تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وأما خطابه للمؤمنين عندما أمرهم بمعاملة الكافرين ، فقال : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي : شرك وصد عن سبيل اللّه ، ويذعنوا لأحكام الإسلام ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين ، أن يدفع شرهم عن الدين ، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له ، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان .

فَإِنِ انْتَهَوْا عن ما هم عليه من الظلم فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه منهم خافية .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وبعد كل هذا التهديد والوعيد للكافرين . . يوجه - سبحانه - خطابه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم ، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هى العليا ، فيقول - سبحانه - : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } .

أى : { قُل } يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق بما جاءهم ، من أهل مكة وغيرهم ، قل لهم : { إِن يَنتَهُواْ } عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من كفرهم ومعاصيهم { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى قتالك ويستمروا في ضلالهم وكفرهم وطغيانهم ، انتقمنا منهم ، ونصرنا المؤمنين عليهم { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } على ذلك .

أى : فقد مضت سنة الله - تعالى - في الأولين ، وسنته لا تتخلف في أنه - سبحانه - يعذب المكذبين بعد إنذارهم وتبليغهم دعوته ، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم في الأرض . وقد رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم في بدر ، وكيف أهلك - سبحانه - الكافرين من الأمم قبلهم .

وجواب الشرط لقوله { وَإِنْ يَعُودُواْ } محذوف والتقدير : وإن يعودوا ننتقم منهم .

وقوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } تعليل للجواب المحذوف .

قال الآلوسى : قوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } أي عادة الله الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء ، من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم . وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة . ونظير ذلك قوله - سبحانه - { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله - سبحانه - { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } باعتبار جريانها على أيديهم . ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر .

والآية حث على الإِيمان وترغيب فيه . . واستدل بها على أن الإِسلام يجب ما قبله ، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو وصوم أو إتلاف مال أو نفس . وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعلموم الآية . .

والمعنى : عليكم - أيها المؤمنون - إذا ما استمر أولئك الكافرون في كفرهم وعدوانهم ، أن تقاتلوهم بشدة وغلظة ، وأن تستمروا في قتالهم حتى تزول صولة الشرك ، وحتى تعيشوا أحرارا في مبشارة تعاليم دينكم ، دون أن يجرؤ أحد على محاولة فتنتكم في عقيدتكم أو عبادتكم . . حتى تصير كلمة الذين كفروا هى السفلى .

قال الجمل : وقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ } معطوف على قوله { قُل لِلَّذِينَ كفروا } . ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبى وحده جاء بالإفراد . ولما كان الغرض من الثانى تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا .

وقوله { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى : فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم ، فكفوا أيديكم عنهم ، فإن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أعمالهم ، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

30

( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ، نعم المولى ونعم النصير ) . .

وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان ، لا في ذلك الزمان . . ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة ، وبقوانين الحرب والسلام ، ليست هي النصوص النهائية ، فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة ؛ ومع أن الإسلام - كما قلنا في تقديم السورة - حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة ، وأنه حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . .

ومع هذا فإن قوله تعالى :

( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) . .

يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم . .

ولقد جاء الإسلام - كما سبق في التعريف بالسورة - ليكون إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . وأن معنى هذا الإعلان : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض ، الحكم فيه للبشر في صورة من الصور . . . الخ .

ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين :

أولهما : دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين ، ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان ، ويرجعون بعبوديتهم لله وحده ، ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال . . وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام ، وتنفذه في عالم الواقع ، وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين ، أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه . .

وثانيهما : تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر - في صورة من الصور - وذلك لضمان الهدف الأول ، ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها ، بحيث لا تكون هناك دينونةإلا لله وحده - فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله - وليس هو مجرد الاعتقاد . .

ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول ، على حين أن الله سبحانه يقول : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) . .

ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام - وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب : " الجهاد في سبيل الله " للأستاذ أبي الأعلى المودودي ، ما يكفي للبيان الواضح . . إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً ، وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين !

إن الذي يعنيه هذا النص : ( ويكون الدين كله لله ) . . هو إزالة الحواجز المادية ، المتمثلة في سلطان الطواغيت ، وفي الأوضاع القاهرة للأفراد ، فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير الله ، ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله . . فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط . على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين ، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى ، ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان الله . . إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم ، على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً ، فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد . فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد .

ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله ، ولن يتحرر " الإنسان " في " الأرض " ، إلا حين يكون الدين كله لله ، فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه .

ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة :

( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) . .

فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له ، قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه ، ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره ، وتركوا هذا لله :

( فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } قال البخاري : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا عبد الله بن يحيى ، حدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح ، عن بكر بن عمرو ، عن بُكَيْر ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا جاءه فقال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الآية [ الحجرات : 9 ] ، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال : يا ابن أخي ، أُعَيَّر بهذه الآية ولا أقاتل ، أحب إلي من أن أُعَيَّر بالآية التي يقول الله ، عز وجل : : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } إلى آخر{[12935]} الآية [ النساء : 93 ] ، قال : فإن الله تعالى يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال ابن عمر : قد فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يُفتن في دينه : إما أن يقتلوه ، وإما أن يوثقوه ، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد ، قال : فما قولك في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر : ما قولي في علي وعثمان ؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه ، وكرهتم أن يعفو عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه - وأشار بيده - وهذه ابنته أو : بنته - حيث ترون .

وحدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا بَيَان أن وَبَرة حدثه قال : حدثني سعيد بن جُبَيْر قال : خرج علينا - أو : إلينا - ابن عمر ، رضي الله عنهما ، فقال رجل : كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك .

هذا كله سياق البخاري ، رحمه الله{[12936]}

وقال عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس قد صنعوا ما ترى ، وأنت ابن عمر بن الخطاب ، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم عليَّ دم أخي المسلم . قالوا : أو لم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ؟

قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وكان الدين كله لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله .

وكذا رواه حمَّاد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال : كنت عند عبد الله بن عمر{[12937]} رضي الله عنهما ، فأتاه رجل فقال : إن الله يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فقال{[12938]} ابن عمر : قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله ، وذهب الشرك ولم تكن فتنة ، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله . رواهما ابن مَرْدُوَيه .

وقال أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْمِي ، عن أبيه قال : قال ذو البطين - يعني أسامة بن زيد - لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا . قال : فقال سعد بن مالك : وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا . فقال رجل : ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ؟ فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وكان الدين كله لله . رواه ابن مردويه .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } يعني : [ حتى ]{[12939]} لا يكون شرك ، وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والربيع عن أنس ، والسدي ، ومُقاتِل بن حَيَّان ، وزيد بن أسلم .

وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا : { حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يفتن مسلم عن دينه .

وقوله : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : يخلص التوحيد لله .

وقال الحسن وقتادة ، وابن جُرَيْج : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } أن يقال : لا إله إلا الله .

وقال محمد بن إسحاق : ويكون التوحيد خالصا لله ، ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } لا يكون مع دينكم كفر .

ويشهد له{[12940]} ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، عز وجل " {[12941]} وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رِيَاءً ، أيُّ ذلك في سبيل الله ، عز وجل ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله ، عز وجل " {[12942]}

وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا } أي : بقتالكم عما هم فيه من الكفر ، فكفوا عنه{[12943]} وإن لم تعلموا{[12944]} بواطنهم ، { فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }{[12945]} كما قال تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 5 ] ، وفي الآية الأخرى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [ التوبة : 11 ] .

وقال : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 193 ] . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة - لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال : " لا إله إلا الله " ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله - فقال لأسامة : " أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ " قال : يا رسول الله ، إنما قالها تعوذا . قال : " هلا شَقَقْتَ عن قلبه ؟ " ، وجعل يقول ويكرر عليه : " من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ " قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم{[12946]} {[12947]}

/خ40


[12935]:في ك، م: "آخرها".
[12936]:صحيح البخاري برقم (4650، 4651).
[12937]:في أ: "عمرو".
[12938]:في أ: "قال".
[12939]:زيادة من م.
[12940]:في أ: "لهذا"
[12941]:رواه البخاري في صحيحه برقم (25) ومسلم في صحيحه برقم (22) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما.
[12942]:صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904).
[12943]:في ك، م: "عنهم".
[12944]:في ك، م: "إن كنتم لا تعلمون".
[12945]:في ك، م: "تعملون".
[12946]:في ك، م: "يومئذ".
[12947]:صحيح البخاري برقم (4269) وصحيح مسلم برقم (96).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

وقوله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } الآية ، أمر من الله عز وجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار ، و «الفتنة » قال ابن عباس وغيره معناها الشرك ، وقال ابن إسحاق : معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره ، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً{[5347]} ، وقوله { ويكون الدين كله لله } أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره ، وقال قتادة حتى تستوسق{[5348]} كلمة الإخلاص لا إله إلا الله .

قال القاضي أبو محمد : وهذه المعاني تتلازم كلها ، وقال الحسن : حتى لا يكون بلاء ، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية ، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة ، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وأما أنت وأصحابك فتزيدون أن نقاتل حتى تكون فتنة .

قال القاضي أبو محمد : فمذهب عمر أن «الفتنة » الشرك في هذه الآية وهو الظاهر ، وفسر هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله »{[5349]} ، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية ، قال ابن سلام : وهي في مشركي العرب ، ثم قال الله تعالى : { فإن انتهوا } أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه ، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه{[5350]} وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان «بما تعملون » بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه .


[5347]:- روى ابن جرير الطبري عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فأنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ثم حدثه كيف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وكيف قابله قومه بالتعذيب له ولأصحابه، بالسعي لفتنة المسلمين، وكيف أمرهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بالهجرة إلى الحبشة، فلما فشا الإسلام ودخل فيه من دخل وبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة، وعلموا أن المسلمين صاروا بمأمن فهم لا يفتنون رجعوا إلى مكة، فلما انتشر الإسلام بالمدينة عادت قريش إلى التآمر على فتنة المسلمين. قال عروة في آخر رسالته: "وكانت فتنة الآخرة". إلى أن قال: "فاشتدت عليهم قريش، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو، وهي التي أنزل الله فيها {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} اهـ. وكتاب عروة هذا في تفسير الطبري.
[5348]:- بمعنى: تجتمع، يقال: استوسق الشيء: اجتمع وانضم، واستوسق الأمر: انتظم، واستوسق له الأمر: أمكنه أن يجمع السلطة والكلمة في يده.
[5349]:- الحديث متواتر، ورواه عن أبي هريرة البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، ورمز له السيوطي في (الجامع الصغير) بأنه صحيح.
[5350]:- جاء في بعض النسخ "المعاوضة" بدلا من "المقارضة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (39)

عطف على جملة { إن الذين كفروا ينفقون أموالَهم } [ الأنفال : 36 ] الآية ، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { فقد مضتْ سنة الأولين } [ الأنفال : 38 ] فتكون مما يدخل في حكم جَواب الشرط . والتقدير : فإن يعودوا فقاتلوهم ، كقوله : { وإن عدتم عدنا } [ الإسراء : 8 ] وقوله { وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } [ التوبة : 3 ] والضمير عائِد إلى مشركي مكة .

والفتنة اضطراب أمر الناس ومَرَجهم ، وقد تقدم بيانها غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر } في سورة [ البقرة : 102 ] وقوله : { وحسبوا أن لا تكون فتنة } في سورة [ العقود : 71 ] .

والمراد هنا أن لا تكون فتنة من المشركين لأنه لما جُعل انتفاء والفتنة غاية لقتالهم ، وكان قتالهم مقصوداً منه إعدامُهم أوْ إسلامهم ، وبأحَد هذين يكون انتفاء الفتنة ، فنتج من ذلك أن الفتنة المرادَ نفيُها كانت حاصلة منهم وهي فتنتهم المسلمين لا محالة ، لأنهم إنما يفتِنون مَن خالفهم في الدين فإذا أسلموا حصل انتفاء فتنتهم وإذا أعدمهم الله فكذلك .

وهذه الآية دالة على ما ذهب إليه جمهور علماء الأمة من أن قتال المشركين واجب حتى يسلموا ، وأنهم لا تقبل منهم الجزية ، ولذلك قال الله تعالى هنا : { حتى لا تكون فتنة } وقال في الآية الأخرى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] .

وهي أيضاً دالة على ما رآه المحققون من مؤرخينا : من أن قتال المسلمين المشركين إنما كان أوله دفاعاً لأذى المشركين ضعفاء المسلمين ، والتضييققِ عليهم حيثما حلوا ، فتلك الفتنة التي أشار إليها القرآن ولذلك قال في الآية الأخرى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل } [ البقرة : 191 ] .

والتعريف في { الدين } للجنس وتقدم الكلام على نظيرها في سورة البقرة ، إلاّ أن هذه الآية زيد فيها اسم التأكيد وهو { كله } وذلك لأن هذه الآية أسبق نزولاً من آية البقرة فاحتيج فيها إلى تأكيد مفاد صيغة اختصاص جنس الدين بأنه لله تعالى ، لئلا يتوهم الاقتناع بإسلام غالب المشركين فلما تقرر معنى العموم وصار نصاً من هذه الآية عُدل عن إعادته في آية البقرة تطلباً للإيجاز .

وقوله : { فإن الله بما يعملون بصير } أي عليم كناية عن حسن مجازاته إياهم لأن القادر على نفع أوليائه ومطيعيه لا يحُول بينه وبين إِيصال النفع إليهم الإخفاء حال من يُخلص إليه ، فلما أخبروا بأن الله مطلع على انتهائهم عن الكفر إن انتهوا عنه وكان ذلك لا يظن خلافه علم أن المقصود لازم ذلك .

وقرأ الجمهور : { يعلمون } بياء الغائب وقرأه رُوَيْس عن يعقوب بتاء الخطاب .