{ 96 } { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }
هذا من نعمه على عباده ، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، أن وعدهم أنه يجعل لهم ودا ، أي : محبة وودادا في قلوب أوليائه ، وأهل السماء والأرض ، وإذا كان لهم في القلوب ود تيسر لهم كثير من أمورهم وحصل لهم من الخيرات والدعوات والإرشاد والقبول والإمامة ما حصل ، ولهذا ورد في الحديث الصحيح : " إن الله إذا أحب عبدا ، نادى جبريل : إني أحب فلانا فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض " وإنما جعل الله لهم ودا ، لأنهم{[513]} ودوه ، فوددهم إلى أوليائه وأحبابه .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان ما أعده لعباده المؤمنين وببيان بعض الخصائص التى جعلها لكتابه الكريم . . . فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ . .
أى : إن الذين امنوا بالله - تعالى - حق الإيمان ، وعملوا الأعمال الصالحات { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن } فى دنياهم وفى آخرتهم { وُدّاً } أى : سيجعل لهم محبة ومودة فى القلوب ، لإيمانهم وعملهم الصالح ، يقال : ود فلان فلانا ، إذا أحبه وأخلص له المودة .
وروى الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله - تعالى - إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إنى أحب فلاناً فأحبه . قال : فيحبه جبريل . ثم ينادى فى أهل السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه . قال : فيحبه أهل السماء . ثم يوضع له القبول فى الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل فقال : يا جبريل إنى أبغض فلاناً فأبغضه . قال : فيبغضه جبريل ثم ينادى فى أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه .
وفي وسط هذه الوحدة والوحشة والرهبة ، إذا المؤمنون في ظلال ندية من الود السامي : ود الرحمن :
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ) . .
وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب ، وروح رضى يلمس النفوس . وهو ود يشبع في الملأ الأعلى ، ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلى ء به الكون كله ويفيض . .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي [ ص ] قال : " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه . قال : فيحبه جبريل . ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه . قال : فيحبه أهل السماء . ثم يوضع له القبول في الأرض . وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه . قال : فيبغضه جبريل . ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه . قال : فيبغضه أهل السماء ؛ ثم يوضع له البغضاء في الأرض " . .
يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهي الأعمال التي ترضي الله ، عز وجل ، لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة ، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد{[19164]} عنه . وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، حدثنا سُهَيْل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال : يا جبريل ، إني أحب فلانًا فأحبه . قال : فيحبه جبريل " . قال : " ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانًا " . قال : " فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدًا دعا جبريل فقال : يا جبريل ، إني أبغضُ فلانًا فأبغضه " . قال : " فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه " . قال : " فيُبْغضُه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض " .
ورواه مسلم من حديث سُهَيْل{[19165]} . ورواه أحمد والبخاري ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن موسى بن عتبة{[19166]} عن نافع مولى ابن عمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ، صلى الله عليه وسلم بنحوه{[19167]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر{[19168]} ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي ، عن ثوبان ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :{[19169]} إن العبد ليلتمس مرضات{[19170]} الله ، فلا يزال كذلك{[19171]} فيقول الله ، عز وجل ، لجبريل : إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني ؛ ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول جبريل : " رحمة الله على فلان " ، ويقولها{[19172]} حملة العرش ، ويقولها من حولهم ، حتى يقولها أهل السماوات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض " {[19173]}
غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن محمد بن سعد الواسطي ، عن أبي ظَبْيَة ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقة من الله - قال شريك : هي المحبة - والصيت من السماء ، فإذا أحب الله عبدًا قال لجبريل ، عليه السلام : إني أحب فلانًا ، فينادي جبريل : إن ربكم يمق{[19174]} - يعني : يحب - فلانا ، فأحبوه - وأرى شريكًا قد قال : فتنزل له المحبة في الأرض - وإذا أبغض عبدًا قال لجبريل : إني أبغض فلانًا فأبغضه " ، قال : " فينادي جبريل : إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه " . قال : أرى شريكًا قد قال : فيجري له البغض في الأرض " {[19175]} . غريب ولم يخرجوه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو داود الحَفَريّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد ، وهو الدَّرَاوَرْدي - عن سهيل بن{[19176]} أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانًا ، فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض ، فذلك قول الله ، عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }
رواه مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به{[19177]} . وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } قال : حبًّا .
وقال مجاهد ، عنه : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } قال : محبة في الناس في الدنيا .
وقال سعيد بن جبير ، عنه : يحبهم ويُحببهم ، يعني : إلى خلقه المؤمنين . كما قال مجاهد أيضًا ، والضحاك وغيرهم .
وقال العوفي ، عن ابن عباس أيضًا : الود من المسلمين في الدنيا ، والرزق الحسن ، واللسان الصادق .
وقال قتادة : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } إي والله ، في قلوب أهل الإيمان ، ذكر{[19178]} لنا أن هَرِم بن حَيَّان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم .
وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، يقول : ما من عبد يعمل خيرًا ، أو شرًّا ، إلا كساه الله ، عز وجل ، رداء عمله .
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن الربيع بن صَبِيح ، عن الحسن البصري ، رحمه الله قال : قال رجل : والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها ، فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي ، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج ، فكان لا يعظم ، فمكث بذلك سبعة أشهر ، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا : " انظروا إلى هذا المرائي " فأقبل على نفسه فقال : لا أراني أذكر إلا بِشَرّ ، لأجعلن عملي كله لله ، عز وجل ، فلم يزد على أن{[19179]} قلب نيته ، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله ، فكان يمر بعد بالقوم ، فيقولون : رحم الله فلانا الآن ، وتلا الحسن : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }
وقد روى ابن جرير أثرًا أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف . وهو خطأ ، فإن هذه السورة بتمامها{[19180]} مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ، ولم يصح سند ذلك ، والله أعلم .
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا } سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أحب الله عبدا يقول لجبريل أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه في حبه أهل السماء ، ثم توضع له المحبة في الأرض " . والسين إما لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام ، أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل .
وقوله { سيجعل لهم الرحمن وداً } ذهب أكثر المفسرين الى أن هذا هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده حسبما في الحديث المأثور{[1]} ، وقال عثمان بن عفان إنها بمنزلة قول النبي عليه السلام «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها » وفي حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد إلا وله في السماء صيت فان كان حسناً وضع في الأرض حسناً وإن سيئاً وضع كذلك »{[1]} وقال عبدالرحمن بن عوف : إن الآية نزلت فيه وذلك أنه لما هاجر بمكة استوحش بالمدينة فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية في ذلك{[2]} ، أي ستستقر نفوس المؤمنين ويودون حالهم ومنزلتهم ، وذكر النقاش أنها نزلت في علي بن أبي طالب{[3]} ، قال ابن الحنفية : لا تجد مؤمناً إلا وهو يحب علياً وأهل بيته ، وقرأ الجمهور «وُداً » بضم الواو ، وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتح الواو ، ويحتمل أن تكون الآية متصلة بما قبلها في المعنى ، أي إن الله تعالى لما أخبر عن إيتان { كل من في السماوات والأرض } في حالة العبودية والانفراد أنس المؤمنين بأنه سيجعل لهم في ذلك اليوم { وداً } وهو ما يظهر عليهم من كرامته لأن محبة الله لعبد إنما هي ما يظهر عليه من نعمه وأمارات غفرانه له .
يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أنّ هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين ، فيكون حال إتيانهم غير حال انفرادٍ بل حال تأنس بعضهم ببعض .
ولمّا ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين ، وكان ذلك مشعراً بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورّط فيه مَن يدفع عنه وينصره ، وإشعار ذلك بأنّهم مغضوب عليهم ، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين ، وأنهم على العكس من حال المشركين ، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودّة والتبجيل . فالمعنى : سيجعل لهم الرحمان أودّاء من الملائكة كما قال تعالى : { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ فصلت : 31 ] ، ويجعل بين أنفسهم مودّة كما قال تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ } [ الأعراف : 43 ] .
وإيثارُ المصدر ليفي بعدّة متعلقات بالودّ . وفُسّر أيضاً جعل الودّ بأن الله يجعل لهم محبّة في قلوب أهل الخير . رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي . وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي ، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة .
وفُسر أيضاً بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى ، فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] . هذا أظهر الوجوه في تفسير الودّ ، وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}، يقول: يجعل محبتهم في قلوب المؤمنين فيحبونهم.
ابن العربي: روى مالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل. ثم ينادي ملائكة السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فتحبه ملائكة السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، فذلك قول الله سبحانه: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا}. وروى ابن وهب، وغيره عن مالك في حديث: اتق الله يحبك الناس، وإن كرهوك، فقال: -يعني مالكا- هذا حق، وقرأ: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}. وقرأ مالك: {وألقيت عليك محبة}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدّقوا بما جاءهم من عند ربهم، فعملوا به، فأحلوا حلاله، وحرّموا حرامه "سيجعلُ لهمُ الرحمنُ ودا "في الدنيا، في صدور عباده المؤمنين...عن مجاهد، في قوله: "سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرّحْمَنُ وُدّا" قال: يحبهم ويحببهم إلى خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
والثاني: {سيجعل لهم الرحمان ودا} في الجنة، أن ينزع ما في قلوبهم من غل وغش كقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين} [الحجر: 47].
والثالث: {سيجعل لهم الرحمان ودا} في قلوب الأنبياء والأخيار وأصحاب الدين لأنهم إنما ينظرون إلى الإنسان لدينه ولخلوص عمله لله وصفائه له لا إلى الدنيا وما تحويه يده.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يجعل في قلوبهم وداً لله نتيجةً لأعمالهم الخالصة... ويقال يجعل لهم الرحمن وداً في قلوب عباده، وفي قلوب الملائكة، فأهل الخير والطاعة محبوبون مِنْ كلِّ أحد من غير استحقاق بفعل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: سيحدث لهم في القلوب مودّة ويزرعها لهم فيها من غير تودّد منهم ولا تعرّض للأسباب التي توجب الود ويكتسب بها الناس مودات القلوب، من قرابة أو صداقة أو اصطناع بمبرة أو غير ذلك، وإنما هو اختراع منه ابتداء اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالا لمكانهم...
وعن قتادة: ما أقبلَ العبدُ إلى اللَّهِ إلاَّ أقبلَ اللَّهُ بقلوبِ العبادِ إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما عم بهذا الحكم الطائع والعاصي، وكان ذلك محزناً لأهل الطاعة باستشعار الذل في الدارين، تحركت النفس إلى معرفة ما أفادتهم الطاعة، واستأنف الجواب لذلك مبشراً لهم بقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لادعائهم الإيمان، الأعمال {الصالحات سيجعل} تحقيقاً عما قليل عند بيعة العقبة {لهم الرحمن} الذي خصهم بالرضا بعد أن عمهم بالنعمة، جزاء على انقيادهم له، لأنه كان إما باختيارهم وإما برضاهم {وداً} أي حباً عظيماً في قلوب العباد، دالاً على ما لهم عندهم من الود؛ قال الأصبهاني: من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي تكسب بها الناس مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع غيره أو غير ذلك، وإنما هو اختراع ابتدأ اختصاصاً منه لأوليائه بكرامة خاصة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم -انتهى. والمراد- والله أعلم -أنه لا يجعل سبحانه في قلب أحد من عباده الصالحين عليهم إحنة، لأن الود- كما قال الإمام أبو الحسن الحرالي: خلو عن إرادة المكروه...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
سبب النزول: كان السابقون الأولون من المؤمنين في أول الإسلام بمكة – مبغوضين من أهل مكة المشركين، مهجورين منهم، مزهودا فيهم. ومن أشد الآم على النفس وأشقها أن يعيش الإنسان بين قومه مبغوضا مهجورا، مزهودا فيه، خصوصا مثل تلك النفوس الحية الأبية. فأنزل الله هذه الآية تأنيسا لأولئك السادة، ووعدا لهم بأن تك الحالة لا تدوم، وأنه سيجعل لهم ودا، فيصيرون محبوبين مرغوبا فيهم.
العدل في البلاد المفتوحة: وقد حقق الله وعده: فكان أولئك النفر بعد، السادة المقدمين من أقوامهم وعشائرهم، لسبقهم وفضلهم. وكانوا – وهم قادة الجيوش في الفتوحات الإسلامية – المحبوبين هم وجيوشهم، المرغوب فيهم من الأمم التي فتحوها؛ لعدلهم ورحمتهم، ورفعهم لنير الاستعباد الديني والدنيوي، الذي كانت تئن تحته تلك الأمم. وأثبت التاريخ أن بعض الأمم الأجنبية دعتهم إلى إنقاذها من أيدي رؤسائها. فكانت هذه الآية من آيات الإعجاز بالإعلام بما يتحقق في الاستقبال مما هو كالمحال في الحال فكان على وفق ما قال.
عموم الوعد لعموم اللفظ: الإيمان، وهو التصديق الصادق المثمر للأعمال. والأعمال الصالحة، وهي المستقيمة النافعة المبنية على ذلك الإيمان – هما اللذان جعلهما الله سببا في تحقيق جعل هذا الود، لما قال تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا "فيعم ذلك كل أهل الإيمان والعمل الصالح. وهم أولياء الله و "إن أولياؤه إلا المتقون".
سبب الود وسبب الجعل: ود وود: تكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم منها القرابة، ومنها الصداقة، ومنها صنائع المعروف، ومآثر الإحسان. أما هذا الود الذي وعد الله به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فسببه جعل من الله له في قلوب العباد لهم، دون تردد منهم ولا توقف على تلك الأسباب، فبودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة، ولا وصل إليه منهم معروف، فهذا نوع من الود خاص يكرمهم الله به، وينعم عليهم به الرحمن من جملة نعمه التي يحدثها ويجددها لهم، زيادة على ما يقتضيه الإيمان والعمل الصالح – ومنه الإحسان – من مودة القلوب. أما سبب هذا الجعل والوضع والإيجاد من الله، لهذا الود والإكرام به، فهو الإيمان والعمل الصالح، وهما سبب لإكرامات كثيرة من الله تعالى، هذا الجعل للود منها.
بشارة وتثبيت: في الآية من سبب نزولها بشارة لدعاة الحق، وأنصار السنة، ومرشدي الأمم، عندما يقومون بدعوة القرآن في عشائرهم، ويلقون منهم النفور والإعراض والبغض والإنكار، ويجدون أنفسهم غرباء بينهم يعاديهم من كانوا أحبابهم، ويقاطعهم أقرب الناس قرابة إليهم، ويصبح يؤذيهم من كان يحميهم ويدافع عنهم. في الآية بشارة لهم بأن تلك الحالة لا تدوم، وأنهم سيكون لهم على كلمة الحق مؤيدون، وفي الله محبون، وسيكون لهم ود في القلوب، ممن يعرفون وممن لا يعرفون. وفيها أيضا تثبيت لهم في تلك الغربة ووحشة الانفراد بما يكون لهم من أنس الود، وأي ود هو!! ود يكون من جعل الرحمن.
دفع إشكال: الآية منظور فيها إلى مجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وغالبهم. فلا يشكل علينا أن منهم من يموت في غربة الحق، قبل أن يكون له على الحق أنصاره، ومنهم من يموت غير معروف من الناس. كما أن الود الذي يجعل لهم غير منظور فيه للعموم. فلا يشكل ببغض من يبغضهم تعصبا لهوى، أو تقليدا لضال، أو حرصا على منفعة، ومحافظة على جاه أو منصب أو مال.
تفسير نبوي: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم:"إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل. ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا؛ دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانا فأبغضه، فيبغضه جبريل. ثم ينادي (جبريل) في أهل السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض". رواه بهذا اللفظ مسلم ورواه البخاري وغيرهما. وزاد الطبراني: "ثم قرأ رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم -:"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا "فارتبط الحديث بالآية بزيادة الطبراني. وبين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – بقراءة الآية أن هذا القبول الذي يجعل لمن أحبه الله في أهل الأرض – والمراد بهم من يعرفونه منهم هو نوع الود المذكور في الآية، وبين أن أهل القبول في الأرض محبوبون في أهل السماء قبل أهل الأرض، وبين أن سبب ذلك القبول هو محبة الله لهم؛ فمن أحبهم حببهم لعباده. ولما كان سبب القبول محبة الله لهم بين- صلى الله عليه وآله وسلم – أن بغض الله سبب في بغض الخلق لهم إذ ما تسبب عن أحد الضدين يتسبب عن الآخر ضده. ولما كانت محبة الله مسببة عن الإيمان والعمل الصالح، فبغض الله مسبب عن ضدهما إذ ما تسبب عنه أحد الضدين يتسبب عن ضده الضد الآخر. وكما كان ذلك الود والقبول يكون شيئا زائدا على ما تقتضيه أسباب الود بين الناس، كذلك تكون هذه البغضاء التي يهين الله بها ويعاقب من يشاء،زيادة على ما تقتضيه أسباب البغضاء بينهم؛ فيكون هذا الذي وضعت له البغضاء – والعياذ بالله – مبغوضا حتى ممن لم يكن منه إليه شيء من أسباب البغض...
إرشاد: أفادت الآية الكريمة والحديث الشريف، أن على المسلم أن يتمسك بالإيمان والعمل الصالح، والاتباع للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم – ولو كان في قوم انفرد بينهم بذلك وحده. ولا يستوحش من انفراده بينهم؛ فحسبه رضى الله ومحبته، وكفى بها أنسا وليثق بأنه – إن صدق – وأمد الله في عمره يكون له ود وقبول في عباد الله، وأنس بمن يحبهم ويحبونه لله، وتلك المحبة النافعة الدائمة والصلة المتينة الجامعة، التي تجمع بين أهلها في الدنيا والآخرة. جعلنا الله والمسلمين من العاملين له المتحابين فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وللتعبير بالود في هذا الجو نداوة رخية تمس القلوب، وروح رضى يلمس النفوس. وهو ود يشبع في الملأ الأعلى، ثم يفيض على الأرض والناس فيمتلئ به الكون كله ويفيض...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يقتضي اتصال الآيات بعضها ببعض في المعاني أنّ هذه الآية وصف لحال المؤمنين يوم القيامة بضد حال المشركين، فيكون حال إتيانهم غير حال انفرادٍ بل حال تأنس بعضهم ببعض.
ولمّا ختمت الآية قبلها بأن المشركين آتون يوم القيامة مفردين، وكان ذلك مشعراً بأنهم آتون إلى ما من شأنه أن يتمنى المورّط فيه مَن يدفع عنه وينصره، وإشعار ذلك بأنّهم مغضوب عليهم، أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين الصالحين، وأنهم على العكس من حال المشركين، وأنهم يكونون يومئذ بمقام المودّة والتبجيل. فالمعنى: سيجعل لهم الرحمان أودّاء من الملائكة كما قال تعالى: {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [فصلت: 31]، ويجعل بين أنفسهم مودّة كما قال تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غِلّ} [الأعراف: 43].
وإيثارُ المصدر ليفي بعدّة متعلقات بالودّ. وفُسّر أيضاً جعل الودّ بأن الله يجعل لهم محبّة في قلوب أهل الخير. رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد عن الدراوردي. وليست هذه الزيادة عن أحد ممن روى الحديث عن غير قتيبة بن سعيد ولا عن قتيبة بن سعيد في غير رواية الترمذي، فهذه الزيادة إدراج من قتيبة عند الترمذي خاصة.
وفُسر أيضاً بأن الله سيجعل لهم محبة منه تعالى، فالجعل هنا كالإلقاء في قوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39]. هذا أظهر الوجوه في تفسير الودّ، وقد ذهب فيه جماعات المفسرين إلى أقوال شتى متفاوتة في القبول.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وعد صادق من الله تعالى لكل من آمن وعمل صالحا ذكرا أو أنثى بأنه سيغرس محبته في القلوب، وسيخلع عليه رداء القبول، حتى يصبح في أعين الناس المثل الأعلى للمومن المقبول المحبوب، علاوة على ما يحظى به من تيسير الله له كل عسير، وما يناله من لطفه الخفي في كل أمر خطير، مصداقا لقوله تعالى في سورة النحل {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} [الآية: 98]، وفي آية ثانية: {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} [الطلاق: 4].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والنقطة الرئيسية للآية، هي أنّ للإِيمان والعمل الصالح جاذبية خارقة، فإنّ الاعتقاد بوحدانية الله، والإِيمان بدعوة الأنبياء، والذي يتجلى نوره في روح الإِنسان وفكره، وقوله وعمله، بصورة أخلاق إِنسانية عالية، وكذلك يتجلى في التقوى والطهارة، والصدق والأمانة، والشجاعة والإِيثار، فيها قوة مغناطيسية عظيمة جاذبة وخاطفة.