تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

{ 10 - 11 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

أي : ولقد مننا على عبدنا ورسولنا ، داود عليه الصلاة والسلام ، وآتيناه فضلا من العلم النافع ، والعمل الصالح ، والنعم الدينية والدنيوية ، ومن نعمه عليه ، ما خصه به من أمره تعالى الجمادات ، كالجبال والحيوانات ، من الطيور ، أن تُؤَوِّب معه ، وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها ، مجاوبة له ، وفي هذا من النعمة عليه ، أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده ، وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ، تتجاوب بتسبيح ربها ، وتمجيده ، وتكبيره ، وتحميده ، كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى .

ومنها : أن ذلك - كما قال كثير من العلماء ، أنه طرب لصوت داود ، فإن اللّه تعالى ، قد أعطاه من حسن الصوت ، ما فاق به غيره ، وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب ، طرب كل من سمعه ، من الإنس ، والجن ، حتى الطيور والجبال ، وسبحت بحمد ربها .

ومنها : أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ، لأنه سبب ذلك ، وتسبح تبعا له .

ومن فضله عليه ، أن ألان له الحديد ، ليعمل الدروع السابغات ،

وعلمه تعالى كيفية صنعته ، بأن يقدره في السرد ، أي : يقدره حلقا ، ويصنعه كذلك ، ثم يدخل بعضها ببعض .

قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ }

ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله ، أمره بشكره ، وأن يعملوا صالحا ، ويراقبوا اللّه تعالى فيه ، بإصلاحه وحفظه من المفسدات ، فإنه بصير بأعمالهم ، مطلع عليهم ، لا يخفى عليه منها شيء .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

و { أَنِ } فى قوله : { أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ } مصدرية على حذف حرف الجر . وسابغات صفة لموصوف محذوف .

أى : ألنا له الحديد ، لكى يعمل منه دروعا سابغات .

والدرع السابغ ، هى الدرع الواسعة التامة . يقال : سبغ الشئ سبوغا ، إذا كان واسعا تاما كاملا . ومنه قولهم : نعمة سابغة ، إذا كانت تامة كاملة .

قال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } وقوله : { وَقَدِّرْ فِي السرد } والتقدير هنا بمعنى الإِحكام والإِجادة وحسن التفكير فى عمل الشئ . والسرد : نسج الدروع وتهيئاتها لوظيفتها .

أى : آتينا داود كل هذا الفضل الذى من جملته إلانة الحديد فى ديه ، وقلنا له يا داود : اصنع دروعا سابغات تامات ، وأحكم نسج هذه الدروع ، بحيث تكون فى أكمل صورة ، وأقوى هيئة .

روى ان الدروع قبل عهد داود كانت تعمل بطريقة تثقل الجسم ، ولا تؤدى وظيفتها لا تثقل الجسم ولا تتعبه ، وفى الوقت نفسه تكون محكمة إحكاما تاما بحيث لا تنفذ منها الرماح ، ولا تقطعها السيوف ، وكان الأمر كله من باب الإِلهام والتعليم من الله - تعالى - لعبده داود - عليه السلام - .

ثم أمر - سبحانه - داود وأهله بالعمل الصالح فقال : { واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

أى : واعملوا عملا صالحا يرضينى ، فإنى مطلع ومحيط ومبصر لكل ما تعملونه من عمل ، وسأجازيكم عليه يوم القيامة بالجزاء الذى تستحقونه .

قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم . بل ذلك زيادة فى فضلهم وفضائلهم ، إذ يحصل لهم التواضع فى أنفسهم ، والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخالى عن الامتنان . وفى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن خير ما أكل المرء من عمل يده ، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

10

( أن اعمل سابغات وقدّر في السرد ) .

والسابغات الدروع . روي أنها كانت تعمل قبل داود - عليه السلام - صفائح . الدرع صفيحة واحدة فكانت تصلب الجسم وتثقله . فألهم الله داود أن يصنعها رقائق متداخلة متموجة لينة يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم ؛ وأمر بتضييق تداخل هذه الرقائق لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح . وهو التقدير في السرد . وكان الأمر كله إلهاماً وتعليماً من الله .

وخوطب داود وأهله :

( واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير ) . .

لا في الدروع وحدها بل في كل ما تعملون ؛ مراقبين الله الذي يبصر ما تعملون ويجازي عليه ، فلا يفلت منه شيء ، والله به بصير . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

وقوله تعالى : { أن اعمل } قيل إن { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[9606]} ، قيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، و «السابغات » الدروع الكاسيات ذوات الفضول ، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها ، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر ، وقوله تعالى : { وقدر في السرد } اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد ، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ، قال الشماخ :

«كما تابعت سرد العنان الخوارز »{[9607]}

ومنه سرد الحديث{[9608]} ، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر [ القرطبي ] : [ الكامل ]

وعليهما مسرودتان قضاهما . . . داود أو صَنَعُ السوابغ تبع{[9609]}

ومنه قول دريد

بالفارسي المسرد{[9610]} .

فقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها ، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها ، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال : المعنى لا تدق المسمار فيسلسل ، ويروى فيتسلسل ، ولا تغلظه فيقصم بالقاف ، وبالفاء أيضاً رواية ، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالاً ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة ، أي قدر ما يأخذ هذين المعنيين بقسطه ، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة ، وقوله تعالى : { واعملوا صالحاً } لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم ، ثم توعدهم تعالى بقوله : { إني بما تعملون بصير } أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم .


[9606]:هذا قول الحوفي، ذكر ذلك أبو حيان في البحر المحيط، ثم عقب عليه بقوله:"ولا يصح؛ لأن من شرطها أن يتقدمها معنى القول، وليس في الكلام هذا، وقدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا يحمل معنى القول حتى يصح أن تكون مفسرة، وتقديره: وأمرناه أن اعمل، ولا ضرورة تدعو إلى هذا المحذوف". ا هـ بتصرف.
[9607]:هذا عجز بيت، وهو بتمامه كما في (جمهرة أشعار العرب): ركبن الذنابى فاتبعن به الهوى كما تابعت سرد العنان الخوارز وقيل: بل الشطر الأول هو:(فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم)، وهذه رواية القرطبي في تفسيره، وفي الديوان روى الشطر الأول هكذا(شككن بأحشاء الذنابى على هدى). هذا والشماخ لقب للشاعر، واسمه معقل ابن ضرار، وهو أرجز الناس على بديهة، والبيت من قصيدة له قال عنها الأصمعي:"ما قيلت قصيدة على الزاي أجود من قصيدة الشماخ في وصف القوس، ولو طالت قصيدة المتنخل كانت أجود". وهو يقصد أبياتا قالها المتنخل أيضا على الزاي، ومعنى(ركبن الذنابى): فررن، واتبعن به الهوى: أي هوى الحمار الوحشي، والخوارز: جمع خارز، من قولهم: خرز الجلد، أي ثقبه بالمخرز وخاطه، والشاهد أن السرد هو: إتباع الشيء بالشيء من جنسه كما قال المؤلف، وقد روي البيت في الجمهرة:(كما تابعت شد العنان)، وعلى هذا فلا شاهد فيه.
[9608]:في ( اللسان-سرد):"سرد الحديث ونحوه سردا: إذا تابعه، وفي صفة كلامه صلى الله عليه وسلم:(لم يكن يسرد الحديث سردا) أي: يتابعه ويستعجل فيه.
[9609]:البيت لأبي ذؤيب الهذلي، وهو من قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع ورواية الديوان في (أشعار الهذليين):(وعليهما ماذيتان)، وفي رواية الأصمعي (وتعاورا مسرودتين)، والسرد: الخرز في الأديم، والمسرد: ما يخرز به، ويقال للدرع: مسرودة لأنها مخروزة ومنظومة. وقضاهما: فرغ من عملهما، والصنع: الحاذق بالعمل، والمراد به هنا تبع، يقال: رجل صنع وامرأة صَنَاع، قال الأصمعي: سمع الشاعر بأن دواود عليه السلام كان سخر له الحديد فكان يصنع منه ما أراد، وسمع بأن تبعا عملها فقال: عملها، والحقيقة أنه أمر بالسوابغ أن تعمل، وتبع أعظم من أن يصنع بيده.
[9610]:هذا جزء من بيت قاله دريد بن الصمة من قصيدة طويلة يرثي بها أخاه رثاء إنسانيا عميقا،والبيت بتمامه مع بيت قبله: وقلت لعراض وأصحاب عارض ورهط بني السوداء والقومشهدي علانية: ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد وعارض هو أخو دريد، والقوم شهدي: شهودي على ما قلته، وعلانية: جهرا امام الجميع، وظنوا: أيقنوا، والمدجج: التام السلاح، وسراتهم: أشرافهم ورؤساؤهم، والفارسي: درع من بلاد فارس، والمسرد: المحكم النسج أو الدقيق الصنع المتتابع الحلقات. والمعنى: لقد نصحت عارضا وأصحابه وجماعة من بني السوداء، ونهيتهم في مشهد من القوم، وكان حديثي لهم علانية وجهرا، وقلت لهم: إن ألفي مقاتل يتربصون بكم، وأشرافهم مدججون ومحصنون بالدروع الفارسية المحكمة الصنع. ثم يصرخ بعد هذين البيتين ببيته الرائع الذي جرى بعد ذلك مجرى الأمثال: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَنِ ٱعۡمَلۡ سَٰبِغَٰتٖ وَقَدِّرۡ فِي ٱلسَّرۡدِۖ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (11)

و{ سابغات } صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف .

ومعنى { قَدِّر } اجعله على تقدير ، والتقدير : جعل الشيء على مقدار مخصوص .

و { السَّرْد } صنع درع الحديد ، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب ، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة . قال أبو ذؤيب الهذلي :

وعليهما مَسرودتان قضاهما *** داوُد أو صَنَعُ السوابغ تُبَّعُ

ويقال لناسج الدروع : سَرَّاد وزرّاد بالسين والزاي ، وقال المعري يصف درعاً :

وداوُد قين السابغات أذالها *** وتلك أضاة صانها المرء تبع

فلما سخر الله له ما استصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحاً لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم .

وضمير { اعملوا } لداود وآله كقوله تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] أو له وحده على وجه التعظيم .

وقوله : { إني بما تعملون بصير } موقع « إن » فيه موقع فاء التسبب كقول بشار :

إن ذاك النجاحَ في التبكير

وقد تقدم غير مرة .

والبصير : المطلع العليم ، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح .