{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
يخبر تعالى ، عن عبده وخليله ، إبراهيم عليه السلام ، المتفق على إمامته وجلالته ، الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه ، بل وكذلك المشركون : أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات ، أي : بأوامر ونواهي ، كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده ، ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء ، والامتحان من الصادق ، الذي ترتفع درجته ، ويزيد قدره ، ويزكو عمله ، ويخلص ذهبه ، وكان من أجلِّهم في هذا المقام ، الخليل عليه السلام .
فأتم ما ابتلاه الله به ، وأكمله ووفاه ، فشكر الله له ذلك ، ولم يزل الله شكورا فقال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي : يقتدون بك في الهدى ، ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية ، ويحصل لك الثناء الدائم ، والأجر الجزيل ، والتعظيم من كل أحد .
وهذه - لعمر الله - أفضل درجة ، تنافس فيها المتنافسون ، وأعلى مقام ، شمر إليه العاملون ، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم ، من كل صديق متبع لهم ، داع إلى الله وإلى سبيله .
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام ، وأدرك هذا ، طلب ذلك لذريته ، لتعلو درجته ودرجة ذريته ، وهذا أيضا من إمامته ، ونصحه لعباد الله ، ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون ، فلله عظمة هذه الهمم العالية ، والمقامات السامية .
فأجابه الرحيم اللطيف ، وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال : { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } أي : لا ينال الإمامة في الدين ، من ظلم نفسه وضرها ، وحط قدرها ، لمنافاة الظلم لهذا المقام ، فإنه مقام آلته الصبر واليقين ، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة ، والأخلاق الجميلة ، والشمائل السديدة ، والمحبة التامة ، والخشية والإنابة ، فأين الظلم وهذا المقام ؟
ودل مفهوم الآية ، أن غير الظالم ، سينال الإمامة ، ولكن مع إتيانه بأسبابها .
{ وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ . . . }
الابتلاء : الاختبار . أي . اختبره ربه - تعالى - بما كلفه به من الأوامر والنواهي ، ومعنى اختبار الله - تعالى - لعبده ، أن يعامله معاملة المختبر مجازاً ، إذ حقيقة الاختيار محالة عليه - تعالى - لعلمه المحيط بالأشياء والله - تعالى - تارة يختبر عباده بالضراء ليصبروا . وتارة بالسراء ليشكروا وفي كلتا الحالتين تبدو النفس البشرية على حقيقتها .
وفي إسناد الابتلاء إلى الرب إشعار للتالي أو للسامع بأنه ابتلاه بما ابتلاه به تربية له ، وتقوية لعزمه ، حتى يستطيع النهوض بعظائم الأمور .
وقد اختلف المفسرون في تعيين المراد بالكلمات التي اختبر الله بها نبيه إبراهيم - عليه السلام - على أقوال كثيرة .
قال ابن جرير : " ولا يجوز الجزم بشيء مما ذ كروه منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا نبقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ولعل أرجح الآراء في المراد بهذه الكلمات ، أنها الأوامر التي كلفه الله بها ، فأتى بها على أتم وجه " .
وقوله : { فَأَتَمَّهُنَّ } أي أتى بهن على الوجه الأكمل ، وأداهن أداء تاماً يليق به - عليه السلام - ولذا مدحه الله بقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } وجيء بالفاء في { فَأَتَمَّهُنَّ } للدلالة على الفور والامتثال . وذلك من شدة العزم ، وقوة اليقين .
وفي إجمال القرآن لتلك الكلمات التي امتحن الله بها إبراهيم ، وفي وصفه له بأنه أتمهن ، إشعار بأنها من الأعمال التي لا ينهض بها إلا ذو عزم قوي يتلقى أوامر ربه بحسن الطاعة وسرعة الامتثال .
وقدم المفعول وهو لفظ إبراهيم ؛ لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم الرب إلى اسمه مع مراعاة الإِيجاز ، فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم .
وجملة { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } مستأنفة لبيان ما من الله به على إبراهيم من الكرامة ورفعة المقام ، بعد أن ذكر - سبحانه - أنه عامله معاملة المختبر له ، إذ كلفه بأمور شاقه فأحسن القيام بها .
جاعلك : من جعل يعني صير . والإِمام : القدوة الذي يؤتم به في أقواله وأفعاله . والمراد بالإِمامة هنا : الرسالة والنبوة ، فإنهما أكمل أنواع الإِمامة ، والرسول أكمل أفراد هذا النوع ، وقد كان إبراهيم - عليه السلام - رسولا يقتدي به الناس في أصول الدين ومكارم الأخلاق .
وقال : { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماًْ } ولم يقل : " إني جاعلك للناس رسولا ، ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم - عليه السلام - قد رحل إلى آفاق كثيرة ، فانتقل من بلاد الكلدان إلى العراق ، وإلى الشام ، وإلى الحجاز ، وإلى مصر وكان في جميع منازلة أسوة حسنة لغيره .
وقد مدح القرآن إبراهيم في كثير من آياته ، ومن ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } وجملة { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } واقعة موقع الجواب عما من شأنه أن يخطر في نفس السامع ، فكأنه قال : وماذا كان من إبراهيم عندما تلقى من ربه تلك البشارة العظمى ؟ فكان الجواب أن إبراهيم قد التمس الإِمامة لبعض ذريته أيضاً .
أي : قال إبراهيم : واجعل يا رب من ذريتي أئمة يقتدي بهم .
وقد رد الله - تعالى - على قول إبراهيم بقولك { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } .
وإنما قال إبراهيم ومن ذريتي ولم يقل وذريتي ، لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو غير مألوف عادة ، لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء .
أي : قال الله لإبراهيم : قد أجبتك وعاهدتك بأن أحسن إلى ذريتك لكن لا يصيب عهدي الذي عهدته إليك بالإِمامة الذين ظلموا منهم ، فالعهد هنا بمعنى الإِمامة المشار إليها في قوله : { جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } .
وفي هذه الجملة الكريمة إيجاز بديع ، إذ المراد منها إجابة طلب إبراهيم من الإِنعام على بعض ذريته بالإِمامة كما قال - تعالى - :
{ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } ولكنها تدل صراحة على أن الظالمين من ذريته ليسوا أهلا لأن يكونوا أئمة يقتدي بهم ، وتشير إلى أن غير الظالمين منه قد تنالهم النبوة ، وقد نالت من ذريته إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء .
قال - تعالى - : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ }
( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن . قال : إني جاعلك للناس إماما . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . .
يقول للنبي [ ص ] اذكر ما كان من ابتلاء الله لإبراهيم بكلمات من الأوامر والتكاليف ، فأتمهن وفاء وقضاء . . وقد شهد الله لإبراهيم في موضع آخر بالوفاء بالتزاماته على النحو الذي يرضى الله عنه فيستحق شهادته الجليلة : ( وإبراهيم الذي وفى ) . . وهو مقام عظيم ذلك المقام الذي بلغه إبراهيم . مقام الوفاء والتوفية بشهادة الله عز وجل . والإنسان بضعفه وقصوره لا يوفي ولا يستقيم !
عندئذ استحق إبراهيم تلك البشرى . أو تلك الثقة :
( قال : إني جاعلك للناس إماما ) . .
إماما يتخذونه قدوة ، ويقودهم إلى الله ، ويقدمهم إلى الخير ، ويكونون له تبعا ، وتكون له فيهم قيادة .
عندئذ تدرك إبراهيم فطرة البشر : الرغبة في الامتداد عن طريق الذراري والأحفاد . ذلك الشعور الفطري العميق ، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتمضي في طريقها المرسوم ، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق ، وتتعاون الأجيال كلها وتتساوق . . ذلك الشعور الذي يحاول بعضهم تحطيمه أو تعويقه وتكبيله ؛ وهو مركوز في أصل الفطرة لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى . وعلى أساسه يقرر الإسلام شريعة الميراث ، تلبية لتلك الفطرة ، وتنشيطا لها لتعمل ، ولتبذل أقصى ما في طوقها من جهد . وما المحاولات التي تبذل لتحطيم هذه القاعدة إلا محاولة لتحطيم الفطرة البشرية في أساسها ؛ وإلا تكلف وقصر نظر واعتساف في معالجة بعض عيوب الأوضاع الاجتماعية المنحرفة . وكل علاج يصادم الفطرة لا يفلح ولا يصلح ولا يبقى . وهناك غيره من العلاج الذي يصلح الانحراف ولا يحطم الفطرة . ولكنه يحتاج إلى هدى وإيمان ، وإلى خبرة بالنفس البشرية أعمق ، وفكرة عن تكوينها أدق ، وإلى نظرة خالية من الأحقاد الوبيلة التي تنزع إلى التحطيم والتنكيل ، أكثر مما ترمي إلى البناء والإصلاح :
وجاءه الرد من ربه الذي ابتلاه واصطفاه ، يقرر القاعدة الكبرى التي أسلفنا . . إن الإمامة لمن يستحقونها بالعمل والشعور ، وبالصلاح والإيمان ، وليست وراثة أصلاب وأنساب . فالقربى ليست وشيجة لحم ودم ، إنما هي وشيجة دين وعقيدة . ودعوى القرابة والدم والجنس والقوم إن هي إلا دعوى الجاهلية ، التي تصطدم اصطداما أساسيا بالتصور الإيماني الصحيح :
( قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . . .
والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي . . والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معاني الإمامة : امامة الرسالة ، وإمامة الخلافة ، وإمامة الصلاة . . وكل معنى من معاني الإمامة والقيادة . فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أية صورة من صورها . ومن ظلم - أي لون من الظلم - فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها ؛ بكل معنى من معانيها .
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع فيتنحية اليهود عن القيادة والإمامة ، بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما عتوا عن أمر الله ، وبما انحرفوا عن عقيدة جدهم إبراهيم . .
وهذا الذي قيل لإبراهيم - عليه السلام - وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض قاطع كذلك في تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم . بما ظلموا ، وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله ، وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم . . ودعواهم الإسلام ، وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله .
إن التصور الإسلامي يقطع الوشائج والصلات التي لا تقوم على أساس العقيدة والعمل . ولا يعترف بقربى ولا رحم إذا أنبتت وشيجة العقيدة والعمل ويسقط جميع الروابط والاعتبارات ما لم تتصل بعروة العقيدة والعمل . . وهو يفصل بين جيل من الأمة الواحدة وجيل إذا خالف أحد الجيلين الآخر في عقيدته ، بل يفصل بين الوالد والولد ، والزوج والزوج إذا انقطع بينهما حبل العقيدة . فعرب الشرك شيء وعرب الإسلام شيء آخر . ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة . والذين آمنوا من أهل الكتاب شيء ، والذين انحرفوا عن دين إبراهيم وموسى وعيسى شيء آخر ، ولا صلة بينهما ولا قربى ولا وشيجة . . إن الأسرة ليست آباء وأبناء وأحفادا . . إنما هي هؤلاء حين تجمعهم عقيدة واحدة . وإن الأمة ليست مجموعة أجيال متتابعة من جنس معين . . إنما هي مجموعة من المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وأوطانهم وألوانهم . . وهذا هو التصور الإيماني ، الذي ينبثق من خلال هذا البيان الرباني ، في كتاب الله الكريم . .
يقول تعالى مُنَبِّهًا على شرف إبراهيم خليله ، عليه السلام{[2632]} وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد ، حتى{[2633]} قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ؛ ولهذا قال : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } أي : واذكر - يا محمد - لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملَّة إبراهيم وليسوا عليها ، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين{[2634]} معك من المؤمنين ، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم ، أي : اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي { فَأَتَمَّهُنَّ } أي : قام{[2635]} بهن كلهن ، كما قال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] ، أي : وفى جميع ما شرع له ، فعمل به صلوات الله عليه ، وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 - 123 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 67 ، 68 ]
وقوله تعالى : { بِكَلِمَاتٍ } أي : بشرائع وأوامر ونواه ، فإن الكلمات تطلق ، ويراد بها الكلمات القدرية ، كقوله تعالى عن مريم ، عليها السلام ، :
{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } [ التحريم : 12 ] . وتطلق ويراد بها الشرعية ، كقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ]{[2636]} } [ الأنعام : 115 ] أي : كلماته الشرعية . وهي إما خبر صدق ، وإما طلب عدل إن كان أمرًا أو نهيًا ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } أي : قام بهن . قال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } أي : جزاء على ما فَعَل ، كما قام بالأوامر وتَرَكَ الزواجر ، جعله الله للناس قدوة وإمامًا يقتدى به ، ويحتذى حذوه .
وقد اختلف [ العلماء ]{[2637]} في تفسير{[2638]} الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل ، عليه السلام . فروي عن ابن عباس في ذلك روايات :
فقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، قال ابن عباس : ابتلاه الله بالمناسك . وكذا رواه أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن التميمي ، عن ابن عباس .
وقال عبد الرزاق - أيضًا - : أخبرنا معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ؛ في الرأس : قَص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفَرْق الرأس . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونَتْف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء{[2639]} .
قال ابن أبي حاتم : ورُوِي عن سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، والنَّخَعي ، وأبي صالح ، وأبي الجلد ، نحو ذلك .
قلت : وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَشْرٌ من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظفار ، وغسل البرَاجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء " [ قال مصعب ]{[2640]} ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة .
قال وَكِيع : انتقاص الماء ، يعني : الاستنجاء{[2641]} .
وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط " . ولفظه لمسلم{[2642]} .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن ابن هُبيرة ، عن حَنَش{[2643]} بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس : أنه كان يقول في هذه الآية : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال : عَشْرٌ ، ست في الإنسان ، وأربع في المشاعر . فأما التي في الإنسان : حلق العانة ، ونتف الإبط ، والختان . وكان ابن هبيرة يقول : هؤلاء الثلاثة واحدة . وتقليم الأظفار ، وقص الشارب ، والسواك ، وغسل يوم الجمعة . والأربعة التي في المشاعر : الطواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة .
وقال داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم ، قال الله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قلت له : وما الكلماتُ التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال : الإسلام ثلاثون سهمًا ، منها عشر آيات في براءة : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ [ الْحَامِدُونَ ] {[2644]} } [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية{[2645]} وعشر آيات في أول سورة { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } و { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } وعشر آيات في الأحزاب : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية ، فأتمهن كلهن ، فكتبت له براءة . قال الله :
{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [ النجم : 37 ] .
هكذا رواه الحاكم ، وأبو جعفر بن جرير ، وأبو محمد بن أبي حاتم ، بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند ، به{[2646]} . وهذا لفظ ابن أبي حاتم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه - في الله - حين أمر بمفارقتهم . ومحاجَّته نمروذ{[2647]} - في الله - حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه . وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه - في الله - على هول ذلك من أمرهم . والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده - في الله - حين أمره بالخروج عنهم ، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله ، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه ، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء{[2648]} قال الله له : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } على ما كان من خلاف الناس وفراقهم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن - يعني البصري - : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [ فَأَتَمَّهُنَّ ]{[2649]} } قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه ، وابتلاه بالختان فرضي عنه ، وابتلاه بابنه فرضي عنه .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : أي والله ، ابتلاه بأمر فصبر عليه : ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه{[2650]} دائم لا يزول ، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين . ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله ، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك . وابتلاه الله بذبح ابنه{[2651]} والختان فصبر على ذلك .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عمن سمع الحسن يقول في قوله : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [ فَأَتَمَّهُنَّ ]{[2652]} }
قال : ابتلاه الله بذبح ولده ، وبالنار ، والكوكب{[2653]} والشمس ، والقمر .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا سَلْم بن قتيبة ، حدثنا أبو هلال ، عن الحسن { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } قال : ابتلاه بالكوكب ، والشمس ، والقمر ، فوجده صابرًا .
وقال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } فمنهن : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }{[2654]} ومنهن :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } ومنهن : الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم ، والرزق الذي رزق ساكنو البيت ، ومحمد بعث في دينهما .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال الله لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال : تجعلني للناس إمامًا . قال : نعم . قال : ومن ذريتي ؟ { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال : نعم . قال : وأمنًا . قال : نعم . قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال : نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟ قال : نعم .
قال ابن أبي نَجِيح : سمعته من عكرمة ، فعرضته على مجاهد ، فلم ينكره .
وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
وقال سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } قال : ابتلي بالآيات التي بعدها : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [ فَأَتَمَّهُنَّ ]{[2655]} } قال : الكلمات : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }
وقوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } وقوله { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } الآية ، وقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية ، قال : فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم .
قال السدي : الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم رَبُّه : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } ، { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ [ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ]{[2656]} } .
[ وقال القرطبي : وفي الموطأ وغيره ، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم ، عليه السلام ، أول من اختتن وأول من ضاف الضيف ، وأول من استحد ، وأول من قَلَّم أظفاره ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب فلما رأى الشيب ، قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب ، زدني وقارًا . وذكر ابن أبي شيبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم ، عليه السلام ، قال غيره : وأول من برَّد البريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل ، وروي عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم ، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم " قلت : هذا حديث لا يثبت ، والله أعلم . ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية ]{[2657]} .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله : أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميعُ ما ذكر ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزمُ بشيء منها أنه المرادُ على التعيين إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له .
قال : غَيْرَ أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران ، أحدهما ما حدثنا به أبو كُرَيْب ، حدثنا رشدين بن سعد ، حدثني زبان بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله { الَّذِي وَفَّى }
[ النجم : 37 ] ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] حتى يختم الآية " {[2658]}
قال : والآخر منهما : حدثنا به أبو كريب ، أخبرنا الحسن ، عن عطية ، أخبرنا إسرائيل ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } أتدرون ما وفى ؟ " . قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " وفَّى عمل يومه ، أربع ركعات في النهار " .
ورواه آدم في تفسيره ، عن حماد بن سلمة . وعبد بن حميد ، عن يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن جعفر بن الزبير ، به{[2659]} .
ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين ، وهو كما قال ؛ فإنه لا تجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما ، وضعفهما من وجوه عديدة ، فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء ، مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه [ والله أعلم ]{[2660]} .
ثم قال ابن جرير : ولو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبًا ، فإن قوله : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } وقوله : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وسائر الآيات التي هي نظير ذلك ، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم .
قلت : والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر ، أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله ؛ لأن السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم .
وقوله : { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } لما جعل الله إبراهيم إمامًا ، سأل الله أن تكون الأئمةُ من بعده من ذريته ، فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون ، وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم ، والدليل على أنه أجيب إلى طَلِبَتِهِ قول الله{[2661]} تعالى في سورة العنكبوت : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [ العنكبوت : 27 ] فكل نبي أرسله الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه{[2662]} .
وأما قوله تعالى : { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فقد اختلفوا في ذلك ، فقال خَصِيف ، عن مجاهد في قوله : { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : إنه سيكون في ذريتك ظالمون .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : لا يكون لي إمام ظالم [ يقتدى به ]{[2663]} . وفي رواية : لا {[2664]}أجعل إمامًا ظالمًا يقْتَدَى به . وقال سفيان ، عن{[2665]} منصور ، عن مجاهد في قوله تعالى : { قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : لا يكون إمام ظالم يقتدى به .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا شريك ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } قال : أما من كان منهم صالحًا فسأجعله إمامًا يقتدى به ، وأما من كان ظالما فلا ولا نُعْمَةَ عَيْنٍ .
وقال سعيد بن جبير : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } المراد به المشرك ، لا يكون إمام ظالم . يقول : لا يكون إمام مشرك .
وقال ابن جُرَيج ، عن عطاء ، قال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يجعل من ذريته إمامًا ظالمًا . قلت لعطاء : ما عهده ؟ قال : أمره .
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا عمرو بن ثور القيساري{[2666]} فيما كتب إلي ، حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال الله لإبراهيم : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأبى أن يفعل ، ثم قال : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : { قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده - ولا ينبغي [ له ]{[2667]} أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله - ومحسن ستنفذ فيه دعوته ، وتبلغ له فيه ما أراد من مسألته .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : يعني لا عهدَ لظالم عليك في ظلمه ، أن تطيعه فيه .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ، عن إسرائيل ، عن مسلم الأعور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانتقضه{[2668]} .
وروي عن مجاهد ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك .
وقال الثوري ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : ليس لظالم عهد .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة ، في قوله : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : لا ينال عهدُ الله في الآخرة{[2669]} الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به ، وأكل وعاش .
وكذا قال إبراهيم النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة .
وقال الربيع بن أنس : عهد الله الذي عهد إلى عباده : دينه ، يقول : لا ينال دينه الظالمين ، ألا ترى أنه قال : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 113 ] ، يقول : ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق
وكذا روي عن أبي العالية ، وعطاء ، ومقاتل بن حيان .
وقال جويبر ، عن الضحاك : لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ، ولا أنحلها إلا وليًّا لي يطيعني .
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي ، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } قال : " لا طاعة إلا في المعروف " {[2670]} .
وقال السدي : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } يقول : عهدي نبوتي .
فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، رحمهما الله تعالى . واختار ابن جرير أن هذه الآية - وإن كانت ظاهرة في الخبر - أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما . ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل ، عليه السلام ، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه ، كما تقدم عن مجاهد وغيره ، والله أعلم .
لما كملت الحجج نهوضاً على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام ، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله ، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله : { يا بني إسرائيل } [ البقرة : 40 ] مرتين ، وأدمج معهم النصارى استطراداً مقصوداً ، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته ، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه ، وكانوا قد وُخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبيء والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير ، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء ، ومن قولهم { اتخذ الله ولداً } [ البقرة : 116 ] ، ومن قولهم { لولا يكلمنا الله } [ البقرة : 118 ] . فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملاً فيما اختصوا به ، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه ، تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملاً فيما اختصوا به ، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل ، هي الاتحاد في المقصد ، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم والتخويف ، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية . والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعاً له ، لأن العرب أشد اختصاصاً بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه ، ومنتمين قديماً للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين .
فحقيق أن نجعل قوله { وإذ ابتلى } عطفاً على قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] ، عقبت تلك التذكرة بإنذار من يكفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله : { فإما يأتينكم مني هدى } [ البقرة : 38 ] الآية ، ثم خص من بين ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عُهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقاً لما معهم ، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم . فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب ، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن ، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك ، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله : { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } [ البقرة : 133 ] ليفضي إلى قوله : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } [ البقرة : 135 ] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى . وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم ، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم . فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات .
ومن الناس من زعم أن قوله : { وإذ ابتلى } عطف على قوله { نعمتي } [ البقرة : 122 ] أي اذكروا نعمتي وابتلائي إبراهيم ، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل ، وتخلل { واتقوا يوماً } [ البقرة : 123 ] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية ، وقد أدمج في ذلك قوله : { ومن ذريتي } وقوله : { لا ينال عهدي الظالمين } .
وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام ، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه ، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيهاً على مزية هذا الدين .
والابتلاء افتعال من البلاء ، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } [ البقرة : 49 ] ، وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمناً انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز ، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به ، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إِشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف ، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية ، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة ، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوءة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى : { إني جاعلك للناس إماماً } فتكون جملة { إني جاعلك للناس إماماً } بدل بعض من جملة { وإذ ابتلى } ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله : { إني جاعلك للناس إماماً } تفسيراً لابتلى .
و ( إبراهيم ) اسم الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح ( وتسمي العرب تارح آزر ) بن ناحور بن سروج ، ابن رعو ، ابن فالح ، ابن عابر ابن شالح ابن أرفكشاد ، ابن سام ابن نوح هكذا تقول التوراة . ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم قاله السهيلي وابن عطية ، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أباً لجمهور من الأمم ، فمعنى إبراهيم على هذا أبو أمم كثيرة .
ولد في أور الكلدانيين سنة 1996 ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح ، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان ( وهي أرض الفنيقيين ) فأقاموا بحاران ( هي حوران ) ثم خرج منها لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوَّجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جاريةً مصريةً اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل ، وسماه الله بعد ذلك إبراهيم ، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك .
وتوفي إبراهيم سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح .
وفي اسمه لغات للعرب : إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور ، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم ، الثالثة إبراهِم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل :
عذت بما عاذ به إبراهِمْ *** مستقبل الكعبة وهو قائمْ
وذكر أبو شامة في { شرح حرز الأماني } عن الفراء في إبراهيم ست لغات :
إبراهيم ، إبراهام ، إبراهوم ، إبراهِم ، ( بكسر الهاء ) ، إبراهُم ( بفتح الهاء ) إبراهم ( بضم الهاء ) .
ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعاً سيقع التنبيه عليها في مواضعها ، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء ، قال أبوعمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق والشام مكتوباً إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف بعد الهاء على وفق قراءة هشام ، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال : سمعت أبا خليد القارىء يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعاً إبراهام قال أبو خليد : فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك ، وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له : إن أهل دمشق يقرأون إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضي الله عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق .
وتقديمُ المفعول وهو لفظ ( إبراهيم ) لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى اللَّهُ إبراهيم .
والكلمات الكلام الذي أوحَى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل كما في قوله تعالى : { كَلاَّ إنها كلمةٌ هو قائِلُها } [ المؤمنون : 100 ] ، وأَجْمَلَها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لِتكاليف فأتَى بها كاملة فجوزي بعظيم الجزاء ، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة ، ولعل جمع الكلمات جمعَ السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة ، فلعل منها الأمر بذبح ولده ، وأمره بالاختتان ، وبالمهاجرة بِهاجَر إلى شقة بعيدة وأعظم ذلك أَمْرُه بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا ، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى :
{ إن هذا لهو البلاء المبين } [ الصافات : 106 ] .
وقوله : { فأتمهن } جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم . والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع .
وتعدية فعل أَتم إلى ضمير ( كلمات ) مجاز عقلي ، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى : { وإبراهيم الذي وفَّى } [ النجم : 37 ] ، وقوله : { قد صدقت الرؤيا } [ الصافات : 105 ] ، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر ، فدل قوله : { فأتمهن } مع إيجازه على الامتثال وإتقانِه والفورِ فيه . وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتُلي فامتثَل كقولك دعوت فلاناً فأجاب .
وجملة { قال إني جاعلك للناس إماماً } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عما اقتضاه قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } من تعظيم الخبر والتنويه به ، لما يقتضيه ظرف ( إذْ ) من الإشارة إلى قصة من الأخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها ، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله : { ابتلى } .
والإمام مشتق من الأَم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فِعَال من صيغ الآلة سماعاً كالعِمَاد والنقاب والإزار والرداء ، فأصله ما يحصل به الأَم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي به الساير دل الإمام على القدوة والهادي .
والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع . وإنما عدل عن التعبير { برسولاً } إلى { إماماً } ليكون ذلك دالاً على أن رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم عليه السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر ، وكان في جميع منازله محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء ، وقد قيل إن دين بَرْهَمَا المتَّبَع في الهند أصلُه منسوب إلى اسم إبراهم عليه السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية ، وليتأتَّى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي { ومن ذريتي } ، فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامةُ بأنواعها من رسالةٍ ومُلك وقدوة على حسب التهيُّؤ فيهم ، وأقل أنواع الإمامة كونُ الرجل الكاملِ قدوةً لبنيه وأهل بيته وتلاميذه .
وقوله : { قال ومن ذريتي } جواب صدر من إبراهيم فلذا حُكي بقال دون عاطف على طريق حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى :
{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطَب كلاماً على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلاً لنفسه في منزلة المتكلم يكمِّل له شيئاً ترَكَه المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيُلقنه السامعُ تدارُكَه بحيث يلتئم من الكلامين كلام تام في اعتقاد المخاطب .
وفي الحديث الصحيح قال جرير بن عبد الله « بايعت النبيء على شهادة أن لا إله إلا الله إلخ فشرط عليَّ والنصححِ لكل مسلم » ، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه فقال لعن الله ناقةً حملتنِي إليك فقال ابن الزبير « إِنَّ ورَاكِبهَا » ، وقد لقبوه عطف التلقين كما في « شرح التفتزاني على الكشاف » وذلك لأن أكثر وقوع مثله في موقع العطف ، والأَوْلى أن تحذف كلمة عطف ونُسميَ هذا الصنفَ من الكلام باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلمَ ما يراه حقيقاً بأن يُلحقه بكلامه ، فقد يكون بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا ، وقد يكون بطريقة الاستفهام الإنكاري والحال كقول تعالى : { قالوا بل نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عليه آباءنا أَوْ لَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً } [ البقرة : 170 ] فإن الواو مع ( لو ) الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم المستفهم عنه بقولهم ودعواهم ، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لمَّا قال النبيء صلى الله عليه وسلم في حَرَم مكة « لاَ يُعْضَدُ شَجَرهُ » فقال العباس إِلاَّ الإذْخِرِ لِبيُوتنا وقَيْنِنَا ، وللكلام المعطوف عطفَ التلقين من الحُكم حُكْمُ الكلام المعطوف هو عليه خبراً وطلباً ، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه ، بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث " إلا الإذخر " ، ثم هو في الإنشاء إذا عطف معمولُ الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه ، ولما كان المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عَطَف المأمورُ مفعولاً على مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأَنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي . والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعلُ بعضٍ من ذريتي .
والذُّريَّة نسل الرجل وما تَوَالَد منه ومن أبنائه وبناتِه ، وهي مشتقة إما من الذَّرِّ اسماً وهو صغار النمل ، وإما من الذَّرِّ مصدراً بمعنى التفريق ، وإما من الذَّرْي والذَّرْو ( بالياء والواو ) وهو مصدر ذَرَتِ الريحُ إذا سَفَت ، وإما من الذرء بالهمز وهو الخَلْق ، فوزنها إما فُعْلِيَّة بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب إلى دَهْر دُهْرِيّ بضم الدال ، وإما فُعِّيلَة أو فُعُّولَة من الذري أو الذرو أو الذرء بإدغام اليائين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف .
وإنما قال إبراهيمُ : { ومن ذريتي } ولم يقل وَذُريتي لأنه يعلَم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يُقتدَى بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء .
وإنما سأل لذريته ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل لأبناء دينه على الفطرة التي لا تقتضي تفاوتاً فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل هما سواء في حكم القرابة ، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة والاعتزاز فأما قول :
بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فَوهم جاهلي ، وإلا فإن بني الأبناء أيضاً بنوهم أبناء النساء الأباعد ، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم . وكذا قول :
وإنما أمهات الناس أوْعِيَة *** فيها خلقن وللأبناء أبناء
فذلك سفسطة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه " أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك " وقال الله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن } [ لقمان : 14 ] .
وقوله تعالى : { لا ينال عهدي الظالمين } استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز ، وإنما لم يُذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضاً بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل الكتاب ومشركو العرب هم الذين يُحرمون من دعوته ، قال تعالى : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } [ آل عمران : 67 ، 68 ] ولأن المربي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح ، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين .
و { ينال } مضارع نال نيلاً بالياء إذا أصاب شيئاً والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم ، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد . وسمي وعد الله عهداً لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهداً ولذلك سماه النبيء عهداً في قوله " أَنشُدك عهدك ووعدك " ، أي لاينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم ، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره ، وسيأتي ذكر العهد في سورة الأعراف .
ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهداً بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين . والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] والظلم يشمل أيضاً عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى : { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } [ الصافات : 113 ] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى .
وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم . وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد .
وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقاً لإسناد الإمامة إليه أعني سائر ولايات المسلمين : الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك . قال فخر الدين : قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له . وفي « تفسير ابن عرفة » تسليم ذلك . ونقل ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء وانطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل ولاية في قول علماء السنة ، وما نقل عن أبي حنيفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضياً قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل .
وقرأ الجمهور من العشرة ( عهديَ ) بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص بإسكان الياء .