأيدي ببلوغ المرافق لأنّ اليد تطلق على ما بلغ الكوع وما إلى المرفق وما إلى الإبط فرفعت الآية الإجمال في الوضوء لقصد المبالغة في النّظافة وسكتت في التّيمّم فعلمنا أنّ السكوت مقصود وأنّ التيمّم لمّا كان مبناه على الرخصة اكتفى بصورة الفعل وظاهر العضو، ولذلك اقتصر على قوله: {وأيديكم} في التيمّم في هذه السورة وفي سورة النّساء. وهذا من طريق الاستفادة بالمقابلة، وهو طريق بديع في الإيجاز أهمله علماء البلاغة وعلماء الأصول فاحتفظ به وألحقه بمسائلهما.
وقد اختلف الأئمّة في أنّ المرافق مغسولة أو متروكة، والأظهر أنّها مغسولة لأنّ الأصل في الغاية في الحدّ أنّه داخل في المحدود. وفي « المدارك» أنّ القاضي إسماعيل بن إسحاق سئل عن دخول الحدّ في المحدود فتوقّف فيها. ثمّ قال للسائل بعد أيّام: قرأت « كتاب سيبويه» فرأيت أنّ الحدّ داخل في المحدود. وفي مذهب مالك: قولان في دخول المرافق في الغسل، وأوْلاهما دخولهما. قال الشيخ أبو محمد: وإدخالهما فيه أحوط لزوال تَكلُّف التحديد. وعن أبي هريرة: أنّه يغسل يديه إلى الإبطين، وتؤوّل عليه بأنّه أراد إطالة الغُرّة يوم القيامة. وقيل: تكره الزيادة.
وقوله: {وأرجلكم} قرأه نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوبُ بالنّصب عطفاً على {وأيديكم} وتكون جملة {وامسحوا برؤوسكم} معترضة بين المتعاطفين. وكأنّ فائدة الاعتراض الإشارة إلى ترتيب أعضاء الوضوء لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يدلّ على التّرتيب الوجودي، فالأرجل يجب أن تكون مغسولة؛ إذ حكمة الوضوء وهي النّقاء والوضاءة والتنظّف والتأهّب لمناجاة الله تعالى تقتضي أن يبالغ في غسل ما هو أشدّ تعرّضاً للوسخ؛ فإنّ الأرجل تلاقي غبار الطرقات وتُفرز الفضلات بكثرة حركة المشي، ولذلك كان النّبيء صلى الله عليه وسلم يأمر بمبالغة الغسل فيها، وقد نادَى بأعلى صوته للذي لم يُحسن غسل رجليه "وَيْلٌ للأعقاب من النّار "
وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بخفض {وأرجلكم}. وللعلماء في هذه القراءة تأويلات: منهم من أخذ بظاهرها فجعل حكمَ الرجلين المسح دون الغسل، وروي هذا عن ابن عبّاس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وقتادة. وعن أنس بن مالك أنّه بلغه أنّ الحجّاج خطب يوماً بالأهواز فذكر الوضوء فقال: « إنَّه ليس شيء من ابن آدم أقربَ مِن خبثه مِن قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما» فسمع ذلك أنس بن مالك فقال: صدق اللّهُ وكذب الحجّاج قال الله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم}. ورويت عن أنس رواية أخرى: قال نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل، وهذا أحسن تأويل لهذه القراءة فيكون مسحُ الرجلين منسوخاً بالسنّة، ففي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوماً يتوضّؤون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته « ويل للأعقاب من النّار» مرّتين. وقد أجمع الفقهاء بعد عصر التّابعين على وجوب غسل الرجلين في الوضوء ولم يشذّ عن ذلك إلاّ الإمامية من الشيعة، قالوا: ليس في الرجلين إلاّ المسح، وإلاّ ابن جرير الطبري: رأى التخيير بين الغسل والمسح، وجعَل القراءتين بمنزلة روايتين في الإخبار إذا لم يمكن ترجيح إحداهما على رأي من يرون التخيير في العمل إذا لم يعرف المرجّح.
واستأنس الشعبي لمذهبه بأنّ التيمّم يمسح فيه ما كان يغسل في الوضوء ويلغى فيه ما كان يمسح في الوضوء. ومن الذين قرأوا بالخفض من تأوّل المسح في الرجلين بمعنى الغسل، وزعموا أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً وهذا الإطلاق إن صحّ لا يصحّ أن يكون مراداً هنا لأنّ القرآن فرّق في التعبير بين الغسل والمسح.
وجملة {وإن كنتم جنباً فاطّهروا إلى قوله وأيديكم منه} مضى القول في نظيره في سورة النّساء بما أغنى عن إعادته هنا.
وجملة {مَا يريد الله ليجعل عليكم من حرج} تعليل لرخصة التيمّم، ونفي الإرادة هنا كناية عن نفي الجعل لأنّ المريد الّذي لا غالب له لا يحول دون إرادته عائق.
واللام في {ليجعل} داخلة على أن المصدرية محذوفةً وهي لام يكثر وقوعها بعد أفعال الإرادة وأفعال مادّة الأمر، وهي لام زائدة على الأرجح، وتسمّى لام أَنْ. وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُريد الله ليبيّن لكُم} في سورة النّساء (26)، وهي قريبة في الموقع من موقع لام الجحود.
والحرج: الضيق والشدّة، والحَرَجَة: البقعة من الشجر الملتفّ المتضايق، والجمع حَرَج. والحَرج المنفي هنا هو الحرج الحِسّي لو كلّفوا بطَهارة الماء مع المرض أو السفر، والحرجُ النفسي لو مُنِعوا من أداء الصلاة في حال العجز عن استعمال الماء لضرّ أو سفرٍ أو فقد ماء فإنّهم يرتاحون إلى الصّلاة ويحبّونها.
وقوله: {ولكن يريد ليطهّركم} إشارة إلى أنّ من حكمة الأمر بالغسل والوضوء التطهير وهو تطهير حسّي لأنّه تنظيف، وتطهير نفسي جعله الله فيه لمّا جعله عبادة؛ فإنّ العبادات كلّها مشتملة على عدّة أسرار: منها ما تهتدي إليه الأفهام ونعبر عنها بالحكمة؛ ومنها ما لا يعلمه إلاّ الله، ككون الظهر أربع ركعات، فإذا ذكرت حكم للعبادات فليس المراد أنّ الحكمَ منحصرة فيما علمناه وإنّما هو بعض من كلّ وظنّ لا يبلغ منتهى العلم، فلمّا تعذّر الماء عوّض بالتيمّم، ولو أراد الحرج لكلّفهم طلب الماء ولو بالثّمن أو ترك الصّلاة إلى أن يوجد الماء ثُمّ يقضون الجميع. فالتيمّم ليس فيه تطهير حسّي وفيه التّطهير النّفسي الذي في الوضوء لمّا جُعل التّيمّم بدلاً عن الوضوء، كما تقدّم في سورة النساء.
وقوله {وليتمّ نعمته عليكم} أي يكمل النّعم الموجودة قبل الإسلام بنعمة الإسلام، أو ويكمل نعمة الإسلام بزيادة أحكامه الرّاجعة إلى التزكيّة والتطهير مع التيْسير في أحوال كثيرة. فالإتمام إمّا بزيادة أنواع من النّعم لم تكن، وإمّا بتكثير فروع النّوع من النّعم.
وقوله: {لعلّكم تشكرون} أي رجاء شكركم إيّاه. جعل الشكر علّة لإتمام النّعمة على طريقة المجاز بأن استعيرت صيغة الرجاء إلى الأمر لقصد الحثّ عليه وإظهاره في صورة الأمر المستقرب الحصول.
وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم سبحانه فلا بد أن تعد نفسك لهذا اللقاء لأنها ليست مسألة طارئة فلا بد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني. إن الإعداد البدني يكون بالطهارة والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة، وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم، فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم، ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه، وإذا ما أراد الإنسان أن يلقي الله في الأوقات التي بين الصلوات وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله، لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة: (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب)...
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات. ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد، لذلك جعل الله الوضوء لشيء والجنابة لها شيء آخر، فعن الطعام ينشأ الأخبثان وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر، فكان ولا بد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر فقال:"وإن كنتم جنبا فاطهروا".
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ} ممن يتحرك الإيمان في حياتهم العمليّة، فلا يبقى مجرد فكرة في العقل ونبضةٍ في القلب وكلمة في اللسان، بل يتحول إلى حركةٍ في الواقع الإنساني في الحياة، وهذا هو النّهج الَّذي أراد الله لكم اتباعه كي تتبيّنوا ما تأخذون به أو تدعونه مما يصلح أموركم أو يبعدكم عما يفسدها،...
إنَّنا نفهم من ذلك كله أنَّ الإسلام الَّذي جعل الطهارة عبادة تتحرّك في الجوّ الصلاتي وفي كل الأجواء المتّصلة بالله، يؤكد أنّ للنظافة في تخطيطه التشريعي الدور الحيويّ الَّذي يمتد حتّى في نظافة كل ما يتصل بالإنسان في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وشهوته وغير ذلك. وهذه من مميزات الإسلام في تخطيطه التشريعي الَّذي يؤكد على حماية الإنسان من كل قذارة ماديّة تسيء إلى روحه وبدنه وحياة النّاس من حوله، أو قذارة روحيّة تسيء إلى روحه وأخلاقيته وسلوكه الفرديّ والمجتمعيّ، الأمر الَّذي يوحي بأنَّ الإنسان القذر بعيد عن الله في بدنه وروحه. أمّا التيمم، فإنَّه يمثّل البديل الإيحائيّ عن الوضوء والغسل عند عدم وجود الماء أو عدم التمكن من استعماله، حتَّى لا يبقى المكلَّف من دون بديل، فكان التراب أو الأرض هو الواجب الجديد الَّذي يوحي بالمعنى الروحيّ العباديّ، على أساس مسح الجبهة بالتراب، وكذلك الكفين، ما يدل على الخضوع لله والتواضع له مع ما يمثِّلهُ اشتراط الصعيد بالطهارة من إيحاءات الطهارة، واشتراط نيّة القربة فيه الذي يجعل الإنسان يفكر بأنَّ الله خلقه من تراب ليتعبّد إلى الله في خلقه، ليعبّر ذلك عن إيحاءٍ روحيّ ينساب في وجدانه، ليدخل إلى الصلاة في طهارةٍ ترابيّةٍ عباديّةٍ تنفتح به على سرِّ وجوده، ليتكامل في موقفه بين يدي ربِّه في إحساسه الروحيّ بالأرض الّتي جاء الحديث النبويّ الشريف فيها: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً». ما يعني بأنَّها رمز الطهارة كما هي موضع السجود. والله العالم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويجب هنا الانتباه إلى أن جملة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) مع أنّها وردت في أواخر الآيات التي اشتملت على أحكام الغسل والوضوء والتيمم، إِلاّ أنّها تبيّن قانوناً عامّاً معناه أنّ أحكام الله ليست تكاليف شاقّة أبداً، ولو كان في أي حكم شرعي العسر والحرج لأي فرد لسقط التكليف عن هذا الفرد بناء على الاستثناء الوارد في الجملة القرآنية الأخيرة من الآية موضوع البحث، ولهذا لو كان الصوم يشكل مشقة وعناء على أي فرد بسبب مرض أو شيخوخة أو ما شابه ذلك، لسقط أداؤه عن هذا الفرد وارتفع التكليف عنه، بناء على هذا الدليل نفسه. ولا يخفي أيضاً أنّ هناك من الأحكام الإِلهية ما يظهر فيها الصعوبة والمشقة بذاتها مثل حكم الجهاد، إِلاّ أنّه ولدى مقارنة المصالح التي تتحقق بالجهاد مع الصعوبات والمشاق التي فيه، تترجح كفة المصالح وأهميتها فلا تكون المشاق أمامها شيئاً يذكر، وقد سمي القانون الذي أثبتته الجملة القرآنية الأخيرة بقانون «لا حرج» وهو مبدأ أساسي يستخدمه الفقهاء في أبواب مختلفة ويستنبطون منه أحكاماً كثيرة.