يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ } لدعوتك ، ويلبي رسالتك ، وينقاد لأمرك ونهيك { الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } بقلوبهم ما ينفعهم ، وهم أولو الألباب والأسماع .
والمراد بالسماع هنا : سماع القلب والاستجابة ، وإلا فمجرد سماع الأذن ، يشترك فيه البر والفاجر . فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله تعالى ، باستماع آياته ، فلم يبق لهم عذر ، في عدم القبول .
{ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يحتمل أن المعنى ، مقابل للمعنى المذكور . أي : إنما يستجيب لك أحياء القلوب ، وأما أموات القلوب ، الذين لا يشعرون بسعادتهم ، ولا يحسون بما ينجيهم ، فإنهم لا يستجيبون لك ، ولا ينقادون ، وموعدهم القيامة ، يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ، ويحتمل أن المراد بالآية ، على ظاهرها ، وأن الله تعالى يقرر المعاد ، وأنه سيبعث الأموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون .
ويكون هذا ، متضمنا للترغيب في الاستجابة لله ورسوله ، والترهيب من عدم ذلك .
ثم بين - سبحانه - من هم أهل للإيمان والاستجابة للحق فقال :
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } أى : إنما يستجيب لك أيها الرسول الكريم أولئك الذين يسمعون توجيهك وأقوالك سماع تدبر وتفهم وتأثر ، أما هؤلاء الذين يعاندونك فقد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون .
فالمراد بالاستجابة هنا ، الإجابة المقرونة بالتفكر والتأمل ، فهى إجابة محكمة دقيقة لأنها أتت بعد استقراء وتدبر وهذا ما تدل عليه السين .
ثم بين - سبحانه - حال الكفار فقال : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أى : وموتى القلوب الذين لا يسمعون سماع تدبر وتقبل وهم المشركون ، سيبعثهم الله من قبورهم يوم القيامة ويحاسبهم حسابا عسيرا على أقوالهم الباطلة وأعمالهم السيئة .
فالمراد بالموتى هنا الكفار لأنهم موتى القلوب فشبههم - سبحانه - بموتى الأجساد ، وهذا من باب التهكم بهم والتحقير من شأنهم .
وقيل : إن لفظ الموتى على حقيقته وأن الله - تعالى - بقدرته النافذة سيبعث الجميع يوم القيامة ويرجعهم إليه فيجازى الذين أساؤا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى ، الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل :
( إنما يستجيب الذين يسمعون . والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون ) . .
إن الناس يواجهون هذا الحق الذي جاءهم به الرسول من عند الله وهم فريقان :
فريق حي ، أجهزة الاستقبال الفطرية فيه حية ، عاملة ، مفتوحة . . وهؤلاء يستجيبون للهدى . فهو من القوة والوضوح والاصطلاح مع الفطرة والتلاقي معها إلى الحد الذي يكفي أن تسمعه ، فتستجيب له :
( إنما يستجيب الذين يسمعون ) . .
وفريق ميت ، معطل الفطرة ، لا يسمع ولا يستقبل ، ومن ثم لا يتأثر ولا يستجيب . . ليس الذي ينقصه أن هذا الحق لا يحمل دليله - فدليله كامن فيه ، ومتى بلغ إلى الفطرة وجدت فيها مصداقه ، فاستجابت إليه حتما - إنما الذي ينقص هذا الفريق من الناس هو حياة الفطرة ، وقيام أجهزة الاستقبال فيها بمجرد التلقي ! وهؤلاء لا حيلة فيهم للرسول ، ولا مجال معهم للبرهان . إنما يتعلق أمرهم بمشيئة الله . إن شاء بعثهم إن علم منهم ما يستحق أن يحييهم ، وإن شاء لم يبعثهم في هذه الحياة الدنيا ، وبقوا أمواتا بالحياة حتى يرجعوا إليه في الآخرة .
( والموتى يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون ) . .
هذه هي قصة الاستجابة وعدم الاستجابة ! تكشف حقيقة الموقف كله ، وتحدد واجب الرسول وعمله ، وتترك الأمر كله لصاحب الأمر يقضي فيه بما يريد .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يكبرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوّتك ، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحقّ وسهّل لهم اتباع الرشد ، دون من ختم الله على سمعه فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحقّ إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رعاتها ، فهم كما وصفهم به الله تعالى : { صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } . { والمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ } يقول : والكفار يبعثهم الله مع الموتى ، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ولا يعقلون دعاء ولا يفقهون قولاً ؛ إذ كانوا لا يتدبرون ححج الله ولا يعتبرون آياته ولا يتذكرون فينزجروا عما هم عليه من تكذيب رسل الله وخلافهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } : المؤمنون للذكر . والمَوْتَى : الكفار ، حين يَبْعَثُهُمُ اللّهُ مع الموتى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } قال : هذا مثل المؤمن سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله ، والذين كذّبوا بآياتنا صمّ وبكم ، وهذا مثل الكافر أصمّ أبكم ، لا يبصر هدى ولا ينتفع به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان الثوريّ ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } : المؤمنون . والمَوْتَى قال : الكفار .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن جحادة ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ والمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللّهُ } قال : الكفار .
وأما قوله : { ثُمّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فإنه يقول تعالى : ثم إلى الله يرجعون ، المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول ، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئا ، فيثيب هذا الؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب ، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب ، لا يظلم أحدا منهم مثقال ذرّة .
هذا من النمط المتقدم في التسلية أي لا تحفل بمن أعرض فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يقيمون الآيات ويتلقون البراهين بالقبول ، فعبر عن ذلك كله ب { يسمعون } إذ هو طريق العلم بالنبوة والآيات المعجزة ، وهذه لفظة تستعملها الصوفية إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغاً شافياً قالوا سمع{[4903]} .
ثم قال تعالى : { والموتى } يريد الكفار ، فعبر ، عنهم بضد ما عبر عن المؤمنين وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله تعالى والصمم عن وعي كلماته ، قاله مجاهد وقتادة والحسن ، و { يبعثهم الله } يحتمل معنيين قال الحسن معناه «يبعثهم الله » بأن يؤمنوا حين يوقفهم .
قال القاضي أبو محمد : فتجيء الاستعارة في هذا التأويل ، في الوجهين في تسميتهم موتى وفي تسمية إيمانهم وهدايتهم بعثاً ، والواو على هذا مشركة في العامل عطفت { الموتى } على { الذين } ، و { يبعثهم الله } في موضع الحال ، وكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يرشدون حين يسمعون فيؤمنون والكفار حين يرشدهم الله بمشيئته ، فلا تتأسف أنت ولا تستعجل ما لم يُقدَّر ، وقرأ الحسن «ثم إليه يرجعون »{[4904]} فتناسبت الآية ، وقال مجاهد وقتادة : { والموتى } يريد الكفار ، أي هم بمثابة الموتى حين لا يرون هدى ولا يسمعون فيعون ، و { يبعثهم الله } أي : يحشرهم يوم القيامة { ثم إليه } أي إلى سطوته وعقابه { يرجعون } وقرأت هذه الطائفة يرجعون بياء ، والواو على هذا عاطفة جملة كلام على جملة ، { الموتى } مبتدأ و { يبعثهم الله } خبره ، فكأن معنى الآية إنما يستجيب الذين يسمعون فيعون ، والكفار سيبعثهم الله ويردهم إلى عقابه ، فالآية على هذا متضمنة الوعيد للكفار ، والعائد على { الذين } هو الضمير في { يسمعون } .
تعليل لما أفاده قوله : { وإنْ كان كَبُر عليك إعراضهم إلى قوله فلا تكوننّ من الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] من تأييس من ولوج الدعوة إلى أنفسهم ، أي لا يستجيب الذين يسمعون دون هؤلاء الذين حرمهم فائدة السمع وفهم المسموع .
ومفهوم الحصر مؤذن بإعمال منطوقه الذي يؤمىء إلى إرجاء بعد تأييس بأنّ الله جعل لقوم آخرين قلوباً يفقهون بها وآذاناً يسمعون بها فأولئك يستجيبون .
وقوله : { يستجيب } بمعنى يجيب ، فالسين والتاء زائدان للتأكيد ؛ وقد تقدّم الكلام على هذا الفعل عند قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربّهم } في سورة [ آل عمران : 195 ] . وحذف متعلّق { يستجيب } لظهوره من المقام لأنّ المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وتصديق الرسول .
ومعنى { يسمعون } ، أنّهم يفقهون ما يلقى إليهم من الإرشاد لأنّ الضالّين كمن لا يسمع . فالمقصود سمع خاصّ وهو سمع الاعتبار .
أمّا قوله : { والموتى يبعثهم الله } فالوجه أنّه مقابل لِ { الذين يسمعون } . ولذلك حسن عطف هذه الجملة على جملة : { إنما يستجيب الذين يسمعون } . فمعنى الكلام : وأمّا المعرضون عنك فهم مثل الموتى فلا يستجيبون ، كقوله : { إنّك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] . فحذف من الكلام ما دلّ عليه السياق ، فإنّ الذي لا يسمع قد يكون فقدان سمعه من علّة كالصمم ، وقد يكون من عدم الحياة ، كما قال عبد الرحمان بن الحكم الثقفي :
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً *** ولكن لا حياة لمنْ تنادي
فتضمّن عطف { والموتى يبعثهم الله } تعريضاً بأنّ هؤلاء كالأموات لا ترجى منهم استجابة . وتخلّص إلى وعيدهم بأنّه يبعثهم بعد موتهم ، أي لا يرجى منهم رجوع إلى الحقّ إلى أن يبعثوا ، وحينئذٍ يلاقون جزاء كفرهم . { والموتى } استعارة لمن لا ينتفعون بعقولهم ومواهبهم في أهمّ الأشياء ، وهو ما يُرضي الله تعالى . و { يبعثهم } على هذا حقيقة ، وهو ترشيح للاستعارة ، لأنّ البعث من ملائمات المشبّه به في العرف وإن كان الحي يخبر عنه بأنه يبعث ، أي بعد موته ، ولكن العرف لا يذكر البعث إلاّ باعتبار وصف المبعوث بأنّه ميّت .
ويجوز أن يكون البعث استعارة أيضاً للهداية بعد الضلال تبعاً لاستعارة الموت لعدم قبول الهدى على الوجهين المعروفين في الترشيح في فن البيان من كونه تارة يبقى على حقيقته لا يقصد منه إلاّ تقوية الاستعارة ، وتارة يستعار من ملائم المشبّه به إلى شبهه من ملائم المشبّه ، كقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } [ آل عمران : 103 ] . فيكون على هذا الوجه في الكلام وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ بعض هؤلاء الضالّين المكذّبين سيهديهم الله تعالى إلى الإسلام ، وهم من لم يسبق في علمه حرمانهم من الإيمان .
فعلى الوجه الأول يكون قوله { ثم إليه يُرْجعون } زيادة في التهديد والوعيد . وعلى الوجه الثاني يكون تحريضاً لهم على الإيمان ليلقوا جزاءه حين يُرجعون إلى الله . ويجوز أن يكون الوقف عند قوله تعالى : { يبعثهم الله } . وتمّ التمثيل هنالك . ويكون قوله : { ثم إليه يرجعون } استطراداً تُخلّص به إلى قرع أسماعهم بإثبات الحشر الذي يقع بعد البعث الحقيقي ، فيكون البعث في قوله : { يبعثهم الله } مستعملاً في حقيقته ومجازه . وقريب منه في التخلّص قوله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } في سورة [ البقرة : 73 ] .