فإن قلتم ، أو شككتم بصحته وحقيقته ، فسيقيم اللّه لكم ، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض ، وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة ، الدالة للمستبصر على الحق .
{ وَفِي أَنْفُسِهِمْ } مما اشتملت عليه أبدانهم ، من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته ، وباهر قدرته ، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين ، ونصر المؤمنين . { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } من تلك الآيات ، بيانًا لا يقبل الشك { أَنَّهُ الْحَقُّ } وما اشتمل عليه حق .
وقد فعل تعالى ، فإنه أرى عباده من الآيات ، ما به تبين لهم أنه الحق ، ولكن اللّه هو الموفق للإيمان من شاء ، والخاذل لمن يشاء .
{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي : أولم يكفهم على أن القرآن حق ، ومن جاء به صادق ، بشهادة اللّه تعالى ، فإنه قد شهد له بالتصديق ، وهو أصدق الشاهدين ، وأيده ، ونصره نصرًا متضمنًا لشهادته القولية ، عند من شك فيها .
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يطلع الناس فى كل زمان ومكان على دلائل وحدانيته وقدرته ، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما بلغه عنه ، فقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق . . } .
والمراد بالآيات فى قوله { آيَاتِنَا } : الدلائل والبراهين الدالة على وحدانيته - سبحانه - وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم .
والآفاق : جمع أفق - كأعناق جمع عنق - وهو الناحية والجهة ، يقال : أفق فلان يأفق - كضرب يضرب - إذا سار فى آفاق الأرض وجهاتها المتعددة .
والمعنى : سنطلع الناس على دلائل وحدانيتنا وقدرتنا فى أقطارا لسموات والأرض ، من شمس وقمر ونجوم ، وليل ونهار ، ورياح وأمطار ، وزرع وثمار ، ورعد وبرق وصواعق ، وجبال وبحار .
سنطلعهم على مظاهر قدرتنا فى هذه الأشياء الخارجية التى يرونها بأعينهم ، كما سنطلعهم على آثار قدرتنا فى أنفسهم عن طريق ما أودعنا فيهم من حواس وقوى ، وعقل ، وروح ، وعن طريق ما يصيبهم من خير وشر ، ونعمة ونقمة .
ولقد صدق الله - تعالى - وعده ، ففى كل يوم بل فى كل ساعة ، يطلع الناس على أسرار جديدة فى هذا الكون الهائل ، وفى أنفسهم .
. وكلها تدل على وحدانيته - تعالى - وقدرته ، وعلى صحة دين الإِسلام الذى جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام .
وقوله - تعالى - : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } استئناف مسوق لتوبيخ الكافرين على عنادهم مع ظهور الأدلة على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند ربه هو الحق المبين .
والهمزة للإِنكار ، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والباء مزيدة للتأكيد ، وقوله { بربك } فاعل كفى .
والمعنى : ألم يغن هؤلاء الجاحدين عن الآيات الموعودة الدالة على صحة هذا الدين ، أن ربك - أيها الرسول الكريم - شهيد على كل شئ ، وعلى أنك صاقد فيما تبلغه عنه . . بلى إن فى شهادة ربك وعلمه بكل شئ ما يغنيك عن كل شئ سواه .
ويدعهم بعدئذ يفكرون ويحسبون . ويتجه إلى الكون العريض . يكشف عن بعض ما قدر فيه - وفي ذوات أنفسهم - من مقادير :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ? ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم . ألا إنه بكل شيء محيط . .
إنه الإيقاع الأخير . وإنه لإيقاع كبير . . .
إنه وعد الله لعباده - بني الإنسان - أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ، ومن خفايا أنفسهم على السواء . وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، حتى يتبين لهم أنه الحق . هذا الدين . وهذا الكتاب . وهذا المنهج . وهذا القول الذي يقوله لهم . ومن اصدق من الله حديثاً ?
ولقد صدقهم الله وعده ؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد ؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم . وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد .
وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين . فقد تفتحت لهم الآفاق . وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله .
لقد عرفوا أشياء كثيرة . لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير .
عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون . . إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس . وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين . وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم - وربما طبيعة كونهم ، إن صح ما عرفوه !
وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه . إن صح أن هناك مادة . عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة . وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع . وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع . . في صور شتى : هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام !
وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير . عرفوا أنه كرة أو كالكرة . وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس . وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره . وكشفوا عن شيء من باطنه . وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات . والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضاً !
وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير ، وتصرف هذا الكون الكبير . ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس . ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه . ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم ، قد أخذت عن طريق العلم تثوب ، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق .
ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون . فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير . عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه ، وغذائه وتمثيله ، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته ، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله .
وعرفوا عن النفس البشرية شيئاً . . إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم . لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه . ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيء . .
ووعد الله ما يزال قائماً : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ . فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى . وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون ! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد . ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي . ولكن هذه الموجة تنحسر الآن . تنحسر - على الرغم من جميع الظواهر المخالفة - وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه ، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله . وحتى يحق وعد الله الذي لا بد أن يكون :
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
يقول تعالى ذكره : سنُري هؤلاء المكذّبين ، ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر ، آياتنا في الاَفاق .
واختلف أهل التأويل في معنى الاَيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم ، فقال بعضهم : عنى بالاَيات في الاَفاق وقائع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها ، وبقوله : وفِي أنْفُسِهِمْ فتح مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن المنهال ، في قوله : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الاَفاقِ قال : ظهور محمد صلى الله عليه وسلم على الناس .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الاَفاقِ يقول : ما نفتح لك يا محمد من الاَفاق وفِي أنْفُسِهِمْ في أهل مكة ، يقول : نفتح لك مكة .
وقال آخرون : بل عنى بذلك أن يريهم نجوم الليل وقمره ، وشمس النهار ، وذلك ما وعدهم أنه يريهم في الاَفاق . وقالوا : عنى بالاَفاق : آفاق السماء ، وبقوله : وفِي أنْفُسِهِمْ سبيل الغائط والبول . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الاَفاقِ وفِي أنْفُسِهِمْ قال : آفاق السموات : نجومها وشمسها وقمرها اللاتي يجرين ، وآيات في أنفسهم أيضاً .
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأوّل ، وهو ما قاله السديّ ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذّبين آيات في الاَفاق ، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن يريهم ما هم راؤوه ، بل الواجب أن يكون ذلك وعداً منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا رأوه قبل من ظهور نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم ، فأما النجوم والشمس والقمر ، فقد كانوا يرونها كثيراً قبل وبعد ولا وجه لتهدّدهم بأنه يريهم ذلك .
وقوله : حتى يَتَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُ الحَقّ يقول جلّ ثناؤه : أُري هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد ، وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها ، ولو كره المشركون .
وقوله : أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أنّهُ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يقول تعالى ذكره : أَوَ لم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه ، لا يعزب عنه علم شيء منه ، وهو مجازيهم على أعمالهم ، المحسن بالإحسان ، والمسيء جزاءه .
وفي قوله : أنّهُ وجهان : أحدهما : أن يكون في موضع خفض على وجه تكرير الباء ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : أَوَ لم يكف بربك بأنه على كلّ شيء شهيد ؟ والاَخر : أن يكون في موضع رفع رفعاً ، بقوله : يكف ، فيكون معنى الكلام : أَوَ لم يكف بربك شهادته على كل شيء .
ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته .
واختلف المتأولون في معنى قوله : { في الآفاق وفي أنفسهم } فقال أبو المنهال{[1]} والسدي وجماعة : هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها . { وفي أنفسهم } أراد به فتح مكة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل{[2]} .
وقال الضحاك وقتادة : { سنريهم آياتنا في الآفاق } هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديماً { وفي أنفسهم } يوم بدر ، وقال ابن زيد وعطاء : { الآفاق } : آفاق السماء . وأراد : الآيات : في الشمس والقمر والرياح وغير لك . { وفي أنفسهم } عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك ، وهذه آيات قد كانت مرئية ، فليس هذا المعنى يجري مع قوله : «سنري » والتأويل الأول أرجحها ، والله أعلم . والضمير في قوله تعالى : { أنه الحق } عائد على الشرع والقرآن ، فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم أنه الحق .
ثم قال تعالى وعداً لنبيه عليه السلام : { أولم يكف بربك } والتقدير : أولم يكف ربك ، والباء زائدة للتأكيد ، وأنه يحتمل أن يكون في موضع رفع على البدل من الموضع ، إذ التقدير : أولم يكف ربك ، ويحتمل أن يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ ، وهذا كله بدل الاشتمال ، ويصح أن يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، أي لأنه على كل شيء شهيد .
وقرأ الجمهور : «أنه » بفتح الألف ، وقرأ بعض الناس «إنه » بكسرها على الاعتراض أثناء القول .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: سنُري هؤلاء المكذّبين، ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر، آياتنا في الآفاق.
واختلف أهل التأويل في معنى الآيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم، فقال بعضهم: عنى بالآيات في الآفاق وقائع النبيّ صلى الله عليه وسلم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها، وبقوله:"وفِي أنْفُسِهِمْ" فتح مكة... [قول السدي]. وقال آخرون: بل عنى بذلك أن يريهم نجوم الليل وقمره، وشمس النهار، وذلك ما وعدهم أنه يريهم في الآفاق. وقالوا: عنى بالآفاق: آفاق السماء...وآيات في أنفسهم أيضاً.
وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأوّل، وهو ما قاله السديّ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذّبين آيات في الاَفاق، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن يريهم ما هم راؤوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعداً منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا رأوه قبل من ظهور نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم، فأما النجوم والشمس والقمر، فقد كانوا يرونها كثيراً قبل وبعد ولا وجه لتهدّدهم بأنه يريهم ذلك.
وقوله: "حتى يَتَبَيّنَ لَهُمْ أنّهُ الحَقّ "يقول جلّ ثناؤه: أُري هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد، وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون.
وقوله: "أوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أنّهُ على كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" يقول تعالى ذكره: أَوَ لم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه، لا يعزب عنه علم شيء منه، وهو مجازيهم على أعمالهم، المحسن بالإحسان، والمسيء جزاءه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وفي أنفسهم} آيات وحدانيته وألوهيته: أما في الآفاق ففي وجهين: أحدهما: ما جعل منافع البلاد النائية والقرى المتباعدة متصلة بمنافع أنفسهم ومنافع البلاد القريبة، ومنافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما ليُعلَم أنه تدبير واحد وفعل فرد لا عدد.
والثاني: أن تكون آياته في الآفاق رفع السماء مع غلظها وكثافتها وسعتها بلا سبب ولا تعليق من أعلاها ولا عماد.
وأما في أنفسهم فما حوّلهم، وقلّبهم في الأرحام من حال النطفة إلى حال العلقة ومن حال العلقة إلى حال المضغة ثم من حال المضغة إلى حال الإنسان والتصوير والتركيب إلى آخر ما ينتهي إليه أمره؛ ليُعلَم أنه صنع واحد وتدبير فرد، لا تدبير لأحد سواه في ذلك، فهذان التأويلان في آية الألوهية والوحدانية. والأولان في إثبات الرسالة.
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} ناصرا ومعينا؟ أو يكون قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} أي أو لم يكفِهم ما جاء من عند الله من البينات والقرآن كقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآية؟ [العنكبوت: 51]
ويحتمل: أو لم يكفِهم آية على رسالتك وآية على وحدانية الله تعالى ما جاء من عند الله؟
قال الواحدي: واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها، وفي تفسير قوله {سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} قولان:
الأول: أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية، يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزه عن المثل والضد، فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى: {سنريهم} يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه، قلنا إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا، ومثاله كل أحد رأى بعينه بنية الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفا على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله {سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}...
والقول الثاني: أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجحوه على القول الأول لأجل أن قوله {سنريهم} يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله {سنريهم} لائق بالوجه الأول كما قررناه، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمدا صلى الله عليه وسلم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة، ثم استولى على مكة، إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقا، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم، وذلك لا يدل على كونهم محقين، ولهذا السبب قلنا إن حمل الآية على الوجه الأول أولى، ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه، قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلم على تلك البلاد على كونه محقا في ادعاء النبوة، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقا لخبره، فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقا...
ومعنى كونه تعالى شهيدا على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه الإيقاع الأخير. وإنه لإيقاع كبير... إنه وعد الله لعباده -بني الإنسان- أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون، ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج. وهذا القول الذي يقوله لهم. ومن اصدق من الله حديثاً؟ ولقد صدقهم الله وعده؛ فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد؛ وكشف لهم عن آياته في أنفسهم. وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد. وينظر الإنسان فيرى البشر قد كشفوا كثيرا جدا منذ ذلك الحين. فقد تفتحت لهم الآفاق. وتفتحت لهم مغاليق النفوس بالقدر الذي شاءه الله. لقد عرفوا أشياء كثيرة. لو أدركوا كيف عرفوها وشكروا لكان لهم فيها خير كثير. عرفوا منذ ذلك الحين أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون.. إن هي إلا ذرة صغيرة تابعة للشمس. وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة منها في الكون مئات الملايين. وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم -وربما طبيعة كونهم، إن صح ما عرفوه! وعرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه. إن صح أن هناك مادة. عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة. وعرفوا أن الذرة تتحول إلى إشعاع. وعرفوا إذن أن الكون كله من إشعاع.. في صور شتى: هي التي تجعل منه هذه الأشكال والأحجام! وعرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير. عرفوا أنه كرة أو كالكرة. وعرفوا أنه يدور حول نفسه وحول الشمس. وعرفوا قاراته ومحيطاته وأنهاره. وكشفوا عن شيء من باطنه. وعرفوا الكثير من المخبوء في جوف هذا الكوكب من الأقوات. والمنثور في جوه من هذه الأقوات أيضاً! وعرفوا وحدة النواميس التي تربط كوكبهم بالكون الكبير، وتصرف هذا الكون الكبير. ومنهم من اهتدى فارتقى من معرفة النواميس إلى معرفة خالق النواميس. ومنهم من انحرف فوقف عن ظاهر العلم لا يتعداه. ولكن البشرية بعد الضلال والشرود من جراء العلم، قد أخذت عن طريق العلم تثوب، وتعرف أنه الحق عن هذا الطريق. ولم تكن فتوح العلم والمعرفة في أغوار النفس بأقل منها في جسم الكون. فقد عرفوا عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير. عرفوا عن تكوينه وتركيبه ووظائفه وأمراضه، وغذائه وتمثيله، وعرفوا عن أسرار عمله وحركته، ما يكشف عن خوارق لا يصنعها إلا الله. وعرفوا عن النفس البشرية شيئاً.. إنه لا يبلغ ما عرفوه عن الجسم. لأن العناية كانت متجهة بشدة إلى مادة هذا الإنسان وآلية جسمه أكثر مما كانت متجهة إلى عقله وروحه. ولكن أشياء قد عرفت تشير إلى فتوح ستجيئ.. وما يزال الإنسان في الطريق! ووعد الله ما يزال قائماً: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).. والشطر الأخير من الوعد قد بانت طلائعه منذ مطلع هذا القرن بشكل ملحوظ. فموكب الإيمان يتجمع من فجاج شتى. وعن طريق العلم المادي وحده يفد كثيرون! وهناك أفواج وأفواج تتجمع من بعيد. ذلك على الرغم من موجة الإلحاد الطاغية التي كادت تغمر هذا الكوكب في الماضي. ولكن هذه الموجة تنحسر الآن. تنحسر- على الرغم من جميع الظواهر المخالفة -وقد لا يتم تمام هذا القرن العشرين الذي نحن فيه، حتى يتم انحسارها أو يكاد إن شاء الله. وحتى يحق وعد الله الذي لا بد أن يكون: أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟.. وهو الذي أعطى وعده عن علم وعن شهود.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع هذه الجملة بصريحها وتعريضها من الجملة التي قبلها موقع التعليل لأمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما أمر به، والتعليل راجع إلى إحالتهم على تشكيكهم في موقفهم للطعن في القرآن، وقد سكت عما يترتب على ظهور الآيات في الآفاق وفي أنفسهم المبينة أن القرآن حقّ؛ لأن ما قبله من قوله: {أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد} [فصلت: 52] ينبئ عن تقديره، أي لا يسعهم إلا الإيمان بأنه حق، فمن كان منهم شاكّاً من قبلُ عن قلة تبصر حصل له العلم بعد ذلك، ومن كان إنّما يكفر عناداً واحتفاظاً بالسيادة افتضح بهتانه وسفَّهه جيرانه، وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيراً عظيماً من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدّنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفقَ مِن قبلِ الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاَّ وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]...
ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلّدوه ديناً وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم، فأصلحت عوائدهم ونُظُمهم المدنِيّة المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة، وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدّين وعلماء العربية وأيّمة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم...
وأيَّة عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد. وقد قال عند مَوته: لو غيرُ أكَّار قتلني، ومن مقتل أُبيّ بن خلف يومئذٍ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قال له بمكة: أنا أقتلُك وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر: والله لو بصق علي لقتلني...