ثم أكد - سبحانه - هذا الإِصرار من الكافرين على كفرهم فقال : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }أى : إننا لم نكتف بجعل الأغلال فى أعناقهم ، بل أضفنا إلى ذلك أننا جعلنا من أمامهم حاجزا عظيما ومن خلقهم كذلك حاجزا عظيما . { فأغشيناهم } أى : فجلعنا على أبصارهم غشاوة وأغطية تمنعهم من الرؤية { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } شيئا بسبب احتجاب الرؤية عنهم .
فالآية الكريمة تمثيل آخر لتصميمهم على كفرهم ، حيث شبههم - سبحانه - بحال من أحاطت بهم الحواجز من كل جانب ، فمنعتهم من الرؤية والإِبصار .
ولذا قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهاتين الآيتين : ثم مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل على ارعوائهم ، بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين فى أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رءوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم فى أن لا تأمل ولا تبصر ، وأنهم متعاملون عن النظر فى آيات الله .
وقد ذكروا فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات منها ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة ، أن أبا جهل قال : لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً . . . } فكانوا يقولن لأبى جهل : هذا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : أين هو ؟ ولا يبصره .
وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً . فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . .
إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم ، موضوعة تحت أذقانهم . ومن ثم فإن رؤوسهم مرفوعة قسراً ، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام ! ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف ! وهم إلى هذا محال بينهم وبين الحق والهدى بسد من أمامهم وسد من خلفهم ؛ فلو أرخي الشد فنظروا لم تنفذ أبصارهم كذلك من هذه السدود ! وقد سدت عليهم سبيل الرؤية وأغشيت أبصارهم بالكلال !
ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع ، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه . وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي ، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع ، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك . مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً . وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك . وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود . وهو يصدع بالحجة ، ويدلي بالبرهان . وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان .
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا } : قال مجاهد : عن الحق ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } قال مجاهد : عن الحق ، فهم يترددون . وقال قتادة : في الضلالات .
وقوله : { فَأَغْشَيْنَاهُمْ } أي : أغشينا أبصارهم عن الحق ، { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } أي : لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه .
قال ابن جرير : وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : " فأعشيناهم " بالعين المهملة ، من العشا وهو داء في العين .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ثم قال : من منعه الله لا يستطيع .
وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيتُ محمدًا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا } إلى قوله : { [ فَهُمْ ] لا يُبْصِرُونَ }{[24670]} ، قال : وكانوا يقولون : هذا محمد . فيقول : أين هو أين هو ؟ لا يبصره . رواه ابن جرير .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه{[24671]} كنتم ملوكا ، فإذا متم{[24672]} بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جِنَانٌ خير من جنان الأرْدُن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تُعَذَّبون بها . وخرج [ عليهم ]{[24673]} رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله على أعينهم دونه ، فجعل يَذُرّها على رؤوسهم ، ويقرأ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } حتى انتهى إلى قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ، وباتوا رُصَدَاء على بابه ، حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار ، فقال : ما لكم ؟ قالوا : ننتظر محمدًا . قال قد خرج عليكم ، فما بقي منكم من رجل إلا [ قد ]{[24674]} وضع على رأسه ترابا ، ثم ذهب لحاجته . فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب . قال : وقد بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أبي{[24675]} جهل فقال : " وأنا أقول ذلك : إن لهم مني لذبحا ، وإنه أحدهم " .
{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وبمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل . وقرأ حمزة والكسائي وحفص " سدا " بالفتح وهو لغة فيه ، وقيل ما كان بعف الناس فبالفتح وما كان بخلق الله فبالضم . وقرئ " فأعشيناهم " من العشاء . وقيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه ، فلما رفع يده انثت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد ، فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره .
وقرأ الجمهور «سُداً » بضم السين في الموضعين ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وابن مسعود وطلحة وابن وثاب وعكرمة والنخعي وابن كثير «سَداً » بفتح السين ، وقال أبو علي : قال قوم هما بمعنى واحد أي حائلاً يسد طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان مما يفعله البشر فهو بالضم وما كان خلقة فهو بالفتح .
قال القاضي أبو محمد : والسد ما سد وحال ، ومنه قول الأعرابي في صفة سحاب : طلع سد مع انتشار الطفل{[9773]} ، أي سحاب سد الأفق ، ومنه قولهم : جراد سد{[9774]} ، ومعنى الآية أن طريق الهدى سد دونهم ، وقرأ جمهور الناس «فأغشيناهم » بالغين منقوطة أي جعلنا على أعينهم غشاوة ، وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين «فأعشيناهم » بالعين غير منقوطة ، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من العشى أي أضعفنا أبصارهم{[9775]} والمعنى { فهم لا يبصرون } رشداً ولا هدى ، وقرأ يزيد البربري «فأغشيتهم » بتاء دون ألف وبالغين منقوطة .
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } .
هذا ارتقاء في حرمانهم من الاهتداء لو أرادوا تأملاً بأنّ فظاظة قلوبهم لا تقبل الاستنتاج من الأدلة والحجج بحيث لا يتحولون عما هم فيه ، فمُثّلت حالهم بحالة من جُعلوا بين سدَّيْن ، أي جدارين : سداً أمامهم ، وسداً خلفهم ، فلو راموا تحوّلاً عن مكانهم وسعيهم إلى مرادهم لما استطاعوه كقوله تعالى : { فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون } [ يس : 67 ] ، وقول أبي الشيص :
وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي *** متـــأخَّر عنه ولا مُتَقَدَّم
ومن الحوادث لا أبالك أنني *** ضربتُ على الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تَلْعة *** بين العُذيب وبين أرض مُراد
وفي « مفاتيح الغيب » : مانع الإِيمان : إما أن يكون في النفس ، وإما أن يكون خارجاً عنها . ولهم المانعان جميعاً : أما في النفس فالغُلّ ، وأما من الخارج فالسد فلا يقع نظرهم على أنفسهم فيروا الآيات التي في أنفسهم لأن المُقْمَح لا يرى نفسه ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن مَن بين السدّين لا يبصرون الآفاق فلا تتبين لهم الآيات كما قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] .
وإعادة فعل { وجعلنا } على الوجه الأول في معنى قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } [ يس : 8 ] الآية ، تأكيد لهذا الجعل ، وأما على الوجه الثاني في معنى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } فإعادة فعل { وجعلنا } لأنه جَعْل حاصل في الدُّنيا فهو مغاير للجعل الحاصل يوم القيامة .
وقرأ الجمهور { سداً } بالضم وهو اسم الجدار الذي يَسُدّ بين داخل وخارج .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالفتح وهو مصدر سمي به ما يُسد به .
{ فأغشيناهم فَهُمْ لا يبصرون } .
تفريع على كلا الفعلين { جعلنا في أعناقهم أغلالاً } [ يس : 8 ] و { جعلنا من بين أيديهم سُدّاً ومن خلفهم سداً } لأن في كلا الفعلين مانعاً من أحوال النظر .
وفي الكلام اكتفاء عن ذكر ما يتفرع ثانياً على تمثيلهم بمن جعلوا بين سُدين من عدم استطاعة التحول عمّا هم عليه .
والإِغشاء : وضع الغشاء . وهو ما يغطي الشيء . والمراد : أغشينا أبصارهم ، ففي الكلام حذف مضاف دلّ عليه السياق وأكّده التفريع بقوله : { فهم لا يبصرون } . وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوي الحكم ، أي تحقيق عدم إبصارهم .