ومن أدلة توحيده ، أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء ، وجلب الخير والسراء . ولهذا قال : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } من فقر ، أو مرض ، أو عسر ، أو غم ، أو هم أو نحوه . { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فإذا كان وحده النافع الضار ، فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية .
ثم بين - سبحانه - أن نواصى العباد بيديه ، وأنه هو المتصرف فى خلقه بما يشاء ، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه فقال - تعالى - : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ . . . } .
المس : أعم من اللمس فى الاستعمال . يقال : مسه السوء والكبر والعذاب والتعب . أى : أصابه ذلك ونزل به .
" والضر : اسم للألم والحزن والخوف وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما كما أن النفع اسم للذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما " .
والخير : اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبله .
والمعنى : إن الناس جميعاً تحت سلطان الله وقدرته ، فما يصيبهم من ضر كمرض وتعب وحزن اقتضته سنة الله فى هذه الحياة ، فلا كاشف له إلا هو ، وما يصيبهم من خير كصحة وغنى وقوة وجاه فهو - سبحانه - قادر على حفظه عليهم ، وإبقائه لهم ، لأنه على كل شىء قدير .
والخطاب فى الآية يصح أن يكون موجها إلى النبى صلى الله عليه وسلم لتقويته فى دعوته ، وتثبيته أمام كيد الأعداء وأذاهم ، كما يصح أن يكون لكل من هو أهل للخطاب .
قال صاحب المنار : " ومن دقائق بلاغة القرآن المعجزة ، تجرى الحقائق بأوجز العبارات ، وأجمعها لمحاسن الكلام مع مخالفته بعضها فى بادىء الرأى لما هو الأصل فى التعبير ، كالمقابلة هنا بين الضر والخير ، وإنما مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر ، فنكتة المقابلة أن الضر من الله ليس شرا فى الحقيقة بل هو تربية واختبار للعبد يستفيد به من هو أهل للاستفادة أخلاقا وأدباً وعلماً وخبرة . وقد بدأ بذكر الضر لأن كشفه مقدم على نيل مقابله ، كما أن صرف العذاب فى الآخرة مقدم على النعيم " .
وقوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } جوابه محذوف تقديره : فلا راد له غيره .
وقوله : { فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } تعليل لكل من الجوابين المذكورين فى الشرطية الأولى والمحذوف فى الثانية .
وفى معنى هذه الآية جاءت آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .
ثم إنه لماذا يتخذ غير الله وليا ، ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به ، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب ؟ . . ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا ؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء ؛ ورجاء نفع الناس له بالسراء ؟ . . إن هذا كله بيد الله ؛ وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب ؛ وله القهر كذلك على العباد ؛ وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء :
( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .
إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر ؛ وتتبع مكامن الرغائب والمخافات ، ومطارح الظنون والشبهات وتجليه هذا كله بنور العقيدة ، وفرقان الإيمان ، ووضوح التصور ، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية . ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع ، وفي جملة هذا القرآن :
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } . .
يقول تعالى ذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن يصبك الله بضرّ ، يقول : بشدّة وشظف في عيشك وضيق فيه ، فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه ، وأذعن له من أهل زمانك ، دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام ودون كلّ شيء سواها من خلقه . وَإنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يقول : وإن يصبك بخير : أي برخاء في عيش وسعة في الرزق وكثرة في المال فتقرّ أنه أصابك بذلك ، فَهُوَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول تعالى ذكره : والله الذي أصابك بذلك فهو على كل شيء قدير ، هو القادر على نفعك وضرّك ، وهو على كلّ شيء يريده قادر ، لا يعجزه شيء يريده ولا يمتنع منه شيء طلبه ، ليس كالاَلهة الذليلة المهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها ولا دفع ضر عنها ولا غيرها يقول تعالى ذكره : فكيف تعبد من كان هكذا ؟ أم كيف لا تخلص العبادة ، وتقرّ لمن كان بيده الضرّ والنفع والثواب والعقاب وله القدرة الكاملة والعزّة الظاهرة ؟
{ يمسسك } معناه يصبك وينلك ، وحقيقة المس هي بتلاقي جسمين فكأن الإنسان والضر يتماسان ، و «الضُّر » بضم الضاد سوء الحال في الجسم وغيره ، «والضَّر » بفتح الضاد ضد النفع ، وناب الضر في هذه الآية مناب الشر وإن كان الشر أعم منه مقابل الخير ، وهذا من الفصاحة عدول عن قانون التكلف والصنعة ، فإن باب التكلف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مقترناً بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مضادة ، فمن ذلك قوله تعالى : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }{[4845]} فجعل الجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلَذَّةٍ . . . وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ
وَلَمْ أسْبَإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ ولمْ أقُلْ . . . لِخَيْلِيَ كُرِّي كُرَّةً بِعْدَ إجْفَالِ{[4846]}
وهذا كثير ، قال السدي «الضر » ها هنا المرض ، والخير العافية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مثال ، ومعنى الآية الإخبار عن أن الأشياء كلها بيد الله ، إن ضر فلا كاشف لضره غيره ، وإن أصاب بخير فكذلك أيضاً لا راد له ولا مانع منه ، هذا تقرير الكلام ، ولكن وضع بدل هذا المقدر لفظاً أعم منه يستوعبه وغيره ، وهو قوله : { على كل شيء قدير } ودل ظاهر الكلام على المقدر فيه ، وقوله : { على كل شيء قدير } عموم أي على كل شيء جائز يوصف الله تعالى بالقدرة عليه .