وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يردعهم عن هذا الظن لو كانوا يعقلون فقال : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } .
و { كَلاَّ } لفظ جىء به لزجرهم وردعهم عن هذا الاتخاذ الفاسد الباطل . أى : ليس الأمر كما توهم الجاهلون من أن أصنامهم ستكون لهم عزا ، بل الحق أن هذه المعبودات الباطلة ستكون عدوة لهم . وقرينتهم فى النار .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعال - : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } وقوله - سبحانه - : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } وأفرد - سبحانه - ( عزا وضدا ) مع أن المراد بهما الجمع . لأنهما مصدران
وقوله : كَلاّ يقول عزّ ذكره : ليس الأمر كما ظنوا وأمّلُوا من هذه الاَلهة التي يعبدونها من دون الله ، في أنها تنقذهم من عذاب الله ، وتنجيهم منه ، ومن سوء إن أراده بهم ربّهم . وقوله : سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ يقول عزّ ذكره : ولكن سيكفر الاَلهة في الاَخرة بعبادة هؤلاء المشركين يوم القيامة إياها ، وكفرهم بها قيلهم لربهم : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ، فجحدوا أن يكونوا عبدوهم أو أمروهم بذلك ، وتبرّأوا منهم ، وذلك كفرهم بعبادتهم . وأما قوله : وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وتكون آلهتهم عليهم عونا ، وقالوا : الضدّ : العون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا يقول : أعوانا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا قال : عونا عليهم تخاصمهم وتكذّبهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا قال : أوثانهم يوم القيامة في النار .
وقال آخرون : بل عنى بالضدّ في هذا الموضع : القُرَناء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا يقول : يكونون عليهم قرناء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا قرناء في النار ، يلعن بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ضِدّا قال : قرناء في النار .
وقال آخرون : معنى الضدّ ههنا : العدوّ . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا قال : أعداء .
وقال آخرون : معنى الضدّ في هذا الموضع : البلاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا قال : يكونون عليهم بلاء .
الضدّ : البلاء ، والضدّ في كلام العرب : هو الخلاف ، يقال : فلان يضادّ فلانا في كذا ، إذا كان يخالفه في صنيعه ، فيفسد ما أصلحه ، ويصلح ما أفسده ، وإذ كان ذلك معناه ، وكانت آلهة هؤلاء المشركين الذين ذكرهم الله في هذا الموضع يتبرّؤون منهم ، وينتفعون يومئذٍ ، صاروا لهم أضدادا ، فوصفوا بذلك .
وقد اختلف أهل العربية في وجه توحيد الضدّ ، وهو صفة لجماعة . فكان بعض نحويّي البصرة يقول : وحد لأنه يكون جماعة ، وواحدا مثل الرصد والأرصاد . قال : ويكون الرّصَد أيضا لجماعة . وقال بعض نحويي الكوفة وحّد ، لأن معناه عونا ، وذكر أن أبا نهيك كان يقرأ ذلك ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، قال : سمعت أبا نهيك الأزدي يقرأ : كَلاّ سَيَكْفُرُون يعني الاَلهة كلها أنهم سيكفرون بعبادتهم .
{ كلا } ردع وإنكار لتعززهم بها . { سيكفرون بعبادتهم } ستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا لقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } أو سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنهم عبدوها لقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } { ويكونون عليهم ضدا } يؤيد الأول إذا فسر الضد بضد العز ، أي ويكونون عليهم ذلا ، أو بضدهم على معنى أنها تكون معونة في عذابهم بأن توقد بها نيرانهم ، أو جعل الواو للكفرة أي يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها وتوحيده لوحدة المعنى الذي به مضادتهم ، فإنهم بذلك كالشيء الواحد ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام " وهم يد على من سواهم " . وقرىء { كلا } بالتنوين على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله :
*** أقلي اللوم عاذل والعتابن ***
أو على معنى كل هذا الرأي كلا وكلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون { كلا سيكفرون بعبادتهم } .
الضميران في قوله : { سيكفرون ويَكونون يجوز أن يَكونا عائدين إلى آلهة ، أي سينكر الآلهةُ عبادةَ المشركين إيّاهم ، فعبر عن الجحود والإنكار بالكفر ، وستكون الآلهة ذُلاّ ضد العزّ .
والأظهر أن ضمير { سيكفرون } عائد إلى المشركين ، أي سيكفر المشركون بعبادة الآلهة فيكون مقابل قوله { واتخذوا من دون الله آلهة } . وفيه تمام المقابلة ، أي بَعد أن تكلفوا جعلهم آلهةً لهم سيكفرون بعبادتهم ، فالتعبير بفعل { سيكفرون } يرجح هذا الحمل لأن الكفر شائع في الإنكار الاعتقادي لا في مطلق الجحود ، وأن ضمير { يكونون } للآلهة وفيه تشتيت الضمائر . ولا ضير في ذلك إذ كان السياق يُرجع كلاً إلى ما يناسبه ، كقول عباس بن مرداس :
عُدنا ولولا نحن أحدق جمعهم *** بالمسلمين وأحرزوا ما جَمّعوا
أي : وأحرز جَمْع المشركين ما جمّعه المسلمون من الغنائم .
ويجوز أن يكون ضميرا { سيكفرون } و{ يكونون } راجعين إلى المشركين . وأن حرف الاستقبال للحصول قريباً ، أي سيكفر المشركون بعبادة الأصنام ويدخلون في الإسلام ويكونون ضداً على الأصنام يهدمون هياكلها ويلعنونها ، فهو بشارة للنبيء بأن دينه سيظهر على دين الكفر . وفي هذه المقابلة طباق مرتين .
والضد : اسم مصدر ، وهو خلاف الشيء في الماهية أو المعاملة . ومن الثاني تسمية العدو ضدّاً . ولكونه في معنى المصدر لزم في حال الوصف به حالة واحدة بحيث لا يطابق موصوفه .