والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري : ( وما أدراك ما ليلة القدر ? )وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة . فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن . وإفاضة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية ، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير .
كما عظمه بأن أسند نزوله إليه وعظم الوقت الذي أنزل فيه بقوله { وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر } وإنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها ، أو أنزله جملة من اللوح إلى السماء الدنيا على السفرة ، ثم كان جبريل عليه الصلاة والسلام ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة . وقيل : المعنى أنزلناه في فضلها ، وهي في أوتار العشر الأخير في رمضان ، ولعلها السابعة منها ، والداعي إلى إخفائها أن يحيي من يريدها ليالي كثيرة . وتسميتها بذلك لشرفها ، أو لتقدير الأمور فيها ، لقوله سبحانه وتعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم ، وذكر الألف إما للتكثير أو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر إسرائيليا يلبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون ، وتقاصرت إليهم أعمالهم ، فأعطوا ليلة القدر هي خير من مدة ذلك الغازي .
وقوله تعالى : { وما أدراك ما ليلة القدر } ليلة القدر عبارة عن تفخيم لها ، ثم أدراه تعالى بعد قوله : { ليلة القدر خير } ، قال ابن عيينة في صحيح البخاري : ما كان في القرآن : { وما أدراك } فقد أعلمه ، وما قال : «وما يدريك » فإنه لم يعلم{[11919]} ، وذكر ابن عباس وقتادة وغيره : أنها سميت ليلة القدر ، لأن الله تعالى يقدر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العالم كلها ، ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله ، وقد روي مثل هذا في ليلة النصف من شعبان ، ولهذا ظواهر من كتاب الله عز وجل على نحو قوله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم }{[11920]} [ الدخان : 4 ] ، وأما الصحة المقطوع بها فغير موجودة ، وقال الزهري معناه : ليلة القدر العظيم والشرف الشأن ، من قولك : رجل له قدر ، وقال أبو بكر الوراق : سميت ليلة القدر لأنها تسب من أحياها قدراً عظيماً لم يكن من قبل ، وترده عظيماً عند الله تعالى ، وقيل : سميت بذلك لأن كل العمل فيها له قدر خطير ، وليلة القدر مستديرة في أوتار{[11921]} العشر الأواخر من رمضان ، هذا هو الصحيح المعول عليه ، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر ، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كل ليلة إلى آخر الشهر ، لأن الأوتار مع كمال الشهر ، ليست الأوتار مع نقصانه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسل : «لثالثة تبقى ، لخامسة تبقى ، لسابعة تبقى{[11922]} » ، وقال : «التمسوها في الثالثة والخامسة والسابعة والتاسعة{[11923]} » ، وقال مالك : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين ، وقال ابن حبيب : يريد مالك إذا كان الشهر ناقصاً ، فظاهر هذا أنه عليه السلام احتاط في كمال شهر ونقصانه ، وهذا لا تتحصل معه الليلة إلا بعمارة العشر كله ، وروي عن أبي حنيفة وقوم : أن ليلة القدر رفعت ، وهذا قول مردود ، وإنما رفع تعيينها ، وقال ابن مسعود : من يقم السنة كلها يصبها ، وقال أبو رزين : هي أول ليلة من شهر رمضان ، وقال الحسن : هي ليلة سبع عشرة ، وهي التي كانت في صبيحتها وقعة بدر ، وقال كثير من العلماء : هي ليلة ثلاث وعشرين ، وهي رواية عبد الله بن أنيس الجهني ، وقاله ابن عباس ، وقال أيضاً وهو وجماعة من الصحابة : هي ليلة سبع وعشرين ، واستدل ابن عباس على قوله بأن الإنسان خلق من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، واستحسن ذلك عمر رضي الله عنه ، وقال زيد بن ثابت وبلال : هي ليلة أربع عشرين ، وقال بعض العلماء : أخفاها الله تعالى عن عباده ليجدوا في العمل ولا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها ، ثم عظم تعالى أمر ليلة القدر على نحو قوله : { وما أدراك ما الحاقة } [ الحاقة : 2 ] وغير ذلك
تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة .
وكلمة ( ما أدراك ما كذا ) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر ، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها ، وقد تقدمت غير مرة منها ، قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار ( 17 ) قريباً . والواو واو الحال .
وأعيد اسم { لَيْلَةُ القدر } الذي سَبق قريباً في قوله : { في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] على خلافِ مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها ، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحاً ، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: { وَمَا أدْرَاكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ } يقول: وما أشعرك يا محمد أيّ شيء ليلة القدر. "خير من ألف شهر" .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ؛ فقال بعضهم : معنى ذلك : العمل في ليلة القدر بما يرضي الله ، خير من العمل في غيرها ألفَ شهر ...
وقال آخرون : معنى ذلك أن ليلة القدر خير من ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر ...
وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزليل قول من قال : عمل في ليلة القَدْر خير من عمل ألف شهر ، ليس فيها ليلة القَدْر ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ وما أدراك ما ليلة القدر } هذا يحتمل وجهين : أحدهما : يقول : ما كنت تدري حتى أدراك ، كقوله : { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } ( هود : 49 ) . ( والثاني ) : قوله : { وما أدراك } على التعظيم لها والتعجيب ، والله أعلم . وقيل : نزول هذه الآية على معنى التسلي ، أعطاه فضل هذه الليلة والعمل بها ....
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ } تنبيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على فضلها ، وحثّاً على العمل فيها ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يعني : ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علوّ قدرها . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وما أدراك } أي وأي شيء أعلمك وأنت شديد التفحص { ما ليلة القدر } أي لم تبلغ درايتك وأنت أعلم الناس غاية فضلها ومنتهى عليّ قدرها على ما لك من سعة العلم ، وإحاطة الفكر ، وعظيم المواهب . ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر } لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعِرُ بهِ . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري : ( وما أدراك ما ليلة القدر ? )وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة . فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن . وإفاضة هذا النور على الوجود كله ، وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تنويه بطريق الإِبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة . وكلمة ( ما أدراك ما كذا ) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيُّ شيء يُعَرِّفك ما هي ليلة القدر ، أي يعسر على شيءٍ أن يعرِّفك مقدارَها ، وقد تقدمت غير مرة منها ، قوله : { وما أدراك ما يوم الدين } في سورة الانفطار ( 17 ) قريباً . والواو واو الحال . وأعيد اسم { لَيْلَةُ القدر } الذي سَبق قريباً في قوله : { في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] على خلافِ مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإِضمارُ ، فقُصِد الاهتمامُ بتعيينها ، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحاً ، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ليلة القدر سرّ من أسرار الله { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه ، لأن ذلك سرّ الله في الزمان كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص. ...