فلما سمع عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك ، وعلم مقصودهم ، أجابهم إلى طلبهم في ذلك ، فقال : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ } أي : يكون وقت نزولها عيدا وموسما ، يتذكر به هذه الآية العظيمة ، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات وتكرر السنين .
كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته ، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة ، وفضله وإحسانه عليهم . { وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ } أي : اجعلها لنا رزقا ، فسأل عيسى عليه السلام نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين ، مصلحة الدين بأن تكون آية باقية ، ومصلحة الدنيا ، وهي أن تكون رزقا .
ثم حكى - سبحانه - ما تضرع به عيسى بعد أن سمع من الحواريين ما قالوه في سبب طلبهم لنزول المائدة من السماء فقال - تعالى - { قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } .
وقوله : { اللهم } أي : يا الله . فالميم المشددة عوض عن حرف النداء ، ولذلك لا يجتمعان . وهذا التعويض خاص بنداء الله ذي الجلالة والإِكرام .
وقوله : { عيدا } أي سرورا وفرحا لنا ، لأن كلمة العيد تستعمل بمعنى الفرح والسرور .
قال القرطبي : والعيد واحد الأعياد . أصله من عاد يعود أي : رجع وقيل ليوم الفطر والأضحى عيد ، لأنهما يعودان كل سنة . وقال الخليل : " العيد كل يوم يجمع الناس فيه كأنهم عادوا إليه ، وقال ابن الانباري : سمعى عيدا للعود إلى المرح والفرح فهو يوم سرور " .
والمعنى : قال عيسى بضراعة وخشوع - بعد أن سمع من الحواريين حجتهم - { اللهم رَبَّنَآ } أي : يا الله يا ربنا ومالك أمرنا ، ومجيب سؤالنا . أتوسل إليك أن تنزل علينا { مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } أي : أطعمة كائنة من السماء هذه الأطعمة { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } أي : يكون يوم نزولهاه عيدا نعظمه ونكثر من التقرب إليك فيه نحن الذين شاهدناها ، ويكون - أيضاً - يوم نزولها عيداً وسروراً وبهجة لمن سيأتي بعدنا ممن لم يشاهدنا .
قال ابن كثير . قال السدي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا . وقال سفيان الثوري : يعني يوما نصلي فيه . وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم . وقال سلمان الفارسي : تكون عظة لنا ولمن بعدنا .
وقوله : { وَآيَةً مِّنْكَ } معطوف على قوله { عيداً } .
أي : تكون هذه المائدة النازلة من السماء عيداً لأولنا وآخرنا ، وتكون أيضاً - دليلا - وعلامة منك - سبحانك - على صحة نبوتي ورسالتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك ، ويزداد يقينهم بكمال قدرتك .
وقوله : { وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } تذييل بمثابة التعليل لما قبله . أي : أنزلها علينا يا ربنا وأزرقنا من عندك رزقنا هنيئا رغداً ، فإنك أنت خير الرازقين ، وخير المعطين ، وكل عطاء من سواك لا يغني ولا يشبع .
وقد جمع عيسى في دعائه بين لفظي " اللهم ربنا " إظهاراً لنهاية التضرع وشدة الخضوع ، حتى يكون تضرعه أهلا للقبول والإِجابة .
وعبر عن مجيء المائدة بالإنزال من السماء للإِشارة إلى أنها هبة رفيعة ، ونعمة شريفة ، آتية من مكان عال مرتفع في الحسن والمعنى ، فيجب أن تقابل بالشكر لواهبها - عز وجل - وبتمام الخضوع والإِخلاص له .
وقوله { تَكُونُ لَنَا عِيداً } صفة ثانية لمائدة ، وقوله { لنا } خبر كان وقوله { عيداً } حال من الضمير في الظرف .
قال الفخر الرازي : تأمل في هذا الترتيب ، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل فقالوا { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } وأخروا الأغراض الدينية الروحانية .
فأما عيسى فإنه لما ذكر المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال : { وارزقنا } وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحية ، وبعضها جسمانية .
ثم إن عيسى لشدة صفاء دينه لما ذكرالرزق انتقل إلى الرازق بقوله { وارزقنا } لم يقف عليه : بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال : { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } فقوله : { ربنا } ابتداء منه بذكر الحق . وقوله { أَنزِلْ عَلَيْنَا } انتقال من الذات إلى الصفات .
وقوله { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة ، بل من حيث إنها اصدرة من المنعم .
وقوله : { وَآيَةً مِّنْكَ } إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظرو الاستدلال .
وقوله : { وارزقنا } إشارة إلى حصة النفس .
ثم قال الإِمام الرازي : فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون .
ثم قال : { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين } وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، ومن غير الله إلى الله ، وعند ذلك تلوح لك سمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية إلى الكمالات الإِلهية ونزولها .
عندئذ اتجه عيسى - عليه السلام - إلى ربه يدعوه :
( قال عيسى ابن مريم : اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ، وآية منك ، وارزقنا وأنت خير الرازقين ) . .
وفي دعاء عيسى - بن مريم - كما يكرر السياق القرآني هذه النسبة - أدب العبد المجتبي مع إلهه ومعرفته بربه . فهو يناديه : يا الله . يا ربنا . إنني أدعوك أن تنزل علينا مائدة من السماء ، تعمنا بالخير والفرحة كالعيد ، فتكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ؛ وأن هذا من رزقك فارزقنا وأنت خير الرازقين . . فهو إذن يعرف أنه عبد ؛ وأن الله ربه . وهذا الاعتراف يعرض على مشهد من العالمين ، في مواجهة قومه ، يوم المشهد العظيم !
ذكر الله تعالى عن عيسى أنه أجابهم إلى دعاء الله في أمر المائدة . فروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو . و { اللهم } عند سيبويه أصلها يا الله فجعلت الميمان بدلاً من ياء و { ربنا } منادى آخر ، ولا يكون صفة لأن { اللهم } يجري مجرى الأصوات من أجل ما لحقه من التغيير ، وقرأ الجمهور «تكون لنا » على الصفة للمائدة . وقرأ ابن مسعود والأعمش «تكن لنا » على جواب { أنزل } .
والعيد : المجتمع واليوم المشهود ، وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر والجمعة ونحوه . وهو من عاد يعود فأصله الواو ولكن لزمته الياء من أجل كسرة العين{[4797]} .
وقرأ جمهور الناس «لأولنا وآخرنا » وقرأ زيد بن ثابت وابن محيصن والجحدري : «لأولنا وأخرانا »{[4798]} . واختلف المتأولون في معنى ذلك ، فقال السدي وقتادة وابن جريج وسفيان : لأولنا معناه لأول الأمة ثم لمن بعدهم حتى لآخرها يتخذون ذلك اليوم عيداً . وروي عن ابن عباس أن المعنى يكون مجتمعاً لجميعنا أولنا وآخرنا ، قال : وأكل من المائدة حين وضعت أول الناس كما أكل آخرهم .
قال القاضي أبو محمد : فالعيد على هذا لا يراد به المستدير ، وقوله { وآية منك } أي علامة على صدقي وتشريفي .