وإنما ذلك كله بيد الله { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى } بعد ذلك { عَلَى الْعَرْشِ } الذي هو سقف المخلوقات وأعلاها وأوسعها وأجملها { الرَّحْمَنِ } استوى على عرشه الذي وسع السماوات والأرض باسمه الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء فاستوى على أوسع المخلوقات ، بأوسع الصفات . فأثبت بهذه الآية خلقه للمخلوقات واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم وعلوه فوق العرش ومباينته إياهم .
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا } يعني بذلك نفسه الكريمة فهو الذي يعلم أوصافه وعظمته وجلاله ، وقد أخبركم بذلك وأبان لكم من عظمته ما تستعدون به من معرفته فعرفه العارفون وخضعوا لجلاله ،
{ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } من هواء وأجرام لا يعلمها إلا هو - سبحانه - .
{ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } من أيامه التى لا يعلم مقدار زمانها إلا هو - عز وجل - { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } استواء واستعلاء يليق بذاته ، بلا كيف أو تشبيه أو تمثيل ، كما قال الإمام مالك - رحمه الله - : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . ولفظ " ثم " فى قوله { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } لا يدل على الترتيب الزمنى وإنما يدل على بعد الرتبة ، رتبة الاستواء والاستعلاء والتملك .
وقوله : { الرحمن } أى : هو الرحمن . أى : صاحب الرحمة العظيمة الدائمة بعباده . والفاء فى قوله - تعالى - : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } هى الفصيحة . والجار والمجرور صلة " اسأل " وعدى الفعل " اسأل " بالباء لتضمنه معنى الاعتناء ، والضمير يعود إلى ما سبق ذكره من صفات الله - تعالى - ، ومن عظيم قدرته ورحمته .
والمعنى : لقد بينا لك مظاهر قدرتنا ووحدانيتا ، فإن شئت الزيادة فى هذا الشأن أو غيره ، فسأل قاصدا بسؤالك ربك الخبير بأحوال كل شىء خبرة مطلقة ، يستوى معها ما ظهر من أمور الناس وما خفى منها .
قال الإمام ابن جرير : وقوله - تعالى - : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } يقول : فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرا بخلقه ، فإنه خالق كل شىء ولا يخفى عليه ما خلق ، فعن ابن جريج : قوله : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } . قال : يقول - سبحانه - لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتك شيئا فاعلم أنه كلما أخبرتك فأنا الخبير . والخبير فى قوله { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } منصوب على الحال من الهاء التى فى قوله { بِهِ } .
وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض ، واستعلاءه على العرش :
الذي خلق السماوات والأرص وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، الرحمن ، فاسأل به خبيرا . .
وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا . فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي ، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض . وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . والخلق لا يقتضي إلا توجه الإرادة الإلهية المرموز له بلفظة : ( كن )فتتم الكينونة( فيكون ) . ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو - إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي . أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ( ثم )لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة . رتبة الاستواء والاستعلاء .
ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة : ( الرحمن ) . . ومع الرحمة الخبرة : ( فاسأل به خبيرا )الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء . فإذا سألت الله ، فإنما تسأل خبيرا ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ الرّحْمََنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وَتَوَكّلَ عَلى الحَيّ الّذهي لا يَمُوتُ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما فِي سَتّةِ أيّامٍ فقال : وَما بَيْنَهُما ، وقد ذكر السموات والأرض ، والسموات جماع ، لأنه وجه ذلك إلى الصنفين والشيئين ، كما قال القطامي :
ألَمْ يَحْزُنْكَ أنّ حِبالَ قَيْسٍ *** وَتَغْلِبَ قَدْ تَبايَنَتا انْقِطاعا
يريد : وحبال تغلب فثنى ، والحبال جمع ، لأنه أراد الشيئين والنوعين .
وقوله : فِي سِتّةِ أيّامٍ قيل : كان ابتداء ذلك يوم الأحد ، والفراغ يوم الجمعة ثُمّ اسْتَوَى عَلى الْعَرْشِ الرّحمنُ يقول : ثم استوى على العرش الرحمن وعلا عليه ، وذلك يوم السبت فيما قيل . وقوله : فاسأَلْ بِهِ خَبِيرا يقول : فاسأل يا محمد خبيرا بالرحمن ، خبيرا بخلقه ، فإنه خالق كلّ شيء ، ولا يخفى عليه ما خلق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله فاسأَلْ بِهِ خَبِيرا قال : يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرتك شيئا ، فاعلم أنه كما أخبرتك ، أنا الخبير والخبير في قوله : فاسأَلْ بِهِ خَبِيرا منصوب على الحال من الهاء التي في قوله به .
{ الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن } قد سبق الكلام فيه ، ولعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل والمتصرف فيه ، وتحريض على الثبات والتأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته وسرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة وتدرج ، و{ الرحمن } خبر للذي إن جعلته مبتدأ ولمحذوف إن جعلته صفة للحي ، أو بدل من المستكن في { استوى } وقرىء بالجر صفة للحي . { فسئل به خبيرا } فاسأل عما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك بحقيقته وهو الله تعالى ، أو جبريل أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه ، وقيل الضمير { للرحمن } والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون { الرحمن } مبتدأ والخبر ما بعده والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء . وقيل إنه صلة { خبيرا } .
وقوله { وما بينهما } مع جمعه { السماوات } قبل سائغ من حيث عادل لفظ { الأرض } لفظ { السماوات } ونحوه قول عمرو بن شييم : [ الوافر ]
ألم يحزنك أن جبال قيس . . . وتغلب قد تباينتا انقطاعا{[8859]}
من حيث عادلت جبالاً جبالاً ، ومنه قول الآخر : [ الكامل ]
إن المنية والحتوف كلاهما . . . يوفي المخارم يرقبان سوادي{[8860]}
وقوله { في ستة أيام } اختلفت الرواية في اليوم الذي ابتدأ الله فيه الخلق ، فأكثر الروايات على يوم الأحد ، وفي مسلم وفي كتاب الدلائل يوم السبت ، وبين بكون ذلك { في ستة أيام } وضع الإناءة والتمهل في الأمور لأن قدرته تقضي أنه يخلقها في طرفة عين لو شاء لا إله إلا هو ، وقد تقدّم القول في الاستواء ، وقوله { الرحمن } يحتمل أن يكون رفعه بإضمار مبتدأ أي هو { الرحمن } ويحتمل أن يكون بدلاً من الضمير في قوله { استوى } وقرأ زيد بن علي بن الحسين «الرحمنِ » بالخفض{[8861]} ، وقوله { فاسأل به خبيراً } فيه تأويلان : أحدهما { فاسأل } عنه و { خبيراً } على هذا منصوب إما بوقوع السؤال عليه والمعنى ، اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة ، والثاني أن يكون المعنى كما تقول لو لقيت فلاناً لقيت به البحر كرماً أي لقيت منه والمعنى فاسأل الله عن كل أمر ، و { خبيراً } على هذا منصوب إما بوقوع السؤال وإما على الحال المؤكدة كما قال { وهو الحق مصدقاً }{[8862]} [ البقرة : 91 ] ، وليست هذه بحال منتقلة إذ الصفة العلية لا تتغير{[8863]} .
أجريت هذه الصلة وصفاً ثانياً ل { الحي الذي لا يموت } [ الفرقان : 58 ] لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد ، فصاحبها حقيق بأن يُتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه . وهذا تخلّص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق .
وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيّام في سورة البقرة ، وعلى الاستواء في سورة الأعراف .
و { الرحمان } خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمان . وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها ، ثم يُراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه ، فإن وصف الرحمن أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف .
وفرع على وصفه ب { الرحمان } قوله { فسئل به خبيراً } للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على عليم بتصاريف رحمته مُجرب لها مُتلقّ أحاديثها ممن عَلِمها وجرّبها .
وتنكير { خبيراً } للدلالة على العُموم ، فلا يظن خبيراً معيناً ، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل الأمر اقتضت عموماً بدليل أيّ خبير سألته أعلمك .
وهذا يجري مجرى المثل ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب : « على الخبير سقطتَ » يقولها العارف بالشيء إذا سُئِل عنه . والمَثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثَل القرآني أفصحُ لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في ( سقطت ) . وهو أيضاً أشرف لسلامته من معنى السقوط ، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير ، بخلاف قولهم : على الخبير سقطتَ ، لأنها إنما يقولها الواحد المعيَّن . وقريب من معنى { فسئل به خبيراً } قول النابغة :
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي *** إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم *** وليس جاهلُ شيء مثلَ مَن علما
والباء في { به } بمعنى ( عن ) أي فاسأل عنه كقول علقمة :
فإن تسأُلوني بالنساء فإنني *** خبير بأدواء النساء طبيب
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب { خبيراً } وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام ، فله سببان .