{ 99 - 100 } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ْ } بأن يلهمهم الإيمان ، ويوزع قلوبهم للتقوى ، فقدرته صالحة لذلك ، ولكنه اقتضت حكمته أن كان بعضهم مؤمنين ، وبعضهم كافرين .
{ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ْ } أي : لا تقدر على ذلك ، وليس في إمكانك ، ولا قدرة لغير الله{[419]} [ على ]{[420]} شيء من ذلك .
ثم أضاف - سبحانه - إلى هذه التسلية لرسوله - صلى الله عليه وسلم - تسلية أخرى فقال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً . . . } ومفعول المشيئة محذوف والتقدير :
ولو شاء ربك - يا محمد - إيمان أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا دون أن يتخلف منهم أحد ، ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، لأنه مخالف للحكة التي عليها أساس التكوين والتشريع ، والإِثابة والمعاقبة ، فقد اقتضت حكمته - سبحانه - أن يخلق الكفر والإِيمان ، وأن يحذر من الكفر ويحض على الإِيمان ، ثم بعد ذلك من كفر فعليه تقع عقوبة كفره ، ومن آمن فله ثواب إيمانه .
والهمزة في قوله - سبحانه - { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } للاستفهام الإِنكارى ، والفاء للتفريع .
والمراد بالناس : المصرين على كفرهم وعنادهم .
والمعنى : تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنقاذها لنفذناها ، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تكهر الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإِيمان ؟
لا ، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعا ، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه .
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية أخرى للرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفع لما يضيق به صدره ، من إعراض بعض الناس عن دعوته .
{ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم } بحيث لا يشذ منهم أحد . { جميعا } مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه ، وهو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين ، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة ، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر . { أفأنت تُكره الناس } بما لم يشأ منهم . { حتى يكونوا مؤمنين } وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء وإيلاؤها حرف الاستفهام للإنكار ، وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل فلا يمكن تحصيله بالإكراه عليه فضلا عن الحث والتحريض عليه ؛ إذ روي أنه كان حريصا على إيمان قومه شديد الاهتمام به فنزلت . ولذلك قرره بقوله : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } .
المعنى أن هذا الذي تقدم إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم ، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمناً فلا تأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك ، وادع ولا عليك فالأمر محتوم ، أفتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره .
قال القاضي أبو محمد : فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي ادع وقاتل من خالفك ، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة وقالت فرقة : المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان ، وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام وأنها منسوخة بآية السيف ، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة{[6234]} ، وقوله تعالى : { كلهم جميعاً } تأكيد وهو من فصيح الكلام ، و { جميعاً } حال مؤكدة ، ونحوه قوله { لا تتخذوا إلهين اثنين }{[6235]} .
عطف على جملة { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون } [ يونس : 97 ] لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما لقيه من قومه . وهذا تذييل لما تقدم من مشابهة حال قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم بحال قوم نوح وقوم موسى وقوم يونس . وهذه الجملة كالمقدمة الكلية للجملة التي بعدها ، وهي جملة : { أفأنت تكره } المفرعة على الجملة الأولى ، وهي المقصود من التسلية .
والناس : العرب ، أو أهل مكة منهم ، وذلك إيماء إلى أنهم المقصود من سوق القصص الماضية كما بيّنّاه عند قوله تعالى : { واتل عليهم نبأ نوح } [ يونس : 71 ] .
والتأكيد ب { كلهم } للتنصيص على العموم المستفاد من ( مَن ) الموصولة فإنها للعموم ، والتأكيد ب { جميعاً } لزيادة رفع احتمال العموم العرفي دون الحقيقي .
والمعنى : لو شاء الله لجعل مدارك الناس متساوية منساقة إلى الخير ، فكانوا سواء في قبول الهدى والنظر الصحيح .
و ( لو ) تقتضي انتفاء جوابها لانتفاء شرطها . فالمعنى : لكنه لم يشأ ذلك ، فاقتضت حكمته أن خلق عقول الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان ، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خلقة عقلها ما يهيئها للنظر الصحيح وحسن الوعي لدعوة الخير ومغالبة الهدى في الاعتراف بالحق .
وجملة : { أفأنت تكره الناس } الخ مفرّعة على التي قبلها ، لأنّه لما تقرر أن الله لم تتعلق مشيئته باتفاق الناس على الإيمان بالله تفرع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانهم جميعاً .
والاستفهام في { أفأنت تُكره الناس } إنكاري ، فنزّل النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة منزلة من يحاول إكراههم على الإيمان حتى ترتب على ذلك التنزيل إنكاره عليه .
ولأجل كون هذا الحرص الشديد هو محل التنزيل ومصب الإنكار وقع تقديم المسند إليه على المسند الفعلي ، فقيل : { أفأنت تُكره الناس } دون أن يقال : أفتكره الناس ، أو أفأنت مُكره الناس ، لأن تقديم المسند إليه على مثل هذا المسند يفيد تقوي الحكم فيفيد تقوية صدور الإكراه من النبي صلى الله عليه وسلم لتكون تلك التقوية محل الإنكار . وهذا تعريض بالثناء على النبي ومعذرة له على عدم استجابتهم إياه ، ومَن بلغ المجهود حق له العذر .
وليس تقديم المسند إليه هنا مفيداً للتخصيص ، أي القصر ، لأن المقام غير صالح لاعتبار القصر ، إذ مجرد تنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من يستطيع إكراه الناس على الإيمان كاف في الإشارة إلى تشبيه حرصه على إيمانهم بحرص من يستطيع إكراههم عليه . فما وقع في « الكشاف » من الإشارة إلى معنى الاختصاص غير وجيه ، لأن قرينة التقوي واضحة كما أشار إليه السكاكي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.