{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا } أي : يكذبونك ويكذبون ما أرسلت به ، { قُلْ } لهم -إن طلبوا على ذلك شهيدا : { كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } وشهادته بقوله وفعله وإقراره ، أما قوله فبما أوحاه الله إلى أصدق خلقه مما يثبت به رسالته .
وأما فعله فلأن الله تعالى أيد رسوله ونصره نصرا خارجا عن قدرته وقدرة أصحابه وأتباعه وهذا شهادة منه له بالفعل والتأييد .
وأما إقراره ، فإنه أخبر الرسول عنه أنه رسوله ، وأنه أمر الناس باتباعه ، فمن اتبعه فله رضوان الله وكرامته ، ومن لم يتبعه فله النار والسخط وحل له ماله ودمه والله يقره على ذلك ، فلو تقول عليه بعض الأقاويل لعاجله بالعقوبة .
{ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } وهذا شامل لكل علماء أهل الكتابين ، فإنهم يشهدون للرسول من آمن واتبع الحق ، صرح بتلك الشهادة التي عليه ، ومن كتم ذلك فإخبار الله عنه أن عنده شهادة أبلغ من خبره ، ولو لم يكن عنده شهادة لرد استشهاده بالبرهان ، فسكوته يدل على أن عنده شهادة مكتومة .
وإنما أمر الله باستشهاد أهل الكتاب لأنهم أهل هذا الشأن ، وكل أمر إنما يستشهد فيه أهله ومن هم أعلم به من غيرهم ، بخلاف من هو أجنبي عنه ، كالأميين من مشركي العرب وغيرهم ، فلا فائدة في استشهادهم لعدم خبرتهم ومعرفتهم والله أعلم .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صادق في رسالته فقال : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } .
أى : لست مرسلا من عند الله - تعالى - ، وقد حكى - سبحانه - قولهم الباطل هذا بصيغة الفعل المضارع ، للإِشارة إلى تكرار هذا القول منهم ، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود .
وقوله : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أمر من الله - تعالى - لرسوله بأن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم .
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل { كفى } في المعنى ، مزيدة للتأكيد ، وقوله { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } معطوف على اسم الجلالة ، والمراد بالموصول وبالكتاب الجنس .
والمعنى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - تكفى شهادة الله بينى وبينكم ، فهو يعلم صدق دعوتى ، ويعلم كذبكم ، ويعلم ذلك - أيضا - كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة فإنها قد بشرت برسالتى ، وجاءت أوصافى فيها . . .
وممن شهد لى بالنبوة ورقة بن نوفل ، فأنتم تعلمون أنه قال لى عندما أخبرته بما حدث لى في غار حراء : " هذا هو الناموس - أى الوحى - الذي أنزله الله على موسى " . . .
وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب : المسلمون ، وبالكتاب : القرآن ، والأول أرجح لشموله لكل من كان عنده بالكتب السماوية السابقة ، إذ هذا الشمول أكثر دلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه .
يقول : ويكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : { لَسْتَ مُرْسَلا } أي : ما أرسلك الله ، { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : حسبي الله ، وهو الشاهد علي وعليكم ، شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة ، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان .
وقوله : { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } قيل : نزلت في عبد الله بن سلام قاله مجاهد .
وهذا القول غريب ؛ لأن هذه الآية مكية ، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال : هم من{[15729]} اليهود والنصارى .
وقال قتادة : منهم ابن سلام ، وسلمان ، وتميم الداري .
وقال مجاهد - في رواية - عنه : هو الله تعالى .
وكان سعيد بن جُبَيْر ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ، ويقول : هي مكية ، وكان يقرؤها : " ومن عنده عُلِمَ الكتابُ " ، ويقول : من عند الله .
وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري .
وقد روى ابن جرير من حديث ، هارون الأعور ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها : " ومن عنده عُلِمَ الكتابُ " ، ثم قال : لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات{[15730]} .
قلت : وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده ، من طريق هارون بن موسى هذا ، عن سليمان بن أرقم - وهو ضعيف - عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه مرفوعا كذلك . ولا يثبت . {[15731]} والله أعلم
والصحيح في هذا : أن { وَمَنْ عِنْدَهُ } اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة ، من بشارات الأنبياء به ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية[ الأعراف : 156 ، 157 ] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } الآية : [ الشعراء : 197 ] . وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل : أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة ، وقد ورد في حديث الأحبار ، عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة .
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب " دلائل النبوة " ، وهو كتاب جليل : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا عَبْدان بن أحمد ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن حمزة بن يوسف ، بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه ، أن عبد الله بن سلام قال لأحبار اليهود : إني أردت أن أجَدد{[15732]} بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عهدا{[15733]} فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج ، فوجد رسول الله بمنى ، والناس حوله ، فقام مع الناس ، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنت عبد الله بن سلام ؟ " قال : قلت : نعم . قال : " ادن " . فدنوت منه ، قال : " أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام ، أما تجدني في التوراة رسول الله ؟ " فقلت له : انعت ربنا ، قال : فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص ] فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة فكتم إسلامه ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجُدُّها ، فألقيت نفسي ، فقالت أمي : [ لله ]{[15734]} أنت ، لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة . فقلت : والله لأني أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ بُعث{[15735]} . وهذا حديث غريب جدا .
عطف على ما تضمنته جملة { وقد مكر الذين من قبلهم } [ الرعد : 42 ] من التعريض بأن قولهم : { لولا أنزل عليه آية من ربه } [ سورة الأنعام : 37 ] ضَرْب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول ، مظهرين أنهم في شك من صدقه وهم يبطنون التصميم على التكذيب . فذكرت هذه الآيةُ أنهم قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا : { لست مرسلاً } .
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق ، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى : { ويصنع الفلك } [ سورة هود : 38 ] وقوله : { يجادلنا في قوم لوط } [ سورة هود : 11 ] .
ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم .
وقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع .
ولما كانت الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم .
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود عليه السلام { إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] .
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كفى } في المعنى للتأكيد وأصل التركيب : كفى اللّهُ . و { شهيداً } حال لازمة أو تمييز ، أي كفى الله من جهة الشاهد .
{ ومن عنده علم الكتاب } معطوف على اسم الجلالة .
والموصول في { ومن عنده علم الكتاب } يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة . والمعنى : وكل من عندهم علم الكتاب . وإفراد الضمير المضاف إليه { عِنْدَ } لمراعاة لفظ { من } . وتعريف { الكتاب } تعريف للعهد ، وهو التوراة ، أي وشهادة علماء الكتاب . وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة .
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معيّناً ، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام كما في حديث بدء الوحي في الصحيح . وكان ورقة منفرداً بمعرفة التوراة والإنجيل . وقد كان خبر قوله للنبيء صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفاً عند قريش .
فالتعريف في { الكتاب } تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل .
وقيل : أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمهِ المدينة . ويبعده أن السورة مكية كما تقدم .
ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجدانهم البشارة بنبيء خاتم للرسل صلى الله عليه وسلم ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقاً لسنن الشرائع الإلهية ومفسراً للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به . ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب { من عنده علم الكتاب } دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم . قال تعالى : { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } [ سورة الشعراء : 97 ] .