استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره ، فقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة ، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل ، وأجاب الجبائيُّ ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولكنَّهُ ما فعل ذلك ؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ، ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائيُّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك ، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه .
أحدها : أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر ، ولم يقدر على الإيمان ، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال : إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر ؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر ، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين ، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ ، وهو باطلٌ ، وإن توقف على مرجح ، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل ، وهو محالٌ ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام .
ثانيها : أن قوله : " ولو شاءَ ربُّكَ " لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة ، فبيَّن تعالى ؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } فوجب أن يكون المرادُ منه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع .
وثالثها : أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأولُ باطلٌ ؛ لأنه تعالى قال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ ، وإن ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب . ثم قال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنه : لا قدرة لك على التَّصرف في أحد .
قوله : " أفأنت " يجوز في " أنت " وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده ، وهو الأرجحُ ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى .
والثاني : أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره ، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري . وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه ، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو ؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره . و " حتَّى " غايةٌ للإكراه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.