{ 21 - 23 } { وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا }
أي : قال المكذّبون للرسول المكذبون بوعد الله ووعيده الذين ليس في قلوبهم خوف الوعيد ولا رجاء لقاء الخالق :
{ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } أي : هلا نزلت الملائكة تشهد لك بالرسالة وتؤيّدك عليها أو تنزل رسلا مستقلين ، أو نرى ربنا فيكلمنا ويقول : هذا رسولي فاتبعوه ؟ وهذا معارضة للرسول بما ليس بمعارض بل بالتكبر والعلوّ والعتوّ .
{ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ } حيث اقترحوا هذا الاقتراح وتجرأوا هذه الجرأة ، فمن أنتم يا فقراء ويا مساكين حتى تطلبوا رؤية الله وتزعموا أن الرسالة متوقف ثبوتها على ذلك ؟ وأي كبر أعظم من هذا ؟ .
{ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } أي : قسوا وصلبوا عن الحق قساوة عظيمة ، فقلوبهم أشد من الأحجار وأصلب من الحديد لا تلين للحق ، ولا تصغى للناصحين فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا تذكير ولا اتبعوا الحق حين جاءهم النذير ، بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم وآيات الله البينات بالإعراض والتكذيب والمعارضة ، فأي عتوّ أكبر من هذا العتوّ ؟ " ولذلك بطلت أعمالهم واضمحلّت ، وخسروا أشد الخسران ، وحرموا غاية الحرمان .
ثم حكت السورة للمرة الرابعة تطاول المشركين وجهالاتهم ، وردت عليهم بما يخزيهم ، وبينت ما أعد لهم من عذاب فى يوم لا ينفعهم فيه الندم .
قال - تعالى - : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ . . . } .
قال الفخر الرازى : اعلم أن قوله - تعالى - : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } هو الشبهة الرابعة لمنكرى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحاصلها : لماذا لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محق فى دعواه ، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا . .
والرجاء : الأمل والتوقع لما فيه خير ونفع . وفسره بعضهم بمجرد التوقع الذى يشمل ما يسر وما يسوء ، وفسره بعضهم هنا بأن المراد به : الخوف .
والمراد بلقائه - سبحانه - : الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء لأنهم ينكرون ذلك ، ولا يبالون به ، ولا يخافون أهواله . قالوا - على سبيل التعنت والعناد- :
هلا أنزل علينا الملائكة لكى يخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم أو هلا نرى ربنا جهرة ومعاينة ليقول لنا إن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول من عندى !
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { . . أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } أى : ليشهدوا بصدقك ، وقد رد الله - تعالى - عليهم بقوله : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } .
والعتو : تجاوز الحد فى الظلم والعدوان . يقال عتا فلان يعتو عتوا ، إذا تجاوز حده فى الطغيان .
أى : والله لقد أضمر هؤلاء الكافرون الاستكبار عن الحق فى أنفسهم المغرورة ، وتجاوزوا كل حد فى الطغيان تجاوزا كبيرا ، حيث طلبوا مطالب هى أبعد من أن ينالوها بعد الأرض عن السماء . وصدق الله إذ يقول : { . . . إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ . . } ووصف - سبحانه - عتوهم بالكبر للدلالة على إفراطهم فيه ، وأنهم قد وصلوا فى عتوهم إلى الغاية القصوى منه .
{ وقال الذين لا يرجون } لا يأملون { لقاءنا } بالخير لكفرهم بالبعث ، أولا يخافون { لقاءنا } بالشر على لغة تهامة ، واصل اللقاء الوصول إلى الشيء ومنه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي ، والمراد به الوصول إلى جزائه ويمكن أن يراد به الرؤية على الأول . { لولا } هلا . { أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل فيكونوا رسلا إلينا . { أو نرى ربنا } فيأمرنا بتصدقيه واتباعه . { لقد استكبروا في أنفسهم } أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله في أكمل أوقاتها وما هو أعظم من ذلك . { وعتوا } وتجاوزوا الحد في الظلم . { عتوا كبيرا } بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها ، واقترحوا لأنفسهم الخبيثة ماسدت دونه مطامح النفوس القدسية ، واللام جواب قسم محذوف وفي الاستئناف بالجملة حسن وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم كقوله :
ثم أخبر عن مقالة الكفار { لولا أنزل علينا الملائكة } الآية ، وقوله { يرجون } قال أبو عبيدة وقوم معناه يخافون والشاهد لذلك قول الهذلي : [ الطويل ]
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها . . . وخالفها في بيت نوب عوامل{[8805]}
قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر لي أن الرجاء في هذه الآية والبيت على بابه لأن خوف لقاء الله تعالى مقترن أبداً برجائه ، فإذا نفي الرجاء عن أحد فإنما أخبر عنه أنه مكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء ، وفي ذكر الكفار بنفي الرجاء تنبيه على غبطة ما فاتهم من رجاء الله تعالى ، وأما بيت الشعر المذكور فمعناه عندي لم يرج دفعها ولا الانفكاك عنها فهو لذلك يوطن على الصبر ويجد في شغله ، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا أنفسهم وسألوا ما ليسوا به بأهل ، { وعتوا } ، معناه صعبوا عن الحق واشتدوا ، ويقال عتو وعتي على الأصل ، وعتي معلول باستثقال الضم على الواو فقلبت ياء ثم كسر ما قبلها طلب التناسب{[8806]} .
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام ، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب { الذين لا يَرجُون لقاءنا } وعنون عليهم في المقالات السابقة ب { الذين كفروا } [ الفرقان : 4 ] وب { الظالمون } [ الفرقان : 8 ] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض ، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا ، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا ، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة ، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم .
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل ، فمن أجل ذلك أيضاً جعل قولهم ذلك طريقاً لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله } في سورة يونس ( 15 ) .
و { لولا } حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة ، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به ، يعنون أنه إن كان صادقاً فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم .
ومعنى : { لا يرجون } لا يظنون ظنّاً قريباً ، أي يَعُدّون لقاء الله محالاً . ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم ، ولذلك عقب بقوله : { لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل .
والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم . والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في « مجالسه » والقالي في « أماليه » :
أَلاَ يَا سَنا برقٍ على قُلَلِ الحِمى *** لَهِنَّك مِنْ برقٍ علي كريمُ
فإن قوله : من برق ، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب .
والاستكبار : مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب .
و { فِي } للظرفية المجازية ؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها ، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى : { وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون } [ الذاريات : 21 ] .
ويجوز أن تكون { في } للتعليل كما في الحديث " دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها " الحديث ، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم . وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك ؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية .
والعُتوّ : تجاوز الحد في الظلم ، وتقدم في قوله تعالى : { وعَتوا عن أمر ربّهم } في الأعراف ( 77 ) . وإنما كان هذا ظلماً لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية .
وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .