ثم ذكر من انتقلت إليه أموالهم وأمتعتهم ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : من أهل هذه القرية ، وهم بنو النضير .
{ ف } إنكم يا معشر المسلمين { ما أَوْجَفْتُمْ } أي : ما أجلبتم وأسرعتم وحشدتم ، { عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } أي : لم تتعبوا بتحصيلها ، لا بأنفسكم ولا بمواشيكم ، بل قذف الله في قلوبهم الرعب ، فأتتكم صفوا عفوا ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من تمام قدرته أنه لا يمتنع منه{[1033]} ممتنع ، ولا يتعزز من دونه قوي ، وتعريف الفيء في اصطلاح الفقهاء : هو ما أخذ من مال الكفار بحق ، من غير قتال ، كهذا المال الذي فروا وتركوه خوفا من المسلمين ، وسمي فيئا ، لأنه رجع من الكفار الذين هم غير مستحقين له ، إلى المسلمين الذين لهم الحق الأوفر فيه .
ثم بين - سبحانه - حكم الفيء الذى أفاءه على المسلمين فى غزوة بني النضير وفيما يشبهها من غزوات ، وأمر المؤمنين بأن يطيعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فى أمره ونهيه ، وأثنى - سبحانه - على المهاجرين والأنصار لقوة إيمانهم ، ولنقاء قلوبهم وسخاء نفوسهم . . . فقال - تعالى - : { وَمَآ أَفَآءَ . . . . } .
قوله : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ . . } معطوف على قوله - تعالى - : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ . . . } لبيان نعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - على المؤمنين ، فى غزوة بنى النضير .
و { أَفَآءَ } من الفىء بمعنى الرجوع ، يقال : فاء عليه ، إذا رجع ، ومنه قوله - تعالى - فى شأن الإيلاء : { فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والمراد به هنا معناه الشرعى : وهو ما حصل عليه المؤمنون من أموال أعدائهم بدون قتال ، كأن يكون هذا المال عن طريق الصلح ، كما فعل بنو النضير ، فقد صالحوا المؤمنين على الخروج من المدينة ، على أن يكون لكل ثلاثة منهم حمل بعير - سوى السلاح - وأن يتركوا بقية أموالهم للمسلمين .
والضمير فى قوله { مِنْهُمْ } يعود إلى بنى النضير ، الذى عبر - سبحانه - عنهم بقوله : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب . . } وقوله : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ . . } من الإيجاف بمعنى الإسراع فى السير يقال : وجَفَ الفرس يجِف وجَفا ووجيفا ، إذا أسرع فى سيره . والجملة خبر " ما " الموصولة فى قوله : { وَمَآ أَفَآءَ . . } و { مَآ } فى قوله { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } نافية .
والركاب : اسم جمع للإبل التى تركب ، وفى الكلام حذف أغنى عنه قوله - سبحانه - : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ . . } .
والمعنى : أعلموا - أيها المؤمنون - أن ما أعطاه الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من أموال بنى النضير التى صالحوه عليها ، فلا حق لكم فيها لأنكم لم تنالوها بقتالكم لهم على الخيل أو الإبل ، وإنما تفضل بها - سبحانه - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بلا قتال يذكر ، فقد كانت ديار بنى النضير على بعد ميلين من المدينة ، فذهب إليها المسلمون راجلين ، وحاصروها حتى تم استسلام بنى النضير لهم . .
قال الآلوسى : روى أن بنى النضير لما أجلوا عن أوطانهم ، وتركوا ربعاعهم وأموالهم . طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر ، فأنزل الله - تعالى - : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ . . . } فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة .
فقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال : كانت أموال بنى النضير ، مما أفاء الله - تعالى - : على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، وكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، فكان ينفق عل أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقى فى السلاح والكراع عدة فى سبيل الله - تعالى - .
وقال الضحاك : كانت أموال بنى النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، فآثر بها المهاجرين ، وقسمها عليهم ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، إلا ثلاثة منهم أعطاهم لفقرهم . .
وقوله - سبحانه - : { ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ . . . } استدراك على النفي فى قوله - تعالى - : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ . . } .
أي : ليس لكم الحق - أيها المؤمنون - فى أموال بني النضير ، لأنكم لم تظفروا بها عن طريق قتال منكم لهم ، ولكن الله - تعالى - سلط رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم وعلى ما فى أيديهم ، كما كان يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم ، والله - تعالى - قدير على كل شىء . . .
وما دام الأمر كذلك ، فاتركوا رسولكم - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فى أموال بنى النضير بالطريقة التى يريدها ويختارها بإلهام من الله - عز وجل - .
يقول تعالى مبينًا لما الفيء وما صفته ؟ وما حكمه ؟ فالفيء : فكلّ مال أخذ من الكفار بغير{[28537]} قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، كأموال بني النضير هذه ، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه {[28538]} بخيل ولا ركاب ، أي : لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة ، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاءه الله على رسوله ؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء ، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله ، عز وجل ، في هذه الآيات ، فقال : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي : من بني النضير ، { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يعني : الإبل ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو قدير لا يغالب ولا يمانع ، بل هو القاهر لكل شيء .
ابن العربي: روى ابن القاسم، وابن وهب عن مالك في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} هي النضير، لم يكن فيها خمس، ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب؛ كانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار: أبي دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذي ردّه الله على رسوله منهم، يعني من أموال بني النضير. يقال منه: فاء الشيء على فلان: إذا رجع إليه، وأفأته أنا عليه: إذا رددته عليه...
(فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يقول: فما أوضعتم فيه من خيل ولا إبل وهي الركاب. وإنما وصف جلّ ثناؤه الذي أفاءه على رسوله منهم بأنه لم يوجف عليه بخيل من أجل أن المسلمين لم يلقوا في ذلك حربًا، ولا كلفوا فيه مئونة، وإنما كان القوم معهم، وفي بلدهم، فلم يكن فيه إيجاف خيل ولا ركاب... عن الزهري، في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) قال: صالح النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أهل فدك وقرى قد سماها لا أحفظها، وهو محاصر قومًا آخرين، فأرسلوا إليه بالصلح، قال: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ) يقول: بغير قتال. قال الزهريّ: فكانت بنو النضير للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالصة لم يفتحوها عنوة، بل على صلح، فقسمها النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بين المهاجرين لم يعط الأنصار منها شيئًا، إلا رجلين كانت بهما حاجة...
وقوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أعلمك أنه كما سلَّط محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على بني النضير، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجف المسلمون بالخيل والركاب، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى. يقول: فمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح لا عنوة، فتقع فيها القسمة.
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يُعجزه شيء، وبقُدرته على ما يشاء سلَّط نبيه محمدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على ما سلط عليه من أموال بني النضير، فحازه عليهم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والإيجاف: الإيضاع في السير وهو الإسراع...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنّ ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء، يعني: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الْأُولَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ}: يُرِيدُ مَا رَدَّ اللَّهُ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْوَالَ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ حَقًّا، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ من اللَّهِ بِالذُّنُوبِ عَدْلًا، فَإِذَا رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ من أَيْدِيهِمْ رَجَعَتْ فِي طَرِيقِهَا ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ فَيْئًا.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَإِنْ كَانَتْ فَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهَا لِرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا كَانَ بِرُعْبٍ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ، دُونَ عَمَلٍ من النَّاسِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا سَفَرًا، وَلَا تَجَشَّمُوا رِحْلَةً، وَلَا صَارُوا عَنْ حَالَةٍ إلَى غَيْرِهَا، وَلَا أَنْفَقُوا مَالًا، فَأَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِهِ بِذَلِكَ الْفَيْءِ، وَأَفَادَ الْبَيَانُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ من النَّاسِ فِي مُحَاصَرَتِهِمْ لَغْوٌ لَا يَقَعُ الِاعْتِدَادُ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَخْصُوصًا بِهَا...
المسألة الرَّابِعَةُ: تَمَامُ الْكَلَامِ: فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهِ وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ، وَحُذِفَتْ اخْتِصَارًا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الغنائم التي تقسم بين الجيش إنما هي ما قاتلوا عليه، وأما ما أتى منها بغير قتال فهو فيء يأخذه الإمام فيقسمه خمسة أخماس، ثم يقسم خمساً منها خمسة أقسام، أحدها وهو كان للنبي صلى الله عليه وسلم، يكون بعده لمصالح المسلمين، والأقسام الأربعة الأخرى من هذا الخمس لمن ذكر في الآية بعدها، والأربعة الأخماس الكائنة من أصل القسمة وهي التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها حصلت بكفايته وإرعابه للعدو، تفرق بين المرتزقة من جميع النواحي، فكانت الأموال كلها لله إنعاماً على من يعبده بما شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، كانت أموال الكفار في أيديهم غصباً غصبوه من أوليائه، فخص سبحانه رسول صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير يضعها حيث يشاء لأنها فيء فقال: {وما أفاء الله} أي رد الملك الذي له الأمر كله رداً سهلاً بعد أن كان فيما يظهر في غاية العسر والصعوبة {على رسوله} فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفار عليه ظلماً وعدواناً كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظل إلى الناحية التي كان ابتدأ منها،... {منهم} أي رداً مبتدئاً من الفاسقين، فبين أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم عن غير وارث وكذا الجزية... ولما كان الحرب إنما هو كر وفر في إسراع وخفة ورشاقة بمخاتلة الفرسان ومراوغة الشجعان ومغاورة أهل الضرب والطعان، قال معللاً لكونه فيئاً: {فما أوجفتم} أي أسرعتم، وقال ابن إسحاق: حركتم واتبعتم في السير -انتهى، وذلك الإيجاف للغلبة {عليه} وأعرق في النفي بالجار فقال: {من خيل} وأكد بإعادة النافي لظن من ظن أنه غنيمة لإحاطتهم بهم فقال: {ولا ركاب} أي إبل، غلب ذلك عليها من بين المركوبات، ولا قطعتم من أجله مسافة، فلم تحصل لكم كبير مشقة في حوز أموالهم لأن قريتهم كانت في حكم المدينة الشريفة ليس بينها وبين ما يلي منها مسافة، بل هي ملاصقة لإحدى قرى الأنصار التي المدينة اسم لها كلها، وهي قرية بني عمرو بن عوف في قباء بينها وبين القرية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بها نحو ميلين،... فمشى الكل مشياً ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقاتلوا بها قتالاً بعد، فلذلك جعلها الله فيئاً ولم يجعلها غنيمة، فهي تقسم قسمة الفيء، لا قسمة الغنيمة، فخمسها لأهل خمس الغنيمة وهم الأصناف الخمسة المذكورون في الآية التي بعدها، وما فضل فهو الأربعة الأخماس له صلى الله عليه وسلم مضمومة إلى ما حازه من خمس الخمس...
ولما كان معنى هذا: فما كان التسليط بكم، استدرك بقوله: {ولكن الله} أي الذي له العز كله فلا كفوء له {يسلط رسله} أي له هذه السنة في كل زمن {على من يشاء} بجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه...
ولما كانت قدرته سبحانه عامة بالتسليط وغيره، أظهر ولم يضمر فقال: {والله} أي الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} أي أي شيء يصح أن تتعلق المشيئة به وهو كل ممكن من التسليط وغيره {قدير} أي بالغ القدرة إلى أقصى الغايات، والآية تدل على أن إيجاف الخيل والركاب وقصد العدو إلى الأماكن الشاسعة له وقع كبير في النفوس ورعب عظيم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما المقطع الثاني في السورة فيقرر حكم الفيء الذي أفاءه الله على رسوله في هذه الوقعة وفيما يماثلها، مما لم يتكلف فيه المسلمون غزوا ولا قتالا.. أي الوقائع التي تولتها يد الله جهرة ومباشرة وبدون ستار من الخلق كهذه الوقعة، وهذه الآيات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وأمثاله، تحوي في الوقت ذاته وصفا لأحوال الجماعة المسلمة في حينها؛ كما تقرر طبيعة الأمة المسلمة على توالي العصور، وخصائصها المميزة التي تترابط بها وتتماسك على مدار الزمان، لا ينفصل فيها جيل عن جيل، ولا قوم عن قوم، ولا نفس عن نفس، في الزمن المتطاول بين أجيالها المتعاقبة في جميع بقاع الأرض. وهي حقيقة ضخمة كبيرة ينبغي الوقوف أمامها طويلا في تدبر عميق..
إنما حكم هذا الفيء أنه كله لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والرسول [صلى الله عليه وسلم] هو الذي يتصرف فيه كله في هذه الوجوه. وذو القربى المذكورون في الآيتين هم قرابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن كانت الصدقات لا تحل لهم، فليس لهم في الزكاة نصيب، وأن كان النبي لا يورث فليس لذوي قرابته من ماله شيء. وفيهم الفقراء الذين لا مورد لهم. فجعل لهم من خمس الغنائم نصيبا، كما جعل لهم من هذا الفيء وأمثاله نصيبا...
فأما بقية الطوائف والمصارف فأمرها معروف. والرسول [صلى الله عليه وسلم] هو المتصرف فيها...
هذا هو حكم الفيء تبينه الآيات. ولكنها لا تقتصر على الحكم وعلته القريبة. إنما تفتح القلوب على حقيقة أخرى كبيرة: (ولكن الله يسلط رسله على من يشاء).. فهو قدر الله. وهم طرف من هذا القدر يسلطه على من يشاء. (والله على كل شيء قدير).. بهذا يتصل شأن الرسل بقدر الله المباشر؛ ويتحدد مكانهم في دولاب القدر الدوار. ويتبين أنهم -ولو أنهم بشر- متصلون بإرادة الله ومشيئته اتصالا خاصا، يجعل لهم دورا معينا في تحقيق قدر الله في الأرض، بإذن الله وتقديره. فما يتحركون بهواهم، وما يأخذون أو يدعون لحسابهم. وما يغزون أو يقعدون، وما يخاصمون أو يصالحون، إلا لتحقيق جانب من قدر الله في الأرض منوط بهم وبتصرفاتهم وتحركاتهم في هذه الأرض. والله هو الفاعل من وراء ذلك كله. وهو على كل شيء قدير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {فما أوجفتم عليه} وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال...،والمعنى: فما هو من حقّكم، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم، ولكن الله أعطاه رسوله صلى الله عليه وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصَب.
وقوله: {ولكن الله يسلط رسله على من يشاء} استدراك على النفي الذي في قوله تعالى: {فما أوجفتم عليه} لرفع توهم أنه لا حقّ فيه لأحد. والمراد: أن الله سلط عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فالرسول أحق به.
وعموم {من يشاء} لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين. فتكون الآية تبييناً لما وقع في قسمة فيء بني النضير.