أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ أي : أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا أفكارهم ، وينظروا : هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء ، هل هو مجنون ؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه ، ودله وصفاته ، وينظروا في ما دعا إليه ، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها ، ولا من الأخلاق إلا أتمها ، ولا من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين ، ولا يدعو إلا لكل خير ، ولا ينهى إلا عن كل شر .
أفبهذا يا أولي الألباب من جنة ؟ أم هو الإمام العظيم والناصح المبين ، والماجد الكريم ، والرءوف الرحيم ؟
ولهذا قال : إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي : يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب ، ويحصل لهم الثواب .
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .
الهمزة للانطار والتوبيخ ، وهى داخلة على فعل حذف للعلم به من سياق القول ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام .
والجنة : مصدر كالجلسة بمعنى الجنون . وأصل الجن الستر عن الحاسة .
والمعنى : أكذب هؤلاء الظالمون رسولهم صلى الله عليه وسلم ولم يتفكروا في أنه ليس به أى شىء من الجنون ، بل هو أكمل الناس عقلا ، وأسدهم رايا ، وأنقاهم نفساً .
والتعبير { بِصَاحِبِهِمْ } للايذان بأن طول مصاحبتهم له مما يطلعهم على نزاهته عما اتهموه به ، فهو صلى الله عليه وسلم قد لبث فيهم قبل الرسالة أربعين سنة كانوا يلقبونه فيها بالصادق الأمين ، ويعرفون عنه أسمى ألوان الإدراك السليم والتفكير المستقيم .
قال الجمل : وجملة " ما بصاحبهم من جنة " في محل نصب معمولة ليتفكروا فهو عامل فيها محلا لا لفظا لوجود المعلق له عن العمل وهو ما النافية .
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } ثم ابتدأ كلاما آخر إما استفهام إنكار وإما نفياً . ويجوز أن تكون " ما " استفهامية في محل الرفع بالابتداء والخبر بصاحبهم . موالتقدير : أى شىء استقر بصاحبهم من الجنون " .
وقوله { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بيان لوظيفته صلى الله عليه وسلم أى : ليس بمجنون كما زعمتم أيها المشركون وإنما هو مبالغ في الإنذار ، مظهر له غاية الإظهار ، فهو لا يقصر في تخويفكم من سوء عاقبة التكذيب ، ولا يتهاون في نصيحتكم وإرشادكم إلى ما يصلح من شأنكم .
ولقد كان القرآن يواجه بذلك التهديد الرعيب قوماً من المكذبين بآيات الله في مكة - والنص القرآني دائماً أبعد مدى من المناسبة الخاصة - وكان يتوعدهم على موقفهم من الجماعة المسلمة - التي يسميها أمة وفق المصطلح الإسلامي - بالإملاء لهم والاستدراج والكيد المتين . . ثم كان يدعوهم - بعد هذا التهديد - إلى استخدام قلوبهم وعيونهم وآذانهم . فلا يكونوا من ذرء جهنم ولا يكونوا من الغافلين . . كان يدعوهم إلى التدبر في أمر رسولهم الذي يدعوهم إلى الحق ويهديهم به ؛ وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وآيات الله المبثوثة في هذا الملكوت ؛ وكان يوقظهم إلى مرور الوقت وما يؤذن به من اقتراب الأجل المجهول ، وهم غافلون :
( أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ؟ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ؟ فبأي حديث بعده يؤمنون ؟ . . )
إن القرآن يهزهم من غفوتهم ، ويوقظهم من غفلتهم ، ويستنقذ - من تحت الركام - فطرتهم وعقولهم ومشاعرهم . . إنه يخاطب كينونتهم البشرية كلها ، بكل ما فيها من أجهزة الاستقبال والاستجابة . . إنه لا يوجه إليهم جدلاً ذهنيا باردا ؛ إنما هو يستنقذ كينونتهم كلها وينفضها من أعماقها :
( أو لم يتفكروا ؟ ما بصاحبهم من جنة ، إن هو إلا نذير مبين . . )
لقد كانوا يقولون عن الرسول [ ص ] في حرب الدعاية التي يشنها ضده الملأ من قريش يخدعون بها الجماهير : إن محمداً به جنة . وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب ، غير المعهود في أساليب البشر العاديين !
ولقد كان الملأ من قريش يعلمون أنهم كاذبون ! وقد تضافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله [ ص ] وأنهم ما كانوا يملكون أن يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر . . وقصة الأخنس بن شريق ، وأبي سفيان بن حرب ، وعمرو بن هشام - أبي جهل - في الاستماع لهذا القرآن خلسة ، ليالي ثلاثاً ، وما وجدوه في أنفسهم منه معروفة . . وكذلك قصة عتبة بن ربيعة وسماعه سورة فصلت من النبي [ ص ] وهزته أمام إيقاعاتها المزلزلة . . ومثلها قصة تآمرهم قبيل موسم الحج فيما يقولون للناس عن النبي [ ص ] وما معه من القرآن ؛ وانتهاء الوليد بن المغيرة إلى أن يقولوا للوفود : إنه سحر يؤثر . . كل هذه الروايات تثبت أنهم ما كانوا جاهلين لحقيقة هذا الأمر ؛ إنما هم كانوا يستكبرون عنه ؛ ويخشونه على سلطانهم الذي تهدده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ التي تسلب البشر حق تعبيد البشر لغير الله . . وتهدد كل طاغوت بشري علي العموم !
من ثم كانوا يستغلون تفرد هذا القرآن العجيب وتميزه عن قول البشر المعهود ؛ كما يستغلون الصورة التي كانت معهودة فيهم وفيمن قبلهم ، عن الصلة بين التنبؤ والجنون ! والنطق بكلمات ورموز يؤولها المصاحبون لمن بهم جنة وفق ما يريدون ؛ ويزعمون أنها تأتيهم من عالم غير منظور ! . . كانوا يستغلون هذه الرواسب في التمويه على الجماهير بأن الذي يقوله محمد ، إنما يقوله عن جنة به ؛ وأنه يأتي بالغريب العجيب من القول ، لأنه مجنون !
والقرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه . فلم يعرفوا عنه من قبل خللاًعن السواء ؛ وشهدوا له بالأمانة والصدق ، كما شهدوا له بالحكمة ؛ وحكموه في الحجر الأسود وارتضوا حكمه واتقوا بهذا الحكم فتنة بينهم كادت تثور . واستأمنوه على ودائعهم وظلت عنده حتى خرج مهاجراً فردها لهم عنه ابن عمه علي كرم الله وجهه !
القرآن يدعوهم إلى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله ، المكشوف لهم أمره كله . . أفهذا به جنة ؟ . . أفهذا قول مجنون وفعل مجنون ؟ . . كلا :
( ما بصاحبهم من جنة . . إن هو إلا نذير مبين ) . .
لا اختلاط في عقله ولا في قوله . إنما هو منذر مفصح مبين . لا يلتبس قوله بقول المجانين ، ولا تشتبه حاله بحال المجانين .
وقوله : { أولم يتفكروا ما بصاحبهم } الآية ، تقرير يقارنه توبيخ للكفار ، والوقف على قوله { أولم يتفكروا } ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكوره فقال : { ما بصاحبهم من جنة } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون المعنى أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة ، وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلاً على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش ، يا بني فلان ، يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله فقال بعض الكفار حين أصحبوا هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عز وجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره ، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره ، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب ، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقاً فإنما هو في الشر ، وقد يستعمل في الخير مقيداً به ، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه ليس به جنة كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه .
لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثاً عن تكذيبهم من جاء بها ، وناشئاً عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر ، وأن مَن يدعي أنه مرسل من الله مجنون ، عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول ، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون .
واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم } في سورة البقرة ( 87 ) .
والجملة مستأنفة ، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم .
والاستفهام للتعجيب من حالهم والانكار عليهم ، و ( ما ) في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } نافية كما يؤذن به دخول ( من ) على منفى ما ، لتأكيد الاستغراق .
وفعل { يتفكروا } منزل منزلة اللازم ، فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله : { ما بصاحبهم من جنة } أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر ، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق .
والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة ، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه ، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى : { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } [ الأنبياء : 65 ] هو في قوة أن يقال : لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون ، أي ذلك علمك وهذا علمي ، وقوله هنا : { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في قوة : أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون ، ما بصاحبهم من جنة . فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز ، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم يُنبه عليه علماء المعاني ، وأن خصائص العربية لا تنحصر .
و« الصاحب » حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه ، ومنه قوله تعالى : { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 41 ] ، وسميت الزوجة صاحبة ، ويطلق مجازاً على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر ، تنزيلاً لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ، ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته ، أم معبد ، لما أخبرته بدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركتَه : « هذا صاحب قريش » ، وقولُ الحجاج في بعض خطبه لأهل العراق « ألَسْتُم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتُم الكفر » يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز ، فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم ، وقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي :
كلُّ له نيّةٌ في بُغْض صاحبه *** بنعمة اللَّه نقليكم وتقلونا
فوصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات : هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره ، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنونٍ }
والجنة بكسر الجيم اسم للجنون ، وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من أثر مسّ الجن إيّاه في عرف الناس ، ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر ، بحرف الباء الدال على الملابسة . وإنما أنكر عليهم وعُجّب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه غير مجنون ، رداً عليهم وصفهم إياه بالجنون { وقالوا يأيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] ، { وقالوا معلمٌ مجنونٌ } [ الدخان : 14 ] وهذا كقوله تعالى : { وما صاحبكم بمجنون } [ التكوير : 22 ] .
وجملة : { إن هو إلا نذير مبين } استئناف بياني لجواب سائِل منهم يقول : فماذا شأنه ، أو هي تقرير لحكم جملة : { ما بصاحبهم من جنة } ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغني عن العطف .
والنذير المحذر من شيء يضر ، وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم ، ومنه المثل « أنا النذير العُريان » يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير .
وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مُفْعل ، مثل الحكيم ، بمعنى المحكم ، وقول عمرو بن معديكرب :
أي المُسْمع . والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح ، ووقع هذا الوصف عقب الإخبار ب ( نذير ) يقتضي أنه وصف للخبر ، فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكاً في صدقه ، ولا في تصوير الحال المحذر منها ، فالغرض من اتباع « النذير » بوصف « المبين » التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته ، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه ، وذلك يقطع عذرهم .
ويجوز جعل { مبين } خبراً ثانياً عن ضمير صاحبهم ، والمعنى أنه نذير وأنه مبين فيما يبلغه من نذارة وغيرها .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ، وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والبيان ، وذلك قصر إضافي ، هو قصر قلب ، أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون ، وفي هذا استغباء أو تسفيهٌ لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون . فدعواهم جنونه : إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة ، وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول .