{ وَلَا تَرْكَنُوا ْ } أي : لا تميلوا { إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ْ } فإنكم ، إذا ملتم إليهم ، ووافقتموهم على ظلمهم ، أو رضيتم ما هم عليه من الظلم { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ْ } إن فعلتم ذلك { وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ْ } يمنعونكم من عذاب الله ، ولا يحصلون لكم شيئا ، من ثواب الله .
{ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ْ } أي : لا يدفع عنكم العذاب إذا مسكم ، ففي هذه الآية : التحذير من الركون إلى كل ظالم ، والمراد بالركون ، الميل والانضمام إليه بظلمه وموافقته على ذلك ، والرضا بما هو عليه من الظلم .
وإذا كان هذا الوعيد في الركون إلى الظلمة ، فكيف حال الظلمة بأنفسهم ؟ ! ! نسأل الله العافية من الظلم .
ثم نهى - سبحانه - بعد ذلك عن الميل إلى الظالمين فقال : { وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } .
والركون إلى الشئك الميل إليه . يقال ركن فلان إلى فلان ، إذا مال إليه بقلبه ، واعتمد عليه فى قضاء مصالحه .
والمراد بالذين ظلموا هنا : ما يتناول المشركين وغيرهم من الظالمين الذين يعتدون على حقوق الغير ، ويستحلون من محارم الله .
والمعنى : واحذروا - أيها المؤمنون - أن تميلوا إلى الظالمين ، أو تسكنوا إليهم ؛ لأن ذلك يؤدى إلى تقوية جانبهم . وإضعاف جانب الحق والعدل .
قال بعض العلماء : ويستثنى من ذلك للضرورة صحبة الظالم على التقية مع حرمة الميل القلبى إليه .
وقوله { فَتَمَسَّكُمُ النار } أى فتصيبكم النار بسبب ميلكم إليهم ، والاعتماد عليهم ، والرضا بأفعالهم .
وقوله { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } فى موضع الحال من ضمير { تمسكم } .
أى : والحال أنه ليس لكم من غير الله من نصراء ينصرونكم من العذاب النازل بكم ، بسبب ركونكم إلى الذين ظملوا ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم .
وثم فى قوله { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } للتراخى الرتبى . أى ثم لا تجدون بعد ذلك من ينصركم بأى حال من الأحوال ، لأن الظالمين ما لهم من أنصار .
قال بعض العلماء : الآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم ، والتهديد عليه ، لأن هذا الوعيد الشديد إذا كان فيمن يركن إلى الذين ظلموا فكيف يكون حال من ينغمس فى حمأته ؟ ! !
ثم قال : وقد وسع العلماء فى ذلك وشددوا ، والحق أن الحالات تختلف ، والأعمال بالنيات ، والتفصيل أولى .
فإن كانت المخالطة لدفع منكر ، أو للاستعانة على إحقاق الحق ، أو الخير . فلا حرج فى ذلك . وإن كانت لإِيناسهم وإقرارهم على ظلمهم فلا . . .
( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) . .
لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا . إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض ، الذين يقهرون العباد بقوتهم ويعبدونهم لغير الله من العبيد . . لا تركنوا إليهم فإن ركونهم إليهم يعني إقرارهم علىهذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه ، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير .
( وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) . .
والاستقامة على الطريق في مثل هذه الفترة أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين . .
وقوله : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لا تُدهنُوا وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو الركون إلى الشرك .
وقال أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم .
وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن ، أي : لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم ، { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي : ليس لكم من دونه{[14938]} من ولي ينقذكم ، ولا ناصر يخلصكم من عذابه .
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته . { فتمسّكم النار } بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم كل الميل ، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه ، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه ، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل ، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه . وقرئ { تِركَنُوا } " فتِمَسَّكُمْ " بكسر التاء على لغة تميم و{ تركنوا } على البناء للمفعول من أركنه . { وما لكم من دون الله من أولياء } من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال . { ثم لا تُنصَرُون } أي ثم لا ينصركم الله إذا سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم ، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم ، ويجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد ، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا .
وقرأ الجمهور «تعملون » بتاء ، وقرأ الحسن والأعمش «يعملون » بياء من تحت - وقرأ الجمهور : «ولا تركَنوا » بفتح الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو - فيما روى عنه هارون - بضمها ، وهو لغة ، يقال : ركن يركَن وركن يركُن{[6527]} ، ومعناه السكون ، إلى شيء والرضا به قال أبو العالية : «الركون » : الرضا . قال ابن زيد : «الركون » : الإدمان .
قال القاضي أبو محمد : فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره ، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة ، و { الذين ظلموا } هنا هم الكفار ، وهو النص للمتأولين ، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي .
وقرأ الجمهور «فتَمسكم » ، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمه والأعمش وابن مصرف وحمزة - فيما روي عنه - «فتِمسكم » بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب ، وقد جاء في الياء يِيجل ويِيبى ، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر .
الرّكُون : الميل والموافقة ، وفعله كعَلِم . ولعلّه مشتق من الرُكْن بضم فسكون وهو الجنب ، لأنّ المائل يدني جنبه إلى الشيء الممال إليه . وهو هنا مستعار للموافق ، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب مِن المشركين لئلاّ يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام .
و { الذين ظلموا } هم المشركون . وهذه الآية أصل في سدّ ذرائع الفساد المحقّقة أو المظنونة .
والمسّ : مستعمل في الإصابة كما تقدّم في قوله تعالى : { إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان } في آخر الأعراف ( 201 ) ، والمراد : نار العذاب في جهنّم .
وجملة وما لكم من دون الله من أولياء } حال ، أي لا تجدون من يسعى لما ينفعكم .
و { ثمّ } للتّراخي الرتبي ، أي ولا تجدون من ينصركم ، أي من يخفّف عنكم مسّ عذاب النّار أو يخرجكم منها .
و { من دون الله } متعلّق بأولياء لتضمينه معنى الحُماة والحائلين .
وقد جمع قوله : { ولا تطغوا } [ هود : 112 ] وقوله : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } أصلي الدّين ، وهما : الإيمان والعمل الصالح ، وتقدّم آنفاً قول الحسن : « جعل الله الدين بين لاَئين { ولا تطغوا } ، ولا تركنوا » .