اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ} (99)

فصل

استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره ، فقوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة ، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة ، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل ، وأجاب الجبائيُّ ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء ، أي : لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه ، ولكنَّهُ ما فعل ذلك ؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ، ولا يفيده فائدة ، ثم قال الجبائيُّ : ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك ، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك ، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه .

والجواب من وجوه :

أحدها : أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر ، ولم يقدر على الإيمان ، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر ، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال : إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر ؛ فوجب أن يقال : أراد منه الكفر ، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين ، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ ، وهو باطلٌ ، وإن توقف على مرجح ، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد ، أو من الله ، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل ، وهو محالٌ ، وإن كان من الله ، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر ، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام .

ثانيها : أن قوله : " ولو شاءَ ربُّكَ " لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء ؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة ، فبيَّن تعالى ؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان ، ثم قال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } فوجب أن يكون المرادُ منه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام ، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع .

وثالثها : أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ، فيأتي بالإيمان عندها ، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم ، والأولُ باطلٌ ؛ لأنه تعالى قال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] وقال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الأنعام : 111 ] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ ، وإن ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان ، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم ، فيصير المعنى : ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم ، ثم يقال : لكنه ما خلق الإيمان فيهم ، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم ، وهو المطلوب . ثم قال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي : أنه : لا قدرة لك على التَّصرف في أحد .

قوله : " أفأنت " يجوز في " أنت " وجهان ، أحدهما : أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده ، وهو الأرجحُ ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى .

والثاني : أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره ، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري . وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه ، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو ؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره . و " حتَّى " غايةٌ للإكراه .