مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ} (99)

قوله تعالى { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون }

اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين ، وبعد اتباعه إن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم ، ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ، ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات ، ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل ، وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد ، لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته ، فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى ، فقالوا كلمة ( لو ) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم } يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل ، أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء ، أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه ، ولكنه ما فعل ذلك ، لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائي : ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك ، أن يعرفهم اضطرارا أنهم لو حاولوا تركه ، حال الله بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهرا لم يكن تركه لذلك الفعل سببا لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا .

واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه : الأول : أن الكافر كان قادرا على الكفر فهل كان قادرا على الإيمان ، أو ما كان قادرا عليه ؟ فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل ، وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل وهو محال ، وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجبا لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام . الثاني : أن قوله : { ولو شاء ربك } لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة ، فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظما ، فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع . الثالث : المراد بهذا الإلجاء ، إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، ثم يأتي بالإيمان عندها . وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم . والأول باطل ، لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله :

{ إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } وقال أيضا : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا .

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد ، والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى .