تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية ، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه ، ولا مشارك له في خلقها{[941]} .


[941]:- في ب: خلقه.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظاهر كمال قدرته وحكمته فقال : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } .

وقوله : { كُلَّ } منصوب بفعل يفسره ما بعده ، والقدر : ما قدره الله - تعالى - على عباده ، حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .

أى : إنا خلقنا كل شىء فى هذا الكون ، بتقدير حكيم ، وبعلم شامل ، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب ، كما قال - تعالى - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وكما قال - سبحانه - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وكما قال - عز وجل - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة ، على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه بالأشياء قبل كونها . وردوا بهذه الآية وبما شاكلها ، وبما ورد فى معناها من أحاديث على الفرقة القدرية ، الذين ظهروا فى أواخر عصر الصحابة .

ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجه عن ابى هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .

والباء فى قوله { بِقَدَرٍ } للملابسة . أى : خلقناه ملتبسا بتقدير حكيم ، اقتضته سنتنا ومشيئتنا فى وقت لا يعلمه أحد سوانا .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

وقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، كقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 2 ] وكقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها ، وردّوا بهذه الآية وبما {[27800]} شاكلها من الآيات ، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا {[27801]} في أواخر عصر الصحابة . وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح " كتاب الإيمان " من " صحيح البخاري " رحمه الله ، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة :

قال أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان الثوري ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هُرَيرَة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .

وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ، من حديث وكيع ، عن سفيان الثوري ، به {[27802]} .

وقال البزار : حدثنا عمرو بن على ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا يونس بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : ما نزلت هذه الآيات : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، إلا في أهل القدر{[27803]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل{[27804]} بن صالح الأنطاكي ، حدثني قُرَّة بن حبيب ، عن كنانة حدثنا جرير بن حازم ، عن سعيد بن عمرو بن جَعْدَةَ ، عن ابن زُرَارة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، قال : " نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله " {[27805]} .

وحدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزَري ، عن عبد الملك بن جُرَيْج ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، قال : أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم ، وقد ابتلّت أسافل ثيابه ، فقلت له : قد تُكُلّم في القدر . فقال : أو [ قد ] {[27806]} فعلوها ؟ قلت : نعم . قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، أولئك شرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تُصَلّوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين .

وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، وفيه مرفوع ، فقال :

حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، عن بعض إخوته ، عن محمد بن عُبَيد المكي ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قيل له : إن رجلا قدم علينا يُكَذّب بالقدر فقال : دلوني عليه - وهو أعمى - قالوا : وما تصنع به يا أبا عباس قال : والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضَّنّ أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها ، فإني{[27807]} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كأني بنساء بني فِهْر يَطُفْنَ بالخزرج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك هذه الأمة ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قَدّر خيرا ، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا " {[27808]} .

ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة ، عن الأوزاعي ، عن العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد ، فذكر مثله{[27809]} . لم يخرجوه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو صخر ، عن نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه{[27810]} ، فكتب إليه عبد الله بن عمر : إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ، فإياك أن تكتب إليّ ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر " .

رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، به{[27811]} .

وقال أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون : لا قدر . إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " {[27812]} .

لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه .

وقال أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رِشْدِين ، عن أبي صخر حُمَيد بن زياد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون في هذه الأمة مسخ ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية " .

ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث أبي صخر حميد بن زياد ، به {[27813]} . وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .

وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن الطباع ، أخبرني مالك ، عن زياد بن سعد ، عن عمرو بن مسلم ، عن طاوس اليماني قال : سمعت ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدرن حتى العجز والكيس " .

ورواه مسلم منفردا به ، من حديث مالك {[27814]} {[27815]} .

وفي الحديث الصحيح : " استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قَدَّرُ الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " {[27816]} .

وفي حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ، لم يكتبه الله لك ، لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يكتبه الله عليك ، لم يضروك . جفّت الأقلام وطويت الصحف " {[27817]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار ، حدثنا الليث{[27818]} ، عن معاوية ، عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه ، أوصني واجتهد لي . فقال : أجلسوني . فلما أجلسوه قال : يا بني ، إنك لما تطعم طعم الإيمان ، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره . قلت : يا أبتاه ، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك . يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم . ثم قال له : اكتب . فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " يا بني ، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار{[27819]} .

ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البَلْخِي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عبد الواحد بن سليم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به . وقال : حسن صحيح غريب{[27820]} .

وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعِي بن خِرَاش ، عن رجل ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره " .

وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شُمَيْل ، عن شعبة ، عن منصور ، به {[27821]} . ورواه من حديث أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن {[27822]} منصور ، عن ربعي ، عن علي ، فذكره وقال : " هذا عندي أصح " . وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك ، عن منصور ، عن ربعي ، عن علي ، به {[27823]} .

وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره ، عن أبي{[27824]} هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " زاد ابن وهب : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [ هود : 7 ] . ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب{[27825]} .


[27800]:- (2) في م: "وما".
[27801]:- (3) في أ: "سعوا".
[27802]:- (1) المسند (2/444) وصحيح مسلم برقم (2656) وسنن الترمذي برقم (3290) وسنن ابن ماجة برقم (83).
[27803]:- (2) مسند البزار برقم (2265) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (7/117): "فيه يونس بن الحارث، وثقه ابن معين وابن حيان وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".
[27804]:- (3) في أ: "سهيل".
[27805]:- (4) رواه الطبراني في المعجم الكبير (5/276) من طريق قرة بن حبيب عن جرير بن حازم - وأظن أن كنانة ساقط منه - عن سعيد بن عمرو به.
[27806]:- (5) زيادة من م.
[27807]:- (6) في أ: "قال".
[27808]:- (7) المسند (1/330).
[27809]:- (8) المسند (1/330).
[27810]:- (1) في م: "فكاتبه".
[27811]:- (2) المسند (2/90) وسنن أبي داود برقم (4613).
[27812]:- (3) المسند (2/86).
[27813]:- (4) المسند (2/108) وسنن الترمذي برقم (2152) وسنن ابن ماجه برقم (4061).
[27814]:- (5) في م: "ورواه مسلم من حديث مالك منفردا به".
[27815]:- (6) المسند (2/110) وصحيح مسلم برقم (2655).
[27816]:- (7) رواه مسلم في صحيحه برقم (2664) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
[27817]:- (8) رواه الإمام أحمد في مسنده (1/293).
[27818]:- (1) في م: "ليث".
[27819]:- (2) المسند (5/317).
[27820]:- (3) سنن الترمذي برقم (3319).
[27821]:- (4) سنن الترمذي برقم (2145) ورواه أحمد في مسنده (1/133) عن وكيع والحاكم في مستدركه (1/33) عن أبي حذيفة، كلاهما عن سفيان الثوري به.وقد رجح هذه الرواية الدارقطني في العلل (3/196) فقال: "حديث شريك وورقاء وجرير وعمرو بن أبي قيس عن منصور عن ربعي عن علي. وخالفهم سفيان الثوري وزائدة أبو الأحوص وسليمان التيمي فرووه: عن منصور عن ربعي عن رجل من بني راشد عن علي وهو الصواب".
[27822]:- (5) في م: "بن".
[27823]:- (6) سنن الترمذي برقم (2145) وسنن ابن ماجه برقم (81).
[27824]:- (7) في أ: "أم".
[27825]:- (8) صحيح مسلم برقم (2653) وسنن الترمذي برقم (2156).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

{ إنا كل شيء خلقناه بقدر } أي إنا خلقنا كل شيء مقدرا مرتبا على مقتضى الحكمة ، أو مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده ، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبرا لا نعتا ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر ، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإضمار لما فيه من النصوصية على المقصود .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ} (49)

واختلف الناس في قوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، فقرأ جمهور الناس : «إنا كلَّ » بالنصب ، والمعنى : خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، وليست { خلقناه } في موضع الصفة لشيء ، بل هو فعل دال على الفعل المضمر ، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق ، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات . وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح : «إنا كلُّ » بالرفع على الابتداء ، والخبر : { خلقناه بقدر } .

قال أبو حاتم : " هذا هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة " {[10790]} ، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع ، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق ، و : { خلقناه } على هذا ليست صفة لشيء ، وهذا مذهب أهل السنة ، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين{[10791]} ، وقالت القدرية وهم الذين يقولون : لا قدر ، والمرء فاعل وحده أفعاله-{[10792]} . القراءة «إنا كلُّ شيء خلقناه » برفع «كلُّ » : و { خلقناه } في موضع الصفة ب «كلَّ » ، أي أن أمرنا وشأننا كلُّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك ، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية .

وقال ابن عباس : إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ، ويقولون : المرء يخلق أفعاله ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي ؟ .

وقال أبو هريرة : خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية{[10793]} ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ؟ أم في شيء قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى »{[10794]} ، وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا ، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني »{[10795]} .


[10790]:يرجح أبو الفتح الرفع لأنه من مواضع الابتداء، فهو عنده كقولك: زيد ضربته، فـ"كل شيء خلقناه بقدر} جملة وقعت خبرا عن مبتدأ، ثم دخلت[إن] فنصبت الاسم وبقي الخبر على تركيبه الأصلي. وقد اختار محمد بن يزيد النصب، قال: التقدير: إنا فعلنا كذا، فالفعل منتظر بعد"إنا"، فلما دل ما قبله عليه حُسن إضماره، ورد أبو الفتح بأنه لا معنى لِتوقع الفعل؛ لأن أصل خبر المبتدإ أن يكون اسما، ومع ذلك فإن أبا الفتح ابن جني يقول إن الجماعة على قراءة النصب، ومما يقويها أن"إن" تطلب الفعل فهي أولى به، والنصب أدل على العموم في أن المخلوقات لله تعالى،ولو حذفت[خلقناه] المفسرة وأُظهرت المضمرة لصار الكلام: إنا خلقنا كل شيء بقدر، ولا يصح أن يكون[خلقناه] صفة لـ[شيء] لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.والخلاف في أساسه نحوي يرجع إلى الصناعة، والأفضل أن نختار ما يتفق مع المعنى الصحيح.
[10791]:يقولون: إن الله تعالى قدّر الأشياء بمعنى أنه علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث شيء إلا وهو صادر عن علمه سبحانه وعن قدرته وإرادته، والخَلق ليس لهم إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وحصل لهم ذلك بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله:{إنا كل شيء خلقناه بقدر}، فقالوا: يا محمد، يكتب علينا الذنب ويُعذبنا؟ فقال: أنتم خصماء الله يوم القيامة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت:{يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وخرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح، وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهم يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز).
[10792]:خرج ابن ماجه في سننه عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب: أهل الإرجاء والقدر)، وفي صحيح مسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما تبرأ من القدرية، ولا يُتبرأ إلا من كافر.وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم).
[10793]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه من حديث وكيع عن سفيان الثوري.
[10794]:أخرجه ابن جرير الطبري، وأخرج مثله الإمام البخاري عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فأخذ عودا فجعل ينكث في الأرض، فقال: ما منكم من أحد إلا كُتب مقعده من الجنة أو من النار، قالوا: ألا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر.{فأما من أعطى واتقى} الآية، ورواه مسلم بلفظ أطول من هذا، وكذلك رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقد أخرج أحمد مثله في مسنده عن أبي بكر رضي الله عنه.
[10795]:أخرجه النحاس عن أنس رضي الله عنه.