يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لأحد أمرين : إما أن يقطع طرفا من الذين كفروا ، أي : جانبا منهم وركنا من أركانهم ، إما بقتل ، أو أسر ، أو استيلاء على بلد ، أو غنيمة مال ، فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون ، وذلك لأن مقاومتهم ومحاربتهم للإسلام تتألف من أشخاصهم وسلاحهم وأموالهم وأرضهم فبهذه الأمور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم ، الأمر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم وكثرتهم ، طمعا في المسلمين ، ويمنوا أنفسهم ذلك ، ويحرصوا عليه غاية الحرص ، ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك ، فينصر الله المؤمنين عليهم ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم ، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة ، وإذا تأملت الواقع رأيت نصر الله لعباده المؤمنين دائرا بين هذين الأمرين ، غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو خذل لهم .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من هذا النصر والثمرات التى ترتبت عليه فقال - تعالى - : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
وقوله { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } متعلق بقوله { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } وما بينهما تحقيق لحقيته ، وبيان لكيفية وقوعه .
والقطع - كما يقول الراغب - فصل الشىء مدركا بالبصر كالأجسام ، أو مدركا بالبصيرة كالأشياء المعقولة والمراد به هنا الإهلاك والقتل .
والطرف - بفتح الراء - جانب الشىء أو الجزء المتطرف منه كاليدين والرجلين والرأس .
والمراد به هنا طائفة من المشركين .
والكبت فى اللغة : صرع الشىء على وجهه . يقال : كبته فانكبت ، والمراد به هنا الإخزاء والإذلال وشدة الغيظ بسبب ما أصابهم من هزيمة .
وخائبين من الخيبة وهى انقطاع الأمل فى الحصول على الشىء . يقال : خاب يخيب إذا لم ينل ما طلب .
والمعنى : ولقد نصركم الله - تعالى - ببدر وأنتم فى قلة من العدد والعدة { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا } أى ليهلك طائفة من الذين كفروا ويستأصلهم بالقتل . وينقص من أرضهم بالفتح ، ومن سلطانهم بالقهر ، ومن أموالهم بالغنيمة { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أى يذلهم ويخزيهم ويغيظهم غيظا شديدا بسبب ما نزل بهم من هزيمة ، حتى يخبو صوت الكفر ، ويعلو صوت الإيمان :
وقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } أى فينهزموا ويرتدوا على أدبارهم منقطعى الآمال ، غير ظافرين بمبتغاهم .
قال الآلوسى : " ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف فقال { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } لأن أطراف الشىء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته . وقيل : لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار } وقيل للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا ، ومنه قولهم : هو من أطراف العرب أى من أشرافهم ، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم فى السير . . فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بالقتل والأسر . وقد وقع ذلك فى بدر فقد قتل المؤمنون من المشركين سبعين وأسروا سبعين " .
و { أَوْ } فى قوله { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } للتنويع . لأن القطع والكبت قد وقعا للمشركين ، فهى مانعة خلو ، أى لا يخلو أمر الكافرين من الهلاك والكبت .
وعبر عن عودتهم خائبين بقوله { فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ } للإشارة إلى أن مقاصدهم وأهدافهم قد انقلبت ، فقد كانوا يقصدون إطفاء نور الإسلام فخاب قصدهم ، وطاش سهمهم ، وعادوا وقد فقدوا الكثيرين من وجوههم وصناديديهم ، وتركوا خلقهم فى الأسر العشرات من رجالهم .
أما الإسلام فقد ازداد نوره تألقا ، وازداد أتباعه إيمانا على إيمانهم . ورزقهم الله - تعالى - نصره المبين .
ثم يبين حكمة هذا النصر . . أي نصر . . وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء :
( ليقطع طرفا من الذين كفروا . أو يكبتهم فينقلبوا خائبين - ليس لك من الأمر شيء - أو يتوب عليهم . أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .
إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول [ ص ] ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي . كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه ، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء ! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه ؛ ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه ! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله ، وبالتأييد من عنده . لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده :
( ليقطع طرفا من الذين كفروا ) . .
فينقص من عددهم بالقتل ، أو ينقص من أرضهم بالفتح ، أو ينقص من سلطانهم بالقهر ، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة ، أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة !
( أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ) . .
ثم قال{[5649]} تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أمركم بالجهاد والجلاد ، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين . فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا } أي : ليهلك أمة { مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أي : يخزيهم ويردهم بغيظهم لَمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا ؛ ولهذا قال : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا } أي : يرجعوا { خَائِبِينَ } أي : لم يحصلوا على ما أمَّلُوا .
{ ليقطع طرفا من الذين كفروا } متعلق بنصركم ، أو { وما النصر } إن كان اللام فيه للعهد ، والمعنى لينقص منهم بقتل بعض وأسر آخرين ، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من صناديدهم . { أو يكبتهم } أو يخزيهم ، والكبت شدة الغيظ ، أو وهن يقع في القلب ، وأو للتنويع دون الترديد { فينقلبوا خائبين } فينهزموا منقطعي الأمال .
قوله : { ليقطع طرفاً } متعلّق ب ( النَّصر ) باعتبار أنَّه علَّة لبعض أحوال النصر ، أي ليقطع يوم بدر طرفاً من المشركين .
والطَّرف بالتحريك يجوز أن يكون بمعنى النَّاحية ، ويخصّ بالنَّاحية الَّتي هي منتهى المكان ، قال أبو تمّام :
كانت هي الوسَطَ المحميّ فاتّصلتْ *** بها الحَوادث حتَّى أصبحت طَرفا
فيكون استعارة لطائفة من المشركين كقوله تعالى : { أو لم يروا أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ] ويجوز أن يكون بمعنى الجزء المتطرّف من الجسد كاليدين والرجلين والرأس فيكون مستعاراً هنا لأشراففِ المشركين ، أي ليقطع من جسم الشرك أهم أعضائه ، أي ليستأصل صناديد الَّذين كفروا .
وتنكير ( طرفاً ) للتفخيم ، ويقال : هو من أطراف العرب ، أي من أشرافها وأهل بيوتاتها .
ومَعنى { أو يكبتهم } يصيبهم بغمّ وكمد ، وأصل كبت كَبَد بالدال إذا أصابه في كَبده . كقولهم : صُدرَ إذا أصيب في صدره ، وكُلِيَ إذا أصيب في كُلْيَتِه ، ومُتِنَ إذا أصيب في مَتْنه ، ورُئي إذا أصيب في رِئته ، فأبدلت الدال تاء وقد تبدل التاء دالاً كقولهم : سَبَد رأسَه وسبَته أي حلقه . والعرب تتخيّل الغمّ والحزن مقرّه الكبد ، والغضب مقرّه الصّدر وأعضاء التنفّس . قال أبو الطيب يمدح سيف الدّولة حِين سفره عن أنطاكية :
لأَكْبِتَ حَاسداً وأرِي عَدُواً *** كأنَّهُمَا ودَاعُكَ والرّحيلُ
وقد استقرى أحوال الهزيمة فإنّ فريقاً قتلوا فقطع بهم طرف من الكافرين ، وفريقاً كبتُوا وانقلبوا خائبين ، وفريقاً مَنَّ الله عليهم بالإسلام ، فأسلموا ، وفريقاً عُذّبوا بالموت على الكفر بعد ذلك ، أو عذبوا في الدنيا بالذلّ ، والصغار ، والأسر ، والمَنّ عليهم يوم الفتح ، بعد أخذ بلدهم و « أو » بين هذه الأفعال للتقسيم .
وهذا القطع والكبت قد مضيا يوم بدر قبل نزول هذه الآية بنحو سنتين ، فالتَّعبير عنهما بصيغة المضارع لقصد استحضار الحالة العجيبة في ذلك النصر المبين العزيز النظير .