{ فانقلبوا } أي : رجعوا { بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }
وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم ، وندم من تخلف منهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم ، واستمروا راجعين إلى مكة ، ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل ، حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم ، ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة ، فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم ، وتقواهم عن معصيته ، لهم أجر عظيم ، وهذا فضل الله عليهم .
ثم حكى - سبحانه - ما تم لهؤلاء المجاهدين الذين خرجوا للقاء أعدائهم من عاقبة حسنة وعود حميد فقال - تعالى - : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
فالفاء فى قوله { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } للتعقيب ، وهى معطوفة على مقدر دل عليه السياق .
ومعنى { انقلبوا } عادوا ورجعوا .
والنعمة : هى العطاء الذى ينفع صاحبه . والفضل : الزيادة فى العطاء والنعمة .
والمعنى : أن هؤلاء المجاهدين الصادقين خرجوا للقاء أعدائهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة فلم يجدوهم ، فرجعوا إلى ديارهم مصحوبين { بِنِعْمَةٍ } عظيمة { مِّنَ الله } - تعالى - ، إذ خذل أعداءهم ، وسملهم من شرورهم ، ومصحوبين بفضل جليل منه - سبحانه - حيث أغدق عليهم ربحا وفيرا فى تجارتهم ، وأجراً جزيلا بسبب قوة إيمانهم ، وإخلاصهم فى دينهم .
قال الآلوسى : " روى البيهقى عن ابن عباس أن عيراً مرت فى أيام الموسم - أى موسم بدر - فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل " .
وأخرج ابن جرير عن السدى قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى غزوة بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم ، فأصابوا تجارة - فربحوا بها " .
وقوله { بِنِعْمَةٍ } فى موضع الحال من الضمير { فانقلبوا } فتكون الباء للملابسة أو للمصاحبة فكأنه قيل : فانقلبوا متلبسين بنعمة أو مصاحبين لها .
وقوله { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف صفة لنعمة ، وهو مؤكد لفخامتها وأنها نعمة جزيلة لا يقدر قدرها .
وقوله { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أى لم يصبهم أى أذى أو مكروه عند خروجهم وعودتهم .
والجملة فى موضع الحال من فاعل { انقلبوا } أى رجعوا منعمين مبرئين من السوء والأذى .
وقوله { واتبعوا رِضْوَانَ الله } معطوف على قوله { فانقلبوا } .
أى اتبعوا ما يرضى الله ويوصلهم إلى مثوبته ورحمته ، باستجابتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم وخروجهم للقاء أعدائهم بإيمان عميق ، وعزم وثيق .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد أخبر عن هؤلاء المجاهدين المخلصين أنهم قد صحبهم فى عودتهم أمور أربعة :
وهذا كله قد منحه الله لهم جزاء إخلاصهم وثباتهم على الحق الذى آمنوا به .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } .
أى والله - تعالى - صاحب الفضل العظيم الذى لا يحده حصر ، ولا يحصيه عد ، هو الذى تفضل على هؤلاء المؤمنين الصادقين بما تفضل به نم عطاء كريم ، وثواب جزيل .
وفى هذا التذيل زيادة تبشير للمؤمنين برعاية الله لهم ، وزيادة تحسير للمتخلفين عن الجهاد فى سبيله - عز وجل - ، حيث حرموا أنفسهم مما فاز به المؤمنون الصادقون .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه ، المكتفي به ، المتجردين له :
( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله ) .
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء : نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع ، فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله ، لأن هذا هو الأصل الكبير ، الذي يرجع إليه كل فضل ، وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد ، وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله ، صورتهم هذه ، وموقفهم هذا ، وهي صورة رفيعة ، وهو موقف كريم .
وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف ، فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة ، التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة . . لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ؛ وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش ، وأيقظ القلوب ، وثبت الأقدام ، وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
وقوله تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } يريد في السلامة والظهور في اتباع العدو وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه ، وباقي الآية بين قد مضت نظائره ، هذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية ، وأنها في غزوة -أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال : إن هذه الآية من قوله : { الذين قال لهم الناس } إلى قوله : { فضل عظيم } إنما نزلت في خروج النبي عليه السلام إلى بدر الصغرى ، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في - أحد - إذ قال : موعدنا بدر من العام المقبل ، فقال النبي عليه السلام : ( قولوا نعم ) {[3723]} : فخرج رسول الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي{[3724]} فأخبره أن قريشاً قد اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها ، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم قالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل } ، وصمموا حتى أتوا بدراً فلم يجدوا عدواً ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدماً وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيداً وربحوا في تجارتهم ، فذلك قوله تعالى : { بنعمة من الله وفضل }{[3725]} أي فضل في تلك التجارة ، والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، وما قال ابن قتيبة وغيره : من أن لفظة { الناس } على رجل واحد من هذه الآية ، فقول ضعيف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.