تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

وقوله { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : صانته وحفظته عن الفاحشة ، لكمال ديانتها ، وعفتها ، ونزاهتها .

{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } بأن نفخ جبريل [ عليه السلام ] في جيب درعها فوصلت نفخته إلى مريم ، فجاء منها عيسى ابن مريم [ عليه السلام ] ، الرسول الكريم والسيد العظيم .

{ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة ، فإن التصديق بكلمات الله ، يشمل كلماته الدينية والقدرية ، والتصديق بكتبه ، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل ، [ ولهذا قال ] { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } أي : المطيعين لله ، المداومين على طاعته{[1172]}  بخشية وخشوع ، وهذا وصف لها بكمال العمل ، فإنها رضي الله عنها صديقة ، والصديقية : هي كمال العلم والعمل .

تمت ولله الحمد


[1172]:- في ب: أي المداومين على طاعة الله.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

وقوله - سبحانه - : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ . . } معطوف على { امرأت فِرْعَوْنَ

أى : وضرب الله - تعالى - مثلا آخر للمؤمنين مريم ابنة عمران .

{ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أى حفظته وصانته ، إذ الإحصان جعل الشىء حصينا ، بحيث لا يتوصل إليه ، وهو كناية عن عفتها وطهارتها وبعدها عن كل فاحشة .

وقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ } النافخ رسوله جبريل - عليه السلام - فالإسناد مجازى . وقيل الكلام على حذف مضاف ، أى : فنفخ رسولنا ، وضمير { فِيهِ } للفرج .

واشتهر أن جبريل - عليه السلام - نفخ فى جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج .

وقال الفراء : ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها ، وهو محتمل لأن الفرج معناه فى اللغة ، كل فرجة بين شيئين ، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج ، وهذا أبلغ فى الثناء عليها ، لأنها إذا منعت جيب درعها ، فهى للنفس أمنع . . .

أى : فنفخ رسولنا جبريل فى فرجها أو فى جيب درعها ، روحا من أرواحنا هى روح عبدنا ونبينا عيسى - عليه السلام - .

وإضافة الروح إلى ذاته - تعالى - لأنه هو الخالق والموجد وللإشارة إلى أن تكوين المخلوق الحى فى رحمها ، كان على غير الأسباب المعتادة .

وقوله - تعالى - : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } زيادة فى مدحها ، وفى الثناء عليها . . .

أى : وكان من صفات مريم ابنة عمران أنها آمنت إيمانا حقا { بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أى : بشرائعه التى شرعها لعباده ، وبما ألقاه إليها من إرشادات عن طريق وحيه .

و { وَكُتُبِهِ } أى : وصدقت بكتبه التى أنزلها على أنبيائه ، وقرأ الجمهور ( وكتابه ) بالإفراد ، على أن المراد به جنس الكتب ، أو الإنجيل الذى أنزله - سبحانه - على ابنها عيسى .

و { مِنَ } فى قوله - تعالى - { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } للابتداء ، أى : وكانت من نسل الرجال القانتين ، الذين بذلوا أقصى جهدهم فى طاعة الله - تعالى - ، وفى إخلاص العبادة له .

ويصح أن تكون { مِنَ } للتبعيض . أى : وكانت من عداد المواظبين على الطاعة ، وجىء بجمع الذكور على سبيل التغليب ، وللإشعار بأن طاعتها لا تقل عن طاعة الرجال ، الذين بلغوا الغاية فى المواظبة على طاعة الله - تعالى - .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد اشتملت على ثلاثة أمثال : مثل للكافرين ، ومثلين للمؤمنين .

وقد تضمن مثل الكفار ، أن الكافر يعاقب على كفره ، دون أن ينفعه ما بينه وبين المؤمنين من قرابة أو نسب . . . كما حدث لامرأة نوح وامرأة لوط . .

وأما المثلان اللذان للمؤمنين ، فقد تضمنا أن اتصال المؤمن بالكافر ، لا يضره شيئا إذا فارقه فى كفره وعمله .

.

وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى فقال : ما ملخصه مثَّل الله - تعالى - حال الكفار ، فى أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين . دون أن ينفعهم ما بينهم وبينهم من صلة أو قرابة - بحال امرأة نوح وامرأة لوط : فإنهما لما نافقتا وخانتا الرسولين . لم يغن عنهما ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج شيئا . .

ومثل حال المؤمنين - فى أن وصلة الكافرين لا تضرهم . ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله - بحال امرأة فرعون ، فإنها مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، فإنها بسبب إيمانها قد رفع منزلتها عنده . .

وبحال مريم ابنة عمران ، فقد أعطاها الله ما أعطاها من الكرامة . . . مع أن قومها كانوا كافرين .

وفى طى هذين التمثيلين تعريض بأمى المؤمنين المذكورتين فى أول السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده . .

وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا فى الإخلاص والكمال فيه ، كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين . . .

وأسرار التنزيل ورموزه فى كل باب ، بالعة من اللطف والخفاء ، حدا يدق عن تفطن العالم ، ويزل عن تبصره . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

( ومريم ابنة عمران ) . . إنها كذلك مثل للتجرد لله منذ نشأتها التي قصها الله في سور أخرى . ويذكر هنا تطهرها : ( التي أحصنت فرجها ) . . يبرئها مما رمتها به يهود الفاجرة ! ( فنفخنا فيه من روحنا ) . ومن هذه النفخة كان عيسى عليه السلام ، كما هو مفصل في السورة المفصلة لهذا المولد " سورة مريم " فلا نستطرد معه هنا تمشيا مع ظل النص الحاضر ، الذي يستهدف تصوير طهارة مريم وإيمانها الكامل وطاعتها : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) . .

وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر . بسبب ملابسات حياتها التي أشرنا إليها . وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة ، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل . .

ختام السورة:

وأخيرا فإن هذه السورة - وهذا الجزء كله - قطعة حية من السيرة ، رسمها القرآن بأسلوبه الموحي . لا تملك روايات البشر التاريخية عن تلك الفترة أن ترسمها . فالتعبير القرآني أكثر إيحاء ، وأبعد آمادا ، وهو يستخدم الحادثة المفردة لتصوير الحقيقة المجردة ، الباقية وراء الحادثة ووراء الزمان والمكان . . كما هو شأن القرآن . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

وقوله : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظته وصانته . والإحصان : هو العفاف والحرية ، { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أي : بواسطة المَلَك ، وهو جبريل ، فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سَوي ، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها ، فنزلت النفخة فولجت في فرجها ، فكان منه الحمل بعيسى ، عليه السلام . ولهذا قال : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي : بقدره وشرعه { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن عِلْباء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط ، وقال : " أتدرون ما هذا ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " {[29089]} .

وثبت في الصحيحين من حديث شعبة ، عن عمرو بن مُرَة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَمُلَ من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خُوَيلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام " {[29090]} .

وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، في كتابنا " البداية والنهاية " ولله الحمد والمنة{[29091]} وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه ، عليه السلام ، في الجنة عند قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا }


[29089]:- (2) المسند (1/293) وقال الهيثمي في المجمع (9/223): "رجاله رجال الصحيح".
[29090]:- (3) صحيح البخاري برقم (5418) وصحيح مسلم برقم (2431).
[29091]:- (4) البداية والنهاية (2/55 - 85).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

واختلف الناس في الفرج الذي أحصنت مريم ، فقال الجمهور : هو فرج الدرع الذي كان عليها ، وأنها كانت صينة ، وأن جبريل عليه السلام : نفخ فيها الروح من جيب الدرع ، وقال قوم من المتأولين : هو الفرج الجارحة ، فلفظة { أحصنت } : إذا كان فرج الجارحة متمكناً حقيقة ، والإحصان : صونه ، وفيه هي مستعملة ، وإذا قدرنا فرج الدرع فلفظ { أحصنت } فيه مستعارة من حيث صانته ، ومن حيث صار مسلكاً لولدها ، وقوله تعالى : { فنفخنا } عبارة عن فعل جبريل حقيقة ، وإن ذهب ذاهب إلى أن النفخ فعل الله تعالى ، فهو عبارة عن خلقه واختراعه الولد في بطنها ، وشبه ذلك بالنفخ الذي من شأنه أن يسير في الشيء برفق ولطف . وقوله تعالى : { من روحنا } إضافة المخلوق إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول : بيت الله وناقة الله ، وكذلك الروح الجنس كله هو روح الله . وقرأ الجمهور : «وصدّقت » بشد الدال ، وقرأ أبو مجلز : بتخفيفها ، وقرأ جمهور الناس : «بكلمات » على الجمع ، وقرأ الجحدري : «بكلمة » على الإفراد ، فأما الإفراد فيقوي : أن يريد أمر عيسى ويحتمل أن يريد أنه اسم جنس في التوراة ، ومن قرأ على الجمع فيقوي أنه يريد التوراة ، ويحتمل أن يريد أمر عيسى . وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ونافع : «وكتابه » على الوحيد ، وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع : «وكُتُبه » بضم التاء والجمع ، وقرأ أبو رجاء بسكون التاء «وكتْبه » ، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل ، والقانتون : العابدون ، والمعنى كانت من القوم { القانتين } في عبادتها وحال دينها .

( كمل تفسير سورة التحريم والحمد لله كثيراً ) .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

عطف على { امرأت فرعون } ، أي وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم ابنة عمران ، فضرَب مثلَيْن في الشرّ ومثلين في الخير .

ومريم ابنة عمران تقدم الكلام على نسبها وكرامتها في سورة آل عمران وغيرها ، وقد ذكر الله باسمها في عدة مواضع من القرآن ، وقال ابن التلمساني في « شرح الشفاء » لعياض : لم يَذكُر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم للتنبيه على أنها أمةُ الله إبطالاً لعقائد النصارى .

والإِحصان : جعل الشيء حصيناً ، أي لا يُسلك إليه . ومعناه : منعت فرجها عن الرجال .

وتفريع { فنفخنا فيه من روحنا } تفريع العطية على العمل لأجله . أي جزيناها على إحصان فرجها ، أي بأن كوّن الله فيه نبيئاً بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات .

والنفخ : مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكوّن في رحمها . وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحيّ في رحمها كان دون الأسباب المعتادة ، أو أُريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة ، فعلى الأول تكون { من } تبعيضية ، وعلى الثاني تكون ابتدائية ، وتقدم قوله تعالى : { فنفخنا فيها من روحنا } في سورة [ الأنبياء : 91 ] .

وتصديقها : يقينها بأن ما أبلغ إليها الملَكُ من إرادة الله حملها .

و{ كلمات ربها } : هي الكلمات التي ألقاها إليها بطريق الوحي .

و { وكتابه } يجوز أن يكون المراد به « الإِنجيل » الذي جاء به ابنها عيسى وهو إن لم يكن مكتوباً في زمن عيسى فقد كتبه الحواريون في حياة مريم .

ويجوز أن يراد ب { كتابه } ، أراده الله وقدّره أن تحمل من دون مس رجل إياها من باب وكان كتاباً مفعولاً .

والقانت : المتمحض للطاعة . يجوز أن يكون و { من } للابتداء .

والمراد بالقانتين : المكثرون من العبادة . والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين ، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف :

وهل ينبت الخَطِّيُّ إلا وشيجَهُ

وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت .

وهذا نظير قوله تعالى : { والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون } [ النور : 26 ] .

ويجوز أن تجعل { من } للتعبيض ، أي هي بعض من قنت لله . وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل : من القانتات ، جرياً على طريقة التغليب وهو من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر . وهذه الآية مثال في علم المعاني .

ونكتته هنا الإِشارة إلى أنها في عداد أهل الإِكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة .

ووصفت مريم بالموصول وصلته لأنها عُرفت بتلك الصلة من قصتها المعروفة من تكرر ذكرها فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة .

وفي ذكر { القانتين } إيماء إلى ما أوصى الله به أمهات المؤمنين بقوله تعالى : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين } [ الأحزاب : 31 ] الآية .

وقرأ الجمهور { وكتابه } . وقرأه حفص وأبو عمرو ويعقوب { وكُتُبه } بصيغة الجمع ، أي آمنت بالكتب التي أنزلت قبل عيسى وهي « التوراة » و« الزبور » وكتب الأنبياء من بني إسرائيل ، و« الإِنجيل » إن كان قد كتبه الحواريون في حياتها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمَرۡيَمَ ٱبۡنَتَ عِمۡرَٰنَ ٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتۡ بِكَلِمَٰتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِۦ وَكَانَتۡ مِنَ ٱلۡقَٰنِتِينَ} (12)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ" الّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَها "يقول: التي منعت جيب درعها جبريل عليه السلام، وكلّ ما كان في الدرع من خرق أو فتق، فإنه يسمى فَرْجا، وكذلك كلّ صدع وشقّ في حائط، أو فرج سقف فهو فرج.

وقوله: "فَنَفَخْنا فِيهِ منْ رُوحِنا" يقول: فنفخنا فيه في جيب درعها، وذلك فرجها، من روحنا من جبرئيل، وهو الروح...

"وَصَدّقَتْ بِكَلِماتِ رَبّها" يقول: آمنت بعيسى، وهو كلمة الله وكُتُبِهِ يعني التوراة والإنجيل.

"وكانَتْ مِنَ القانِتِينَ" يقول: وكانت من القوم المطيعين.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها} فأخبر عنها بإحصانها فرجها، وذلك بالأسباب، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس جميعا حجابا لئلا يقع بصر الناس عليها، ولا يقع بصرها عليهم، فتصل به إلى تحصين فرجها...

{فنفخنا فيه من روحنا} أي خلقنا فيه ما به تحيى الصور والأبدان...

{وصدقت بكلمات ربها} أي بالكلمات التي يستعاذ بها من الشرور؛ فصدقت أنها تعيذ من تعوذ بها... {وكتبه} وقرئ وكتابه؛ وفي تصديقها بالكتاب تصديق منها بالكتب لأن من آمن بكتاب من كتب الله فقد آمن بسائر كتبه لأنها يوافق بعضها بعضا، ومن آمن بكتبه فقد آمن بكل كتاب له على الإشارة إليه، فثبت أن في الإيمان بكتاب إيمانا بسائر الكتب فكل واحدة من القراءتين تقتضي معنى القراءة الأخرى... {وكانت من القانتين} قيل: من المصلين، لأنه قال في آية أخرى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [آل عمران: 43] وإذا وصفت وصف الصلاة، فالتزمت هذا الأمر، صارت من القانتين...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

(التي أحصنت فرجها) فإحصان الفرج: منعه من دنس المعصية... ومنه الحصن الحصين، لأنه بناء منيع...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: فما في كلمات الله وكتبه؟ قلت: يجوز أن يراد بكلماته: صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، سماها كلمات لقصرها، وبكتبه: الكتب الأربعة، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم، وجميع ما كتبه في اللوح وغيره. وقرىء: «بكلمة الله وكتابه»، أي: بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل. فإن قلت: لم قيل {مِنَ القانتين} على التذكير؟ قلت: لأنّ القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين، فغلب ذكوره على إناثه. و {مِنَ} للتبعيض ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هرون أخي موسى صلوات الله عليهما...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

المثل الثاني للمؤمنين: مريم عليها السلام التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر. فذكر ثلاثة أصناف من النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح. والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر. والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد. فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها. والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها. والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئا.

ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة. فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيرهن من التظاهر عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويردن الدار الآخرة، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما. ولهذا ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة رضي الله عنهن، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم عليها السلام أيضا: اعتبار آخر، وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين. فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه. وفي هذا أيضا تسلية لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنه، إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك. وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون، إن كانت قبلها. كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ومريم} أي وضرب الله مثلاً لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم {ابنة عمران} أي أحد الأحباب، وذكر وجه الشبه فقال: {التي أحصنت فرجها} أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو...

{فنفخنا} أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس...

{وصدقت} فاستحقت لذلك أن تسمى صديقة {بكلمات ربها} أي المحسن إليها بما تقدم وغيره مما كان من كلام جبريل عليه الصلاة والسلام بسببه ومن عيسى عليه الصلاة والسلام و مما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى {وكتابه} أي وكتابه الضابط الجامع لكلامه أنزل على ولدها وغيره من كتب الله كما دل على ذلك قراءة البصريين وحفص بالجمع...

{وكانت} أي جبلة وطبعاً، وشرفها بأن جعلها في رتبة الأكمل وهم الرجال فقال: {من القانتين} أي المخلصين الذين هم في غاية القوة والكمال لأنها كانت من بنات الأحباب المصطفين على العالمين، فلم تكن عبادتها تقصر عن عبادة الأقوياء الكملة...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} وهذا وصف لها بالعلم والمعرفة، فإن التصديق بكلمات الله، يشمل كلماته الدينية والقدرية، والتصديق بكتبه، يقتضي معرفة ما به يحصل التصديق، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والعمل، [ولهذا قال] {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي: المطيعين لله، المداومين على طاعته بخشية وخشوع، وهذا وصف لها بكمال العمل، فإنها رضي الله عنها صديقة، والصديقية: هي كمال العلم والعمل...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر. بسبب ملابسات حياتها التي أشرنا إليها. وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

قال ابن التلمساني في « شرح الشفاء» لعياض: لم يَذكُر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم للتنبيه على أنها أمةُ الله إبطالاً لعقائد النصارى...

وتفريع {فنفخنا فيه من روحنا} تفريع العطية على العمل لأجله. أي جزيناها على إحصان فرجها، أي بأن كوّن الله فيه نبيئاً بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات...

والنفخ: مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكوّن في رحمها. وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحيّ في رحمها كان دون الأسباب المعتادة، أو أُريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة... وتصديقها: يقينها بأن ما أبلغ إليها الملَكُ من إرادة الله حملها...

والقانت: المتمحض للطاعة...

والمراد بالقانتين: المكثرون من العبادة. والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف: وهل ينبت الخَطِّيُّ إلا وشيجَهُ وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت...

ويجوز أن تجعل {من} للتعبيض، أي هي بعض من قنت لله. وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل: من القانتات، جرياً على طريقة التغليب وهو من تخريج الكلام على مقتضى الظاهر. وهذه الآية مثال في علم المعاني. ونكتته هنا الإِشارة إلى أنها في عداد أهل الإِكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه) و (كانت من القانتين). كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الاستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه. ويمكن أن يكون التعبير ب (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، بينما التعبير ب (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب. ونظراً لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (75) من سورة المائدة (صدّيقة). وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم). على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة. والتعبير ب (ونفخنا فيه من روحنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. أو بعبارة أخرى: إنّ إضافة كلمة (روح) إلى «الله» إضافة تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة «بيت» إلى «الله»...