تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا }

كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم{[184]}  وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان ، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب ، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا ، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم ، وأقوياؤهم وضعفاؤهم . وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس .

فيأتي التفصيل بعد الإجمال ، قد تشوفت له النفوس ، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة ، فقال : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ } : أي : قسط وحصة { مِمَّا تَرَكَ } أي : خلف { الْوَالِدَان } أي : الأب والأم { وَالْأَقْرَبُونَ } عموم بعد خصوص { وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ }

فكأنه قيل : هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة ، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون ؟ أو شيئا مقدرا ؟ فقال تعالى : { نَصِيبًا مَفْرُوضًا } : أي : قد قدره العليم الحكيم . وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك .

وأيضا فهاهنا توهم آخر ، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير ، فأزال ذلك بقوله : { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } فتبارك الله أحسن الحاكمين .


[184]:- في النسختين: جبريتهم.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

ثم شرع - سبحانه - فى بيان أحكام المواريث بعد أن بين الأحكام التى تتعلق بأموال اليتامى فساق - قاعدة عامة لأصل التوريث فى الإسلام هى أن الرجال لا يختصون بالميراث ، بل للنساء معهم حظ مقسوم ، ونصيب مفروض ، سواء أكان الشئ الموروث قليلا أم كثيرا فقال تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ . . . } .

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( 7 )

قال القرطبى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى أوس بن ثابت الأنصارى . توفى وترك امرأة يقال لها : أم كُجّة وثلاث بنات له منها ؛ فقام رجلان هما أبنا عم الميت ووصياه يقال لهما : سويد وعرفجة ؛ فأخذا ماله ولم يعطيا أمرأته وبناته شيئا . وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ويقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل ، وطاعن بالرمح ، وضارب بالسيف ، وحاز الغنيمة . فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعاهما فقالا : يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ، ولا ينكأ عدوا . فقال صلى الله عليه وسلم : " انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن ، فأنزل الله هذه الآية .

ثم قال : قال علماؤنا : فى هذه الآية فوائد ثلاث :

إحداها : بيان علة الميراث وهى القرابة .

الثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد .

الثالثة : إجمال النصيب المفروض . وذلك مبين فى آية المواريث ؛ فكأن هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأى الفاسد حتى وقع البيان الشافى " .

هذا ، ومن العلماء من أبقى هذه الآية الكريمة على ظاهرها ، فجعل المراد من الرجال : الذكور البالغين . والمراد من الوالدين : الأب والأم بلا واسطة المراد من الأقربين : الأقارب الأموات الذين يرثهم أقاربهم المستحقون لذلك والمراد من النساء الإِناث البالغات .

والمعنى على هذا الرأى : للذكور البالغين نصيب أى حظ مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كإخوتهم وأخواتهم وأعمالهم وعماتهم وللاناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن وأمهاتهن وأقاربهن . . . ألخ .

وبهذا تكون الآية الكريمة قد اقتصرت على بيان أن الإِرث غير مختص بالرجال كما كان الجاهليون يفعلون ، بل هو أمر مشترك بين الرجال والنساء ، ثم جاءت آيات المواريث بعد ذلك فبينت نصيب كل وارث .

قال الإِمام الرازى : ذكر الله - تعالى - فى هذه الآية هذا القدر ، وهو أن الإِرث مشترك بين الرجال والنساء - ثم ذكر التفصيل بعد ذلك - فى آيات المواريث - ، لأنه - سبحانه - أراد أن ينقلهم عن العادة شاق ثقيل على الطبع . فإذا كان فجعلة عظم وقعه على القلب ، وإذا كان على التدريج سهل . فهلذا المعنى ذكر الله - تعالى - هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل ومن العلماء من يرى أن المراد بالرجال الصغار من الذكور ومن النساء الصغار من الإِناث ، وعلل مراده هذا بأن فيه عناية بشأن اليتامى ، وفيه رد صريح على ما تعوده أهل الجاهلية من توريث الكبار من الرجال دون الصغار سواء أكانوا ذكورا أم إناثا . ومنهم من عمهم فى الرجال والنساء فجعل المراد من الرجال الذكور مطلقا سواء أكانوا كبارا أم صغارا .

وجعل المراد من النساء الإِناث مطلقا سواء كان كباراً أم صغاراً .

ويكون المعنى : للذكور نصيب مما تركه الوالدان والأقربون من متاع ، وللإِناث كذلك نصيب مما تركه الوالدان والأقربون .

وعليه يكون المقصود من الآية الكريمة التسوية بين الذكور والإِناث فى أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون .

ويبدو لنا أن هذا الرأى الثالث أولى ، لأنه أعم من غيره ، وأشمل فى الرد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من عدم توريثهم للنساء مطلقا ولا للصغار وإن كانوا ذكوراً ، ولأنه يشمل سبب نزول الآية نصا ، فقد ذكرنا فى سبب النزول أنها نزلت فى شأن بنات أوس بن ثابت وزوجته .

وقد أكد - سبحانه - حق النساء في الميراث بأن اختار هذا الأسلوب التفصيلى فقال : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } مع أنه كان يكفى أن يقول : للرجال والنساء نصيب ، مما ترك الوالدان والأقربون ، وذلك للإِيذان بأصالتهن فى استحقاق الارث ، وللإِشعار بأنه حق مستقل عن حق الرجال ، وأن هذا الحق قد ثبت لهن استقلالا بالقرابة كما ثبت للرجال ، حتى لا يتوهم أحد أن حقهن تابع لحقهم بأى نوع من أنواع التبعية .

ثم أكد - سبحانه هذا الحق مرة أخرى بقوله { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } أى أن حق النساء ثبات فيما تكره المتوفى من مال لسواء أكان هذا المتروك قليلاً أم كثيراً ، لأن الذكور والإِناث يتساويان فى أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون حتى ولو كان هذا المتروك شيئاً قليلا .

فقوله { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } عطف بيان من قوله { مِّمَّا تَرَكَ الوالدان } لقصد التعميم والتنصيص على أن حق النساء متعلق بكل جزء من المال الذى تركه الوالدان والأقربون ثم أكد - سبحانه - حق النساء فى الميراث مرة ثالثة بقوله { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } لأن قوله { نَصِيباً } منصوب على الاختصاص والاختصاص يفيد العناية .

أى أن لكل من الرجال والنساء نصيبا فيما تركه الوالدان والأقربون ، وهذا النصيب قد فرضه الله - تعالى - فلا سبيل إلى التهاون فيه ، بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه كاملا غير منقوص ؛ لأن الله هو الذى شرعه ، ومن خالف شرع الله كان أهلا للعقوبة منه - سبحانه - .

قال صاحب الكشاف : وقوله : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصب على الاختصاص بمعنى : أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بد لهم من أن يجوزوه ولا يستأثر به بعضهم دون بعض ، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } كأنه قيل : قسمة مفروضة .

هذا ، وقد استدل الأحناف بهذه الآية على توريث ذوى الأرحام ؛ لأن العمات والخالات وأولاد البنات ونحوهن من الأقربين ، فوجب دخولهم تحت قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } الآية . وثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية ، وأما المقدار فمستفاد من آيات أخرى كما هو الشأن فى غيرهم .

أما المخالفون للأحناف فيما ذهبوا إليه فيرون أن المراد من الأقربين الوالدان والأولاد ونحوهم وحينئذ لا يدخل فيهم ذوو الأرحام . وعلى رأى هؤلاء المخالفين يكون عطف الأقربين على الوالدين من باب عطف العام على الخاص .

كذلك استدل الأحناف بهذه الآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه - قبل استحقاقه - لم يسقط حقه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

1

ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية - في الغالب - إلا التافه القليل . لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرسا ، ولا يردون عاديا ! فإذا شريعة الله تجعل الميراث - في أصله - حقا لذوي القربى جميعا - حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد - وذلك تمشيا مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة ، وفي التكافل الإنساني العام . وحسب قاعدة : الغنم بالغرم . . فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج ، والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح ، فعدل إذن أن يرثه - إن ترك مالا - بحسب درجة قرابته وتكليفه به . والإسلام نظام متكامل متناسق . ويبدو تكامله وتناسقه واضحا في توزيع الحقوق والواجبات . .

هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة . . وقد نسمع هنا وهناك لغطا حول مبدأ الإرث ، لا يثيره إلا التطاول على الله - سبحانه - مع الجهل بطبيعة الإنسان ، وملابسات حياته الواقعية !

إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي ، يضع حدا لهذا اللغط على الإطلاق . .

إن قاعدة هذا النظام هي التكافل . . ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية . هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثا في الفطرة ، إنما خلقها لتؤدي دورا أساسيا في حياة الإنسان .

ولما كانت روابط الأسرة - القريبة والبعيدة - روابط فطرية حقيقية ؛ لم يصطنعها جيل من الأجيال ؛ ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال ! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام . . لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام . وجعل الإرث مظهرا من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة . فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام .

فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة ، لتكملها وتقويها . فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة ، جهود الأسرة ، وجهود الجماعة المحلية المحدودة . . وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة . . أولا لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة ، تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نموا طبيعيا غير مصطنع - فضلا على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث - أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشىء آثارا طبيعية تلائم الفطرة . . فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته - وبخاصة ذريته - يحفزه إلى مضاعفة الجهد ، فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر . لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة . فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج . .

وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهدا - كما يقال ! - فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة ، ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجا وذاك ذا مال . ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عندما تحتاج . تمشيا مع قاعدة التكافل العام .

ثم إن العلاقة بين المورث والوارث - وبخاصة الذرية - ليست مقصورة على المال . فإذا نحن قطعنا وراثة المال ، فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى ، والوراثات الأخرى بينهما .

إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة ، لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده . إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة ، والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة ، والانحراف والاستقامة ، والحسن والقبح ، والذكاء والغباء . . إلخ . وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم ، ولا تتركهم من عقابيلها أبدا . فمن العدل إذن أن يورثوهم المال . وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء ، ولا تملك الدولة - بكل وسائلها - أن تعفيهم من هذه الوراثات .

من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية - ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى - شرع الله قاعدة الإرث :

( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) . .

هذا هو المبدأ العام ، الذي أعطى الإسلام به " النساء " منذ أربعة عشر قرنا ، حق الإرث كالرجال - من ناحية المبدأ - كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم . لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج . أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني ، ينظر إلى " الإنسان " - أولا - حسب قيمته الإنسانية . وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال ! ثم ينظر إليه - بعد ذلك - حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

سمى الله عز وجل الأب والداً لأن الولد منه ومن الوالدة ، كما قال الشاعر : [ الرجز ]

*بِحَيْثُ يَعْتشُّ الغُرَابُ البَائِضُ*

لأن البيض من الأنثى والذكر{[3859]} ، قال قتادة وعكرمة وابن زيد : وسبب هذه الآية ، أن العرب كان منها من لا يورث النساء ويقول : لا يرث إلا من طاعن بالرمح وقاتل بالسيف فنزلت هذه الآية ، قال عكرمة : سببها خبر أم كحلة{[3860]} ، مات زوجها وهو أوس بن سويد وترك لها بنتاً فذهب عم بنيها إلى أن لا ترث فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال العم : هي يا رسول الله لا تقاتل ولا تحمل كلاً ويكسب عليها ولا تكسب ، واسم العم ثعلبة فيما ذكره . و { نصيباً مفروضاً } ، نصب على الحال ، كذا قال مكي ، وإنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال ، تقديره : فرضاً لذلك جاز نصبه ، كما تقول : لك عليَّ كذا وكذا حقاً واجباً ، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكان حقه الرفع .


[3859]:- قال أبو حيان "لا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر لأن لفظ الغراب يطلق على الذكر والأنثى، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء، أما وصفه بالبائض فهو حمل على اللفظ. البحر المحيط 3/ 175.
[3860]:- كذا ورد الاسم هنا، وهذه رواية أبي موسى عن المستغفري (كحْلة) بسكون المهملة بعدها لأم؛ والمشهور أنها أم (كجة)، وأن زوجها مات وترك لها ثلاث بنات، وتختلف الروايات في أمرها اختلافا بينا، فهي زوج أوس بن ثابت، أو ثابت بن قيس، أو سعد بن الربيع، أو أوس بن مالك...إلخ. (انظر الإصابة 8/270).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

استئناف ابتدائي ، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى ، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] .

ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها : أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال ، وحرمان الضعفاء ، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم ، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم ، وكان أكبر العائلة يَحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان ، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم ، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم ، فصاروا عالة على الناس .

وأخصّ الناس بذلك النساءُ فإنّهن يجدن ضعفاً من أنفسهنّ ، ويخشين عار الضيعة ، ويتّقين انحراف الأزواج ، فيتّخذن رضى أوليائهُنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر ، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم ، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً ممّا ترك الوالدان والأقربون .

فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون ، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون ، وذُكر النساءُ هناك تمهيداً لشرع الميراث ، وقد تأيّد ذلك بقوله : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى } [ النساء : 8 ] فإنّ ذلك يناسب الميراث ، ولا يناسب إيتاءَ أموال اليتامى .

ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث ، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة ، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصرف لأبْناء الميّت الذكور ، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ ، ولا تعطى بناته شيئاً ، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات .

وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلاّ إذا كان الأبناء ذكوراً ، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف . فإن لم تكن الأبناءُ الذكورُ وَرِث أقربُ العصبة : الأبُ ثمّ الأخُ ثمّ العمّ وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبنيّ وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأبوّة .

ويورثون أيضاً بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا ، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها ، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث : بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] الآية من هاته السورة . s وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك فأتمّ الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها .

وقد كان قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب .

ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج .

روى الواحدي ، في أسباب النزول ، والطبري ، عن عكرمة ، وأحَدُهما يزيد على الآخر ما حاصله : إنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كُحَّة فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : « إنّ زوجي قُتِل معك يوم أُحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمّهما مالَهما فما ترى يا رسول الله ؟ فواللَّهِ ما تَنْكحان أبداً إلاّ ولهما مال » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقضي الله في ذلك " . فنزلت سورة النساء وفيها : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] . قال جابر بن عبد الله : فقال رسول الله " ادع لي المرأة وصاحبَها " فقال لعمهما " أعطهما الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فلَك " . ويروى : أنّ ابني عمّه سويد وعرفطة ، وروى أنّهما قتادة وعرفجة ، وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا دعا العَمّ أو ابني العمّ قال ، أو قالا له « يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرساً ولا يحمل كَلا ولا يَنكي عدوّا » فقال " انصرف أوْ انصرفا ، حتّى أنظرَ ما يحدث الله فيهنّ " فنزلت آية { للرجال نصيب } الآية . وروي أنّه لمّا نزلت هاته الآية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى وليّ البنتين فقال : " لا تفرّق من مال أبيهما شيئاً فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيباً " والنصيب تقدّم عند قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } في سورة آل عمران ( 23 ) .

وقوله : بيان لمما ترك } لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال ، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء ، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن مَعِّد بن عدنان لأبنائه : مضر ، وربيعة ، وإياد ، وأنْمارِ ، فجعل لمضر الحمراء كلّها ، وجعل لربيعة الفرسَ ، وجعل لإياد الخادم ، وجعل لأنمار الحمار ، ووكَلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجُرْهُمي في نَجْران ، فانصرفوا إليه ، فقسم بينهم ، وهو الذي أرسل المثَل : إنّ العَصَا من العُصَيَّة .

وقوله : { نصيباً مفروضاً } حال من ( نصيب ) في قوله : { للرجال نصيب } { وللنساء نصيب } وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفرداً ولم يراع تعدّده ، فلم يُقَل : نصيبين مفروضين ، على اعتبار كون المذكور نصيبين ، ولا قيل : أنصباء مفروضة ، على اعتبار كون المذكور موزّعا للرجال وللنساء ، بل روعي الجنس فجيء بالحال مفرداً و { مفروضا } وصف ، ومعنى كونه مفروضاً أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء ، كما قال تعالى في الآية الآتية { فريضة من الله } [ النساء : 11 ] . وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث .