{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
هذه الآيات نزلت في وقعة " أُحد " وقصتها مشهورة في السير والتواريخ ، ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع ، وأدخل في أثنائها وقعة " بدر " لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم ، ورد كيد الأعداء عنهم ، وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا لا يتخلف مع الإتيان بشرطه ، فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين ، وأن الله نصر المؤمنين في " بدر " لما صبروا واتقوا ، وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من الإخلال بالتقوى ما صدر ، ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون ، فيخف عنهم البلاء ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه الذي هو في الحقيقة خير لهم ، كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا يسيرا ، وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } وحاصل قضية " أحد " وإجمالها أن المشركين لما رجع فلهم من " بدر " إلى مكة ، وذلك في سنة اثنتين من الهجرة ، استعدوا بكل ما يقدرون عليه من العدد بالأموال والرجال والعدد ، حتى اجتمع عندهم من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم ، ثم وجهوا من مكة للمدينة في ثلاثة آلاف مقاتل ، حتى نزلوا قرب المدينة ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر رأيهم على الخروج ، وخرج في ألف ، فلما ساروا قليلا رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته ، وهمت طائفتان من المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله ، فلما وصلوا إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا ظهورهم إلى أحد ، ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجلا من أصحابه في خلة في جبل " أحد " وأمرهم أن يلزموا مكانهم ولا يبرحوا منه ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم ، فلما التقى المسلمون والمشركون انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم ، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ، فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجبل ، قال بعضهم لبعض : الغنيمة الغنيمة ، ما يقعدنا هاهنا والمشركون قد انهزموا ، ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن المعصية فلم يلتفتوا إليه ، فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إلا نفر يسير ، منهم أميرهم عبد الله بن جبير ، جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم ، فجال المسلمون جولة ابتلاهم الله بها وكفر بها عنهم ، وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة ، فحصل ما حصل من قتل من قتل منهم ، ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل " أحد " وكف الله عنهم أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلادهم ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى { وإذ غدوت من أهلك } والغدو هاهنا مطلق الخروج ، ليس المراد به الخروج في أول النهار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إلا بعدما صلوا الجمعة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي : تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللائق به ، وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال ، وما ذاك إلا لكمال علمه ورأيه ، وسداد نظره وعلو همته ، حيث يباشر هذه الأمور بنفسه وشجاعته الكاملة صلوات الله وسلامه عليه { والله سميع } لجميع المسموعات ، ومنه أنه يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه { عليم } بنيات العبيد ، فيجازيهم عليها أتم الجزاء ، وأيضا فالله سميع عليم بكم ، يكلؤكم ، ويتولى تدبير أموركم ، ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى لموسى وهارون { إنني معكما أسمع وأرى } .
والآن فلنول وجوهنا شطر القرآن الكريم ، لنتدبر حديثه الحكيم عن هذه الغزوة ، ولنستمع إليه بقلوب واعية ، وآذان متفتحة ، وهو يبدأ حديثه عنها فيقول : { وَإِذْ غَدَوْتَ . . . } .
فى هذه الآيات الكريمة التى بدأت السورة بها حديثها عن غزوة أحد ، تذكير للمؤمنين بما وقع فيها حتى يعتبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا .
وقوله - تعالى - : { غَدَوْتَ } من الغدو وهو الخروج فى أول النهار ، يقال : غدا يغدو من باب سما يسمو .
و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ أَهْلِكَ } للابتداء ، والمراد بأهله ، زوجه عائشة - رضى الله عنها - فقد كان خروجه لغزوة أحد من بيتها . والكلام على حذف مضاف يدل عليه فعل { غَدَوْتَ } والتقدير : من بيت أهلك .
وقوله : { تُبَوِّىءُ } أصله من التبوء وهو اتخاذ المنزل . يقال : بوأته ، وبوأت له منزلا ، أى : أنزلته فيه . والمراد به هنا تنظيم المؤمنين وتسويتهم للقتال ، حتى يكونوا صفا واحداً كأنهم بنيان مرصوص .
والعامل فى { وَإِذْ } فعل مضمر تقديره ، واذكر .
والمعنى : واذكر لهم يا محمد ليعتبروا ويتعظوا وقت خروجك مبكراً من حجرة زوجتك عائشة إلى غزوة أحد .
وقوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى تنزلهم وتسوى لهم بالتنظيم والترتيب مواطن وأماكن للقتال ، بحيث يكونون فى أحسن حال ، وأكمل استعداد لملاقاة أعدائهم .
قال الجمل : " ويستعمل الفعل { غَدَوْتَ } بمعنى صار عند بعضهم ، فيكون ناقصاً يرفع الاسم وينصب الخبر . . . وهذا المعنى ممكن هنا ، فالمعنى عليه ، وإذ غدوت أى صرت تبوىء المؤمنين أى تنزلهم فى منازل للقتال ، وهذا أظهر من الآخر ، لأن المذكور فى القصة أنه سار من عند أهله بعد صلاة الجمعة وبات فى شعب أحد ، وأصبح ينزل أصحابه فى منازل القتال ويدبر لهم أمر الحرب " .
فالجملة الكريمة تشير إلى ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قبل أن تبدأ المعركة ، فقد اهتم بتنظيم صفوفهم ، وبرسم الخطة الحكيمة التى تكفل لهم النصر ، وأمر الجيش كله ألا يتحرك للقتال إلا عندما يأذن له بذلك ، ولقد حدث أن بعض المسلمين من الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت خيولها وإبلها فى زروع المسلمين ، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم " أترعى زروع بنى قيلة - يعنى الأنصار - ولما تضارب " ؟ ؟ إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القتال إلا بعد إذنه .
وجملة { تُبَوِّىءُ } حال من فاعل " غدوت " .
والفعل { تُبَوِّىءُ } يحتاج لمفعولين :
أولهما : قوله : { المؤمنين } .
وثانيهما : قوله : { مَقَاعِدَ } وقوله : { لِلْقِتَالِ } متعلق بقوله : { تُبَوِّىءُ } .
والمراد بقوله : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى مراكز وأماكن ومواقف للقتال بحيث يعرف كل مؤمن مكانه وموقفه فينقض منه على خصمة إلا أن القرآن الكريم عبر عن هذه الأماكن والمراكز والمواقف بالمقاعد . للإشارة إلى وجوب الثبات فيها كما يثبت القاعد فى مكانه ، وأن عليهم ألا يبرحوا أماكنهم إلا بإذن قائدهم صلى الله عليه وسلم .
وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لبيان أنه مطلع على كل شىء ، وعلى ما كان يجرى بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه من مشاورات ومناقشات .
فهو - سبحانه - { سَمِيعٌ } لما نطقت به ألسنتهم { عَلِيمٌ } بما تخفيه صدورهم ، وسيجازى المؤمنين الصادقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى غيرهم من ضعاف الإيمان والمنافقين بما يستحقون من عقاب .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة غرس الرهبة فى قلوب المؤمنين ، حتى لا يعودوا إلى مثل ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد . حيث خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم . ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو ، واستحضار المشهد الأول بهذا النص ، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور . وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم ، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم . وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي . وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي . والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي ، بكل تكاليفه ، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها ، وبكل حيويتها كذلك :
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . . والله سميع عليم . . ) . .
والإشارة هنا إلى غدو النبي [ ص ] من بيت عائشة - رضي الله عنها - وقد لبس لأمته ودرعه ؛ بعد التشاور في الأمر ، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها . وما أعقب هذا من تنظيم الرسول [ ص ] للصفوف ، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل . . وهو مشهد يعرفونه ، وموقف يتذكرونه . . ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :
ويا له من مشهد ، الله حاضره ! ويا له من موقف ، الله شاهده ! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور . والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر .
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذْ غَدَوتَ مِن أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤمِنِينَ } : وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم أيها المؤمنون كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئا ، ولكن الله ينصركم عليهم إن صبرتم على طاعتي ، واتباع أمر رسولي ، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة . وإن أنتم خالفتم أيها المؤمنون أمري ، ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي ، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه ، وخالفتم أمري ، وأمر رسولي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحد ، واذكروا ذلك اليوم إذ غدا نبيكم يبوّىء المؤمنين¹ فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه ، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم ، إن صبروا على أمره ، واتقوا محارمه ، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحد ، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتنازعوا الرأي بينهم . وأخرج الخطاب في قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ } على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بمعناه الذين نهاهم أن يتخذ الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين ، فقد بيّن إذا أن قوله : «وإذ » إنما جرّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت .
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عزّ وجلّ بقوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } فقال بعضهم : عَنَى بذلك يَوْمَ أحد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } قال : مشى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ على رجليه يبوّىء المؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهِلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } ذلك يوم أحد ، غدا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } فغدا النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنَ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } فهو يوم أحد .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ } قال : هنا يوم أحد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : مما نزل في يوم أحد : { وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المؤْمِنِينَ } .
وقال آخرون : عَنَى بذلك يوم الأحزاب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { وإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ } قال : يعني محمدا صلى الله عليه وسلم غدا يبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب .
وأولى هذين القولين بالصواب ، قول من قال : عنى بذلك : يوم أحد¹ لأن الله عزّ وجلّ يقول في الاَية التي بعدها : { إذْ هَمّتْ طائِفَتانِ مِنكُمْ أنْ تَفْشَلا } ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة . ولا خلاف بين أَهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب .
فإن قال لنا قائل : وكيف يكون ذلك يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما راح إلى أحد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس ، كالذي :
حدثكم ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلى الجمعة إلى أحد ، دخل فلبس لأمَتَهُ ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج عليهم وقال : «ما يَنْبَغِي لنبيّ إذا لَبَسَ لأْمَتَهُ أنْ يَضَعَها حتى يُقاتِلَ » ؟ .
قيل : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحا فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدهم للقتال عند خروجه ، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوه¹ وذلك أن المشركين نزلوا منزلهم من أحد فيما بلغنا يوم الأربعاء ، فأقاموا به ذلك اليوم ويوم الخميس ويوم الجمعة ، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة بعد ما صلى بأصحابه الجمعة ، فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم .
فإن قال : وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعد للقتال غدوّا قبل خروجه ، وقد علمت أن التبوئة اتخاذ الموضع ؟ قيل : كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضته عدوّه عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم بيوم أو يومين . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أُحُدا ، قال فيما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ لأصحابه : «أشِيرُوا عَليّ ما أصْنَع ؟ »فقالوا : يا رسول الله اخرج إلى هذه الأكلب . فقالت الأنصار : يا رسول الله ما غلبنا عدوّ لنا أتانا في ديارنا ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره فقال : يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة ، فيقاتَلوا في الأزقة ، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاريّ ، فقال : يا رسول الله ، لا تحرمني الجنة ، فوالذي بعثك بالحقّ لأدخلنّ الجنة ! فقال له : «بم ؟ » قال : بأني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وأني لا أفرّ من الزحف . قال : «صَدَقْتَ ؟ » فقتل يومئذٍ . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها ، فلما رأوه وقد لبس السلاح ، ندموا ، وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ! فقاموا واعتذروا إليه ، وقالوا : اصنع ما رأيت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أنْ يَلْبَسَ لأُمَتَهُ فَيَضَعَها حتى يُقاتِلَ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني ابن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي قَدْ رأيْتُ بَقَرا فأوّلْتُها خَيْرا ، ورأيْتُ فِي ذُبابِ سَيْفِي ثَلْما ، ورأيْتُ أنّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ ، فأوّلْتُها المَدِينَةَ فإنْ رأيْتُمْ أنْ تُقيمُوا بالمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا ، فإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرّ مُقامٍ ، وَإنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنا قاتَلْناهُمْ فِيها » . وكان رأي عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أن لا يخرج إليهم . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة ، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا ! فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول : يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه ! فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشرّ محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا . فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلبس لأمته .
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعد للقتال ، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا على ما وصفه الذين حكينا قولهم¹ يقال منه : بوّأت القوم منزلاً وبوّأته لهم فأنا أبوّئهم المنزل تبوئة ، وأبوىء لهم منزلاً تبوئة . وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود : «وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ للْقِتالِ » وذلك جائز ، كما يقال : رَدِفَكَ وَردِفَ لك ، ونقدت لها صداقها ونقدتها ، كما قال الشاعر :
أسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبا لَسْتُ مُحْصِيَهُ *** رَبّ العِبادِ إليهِ الوَجْهِ وَالعَمَلُ
والكلام : أستغفر الله لذنب . وقد حكي عن العرب سماعا : أبأت القوم منزلاً فأنا أبيئهم إباءة ، ويقال منه : أبأت الإبل : إذا رددتها إلى المباءة ، والمباءة : المراح الذي تبيت فيه ، والمقاعد : جمع مقعد وهو المجلس . فتأويل الكلام : واذكر إذ غدوت يا محمد من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرا وموضعا لقتال عدوّهم . وقوله : { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعني بذلك تعالى ذكره : والله سميع لما يقول المؤمنون لك ، فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم من قول من قال : اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة ، وقول من قال لك : لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا ، على ما قد بينا قبل ، ومما تشير به عليهم أنت يا محمد . عليم بأصلح تلك الاَراء لك ولهم ، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوّك ، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة ، وغير ذلك من أمرك وأمورهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } : أي سميع لما يقولون ، عليم بما يخفون .
{ وإذ غدوت } أي واذكر إذ غدوت . { من أهلك } أي من حجرة عائشة رضي الله عنها . { تبوئ المؤمنين } تنزلهم . أو تسوي وتهيئ لهم ويؤيده القراءة باللام . { مقاعد للقتال } مواقف وأماكن له ، وقد يستعمل المقعد والمقام بمعنى المكان على الاتساع كقوله تعالى : { في مقعد صدق } وقوله تعالى : { قبل أن تقوم من مقامك } . { والله سميع } لأقوالكم . { عليم } بنياتكم روي ( أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء- ثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة- فاستشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، وقد دعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قبل فقال هو وأكثر الأنصار : أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وأشار بعضهم إلى الخروج فقال عليه الصلاة والسلام : " رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي فأولتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فقال رجال فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد اخرج بنا إلى أعدائنا . وبالغوا حتى دخل ولبس لامته ، فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل " . فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب أحد يوم السبت ، ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وسوى صفهم ، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال : انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ) .
ذهب الطبري رحمه الله إلى أن هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من الآيات والظاهر أنها استقبال أمر آخر ، لأن تلك مقاولة في شأن منافقي اليهود ، وهذا ابتداء عتب المؤمنين في أمر أحد ، فالعامل في { إذ } فعل مضمر تقديره واذكر ، وقال الحسن : هذا الغدو المذكور في هذه الآية «لتبويء المؤمنين » الذي كان في غزوة الأحزاب .
قال القاضي أبو محمد : وخالفه الناس ، والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحد ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل ، وقصدوا المدينة ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر ، فنزلوا عند أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، على رأس أحد وثلاثين شهراُ من الهجرة ، وأقاموا هنالك يوم الخميس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدير وينتظر أمر الله تعالى ، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم وأخبرهم أنه كان يرى بقرة تذبح وثلماً في ذباب سيفه ، وأنه يدخل يده في درع حصينة ، وأنه تأولها المدينة ، وقال لهم ، أرى أن لا نخرج إلى هؤلاء الكفار ، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول : أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس ، فإن هم أقاموا أقاموا بشر محبس وإن انصرفوا مضوا خائبين ، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام ، فوالله ما حاربنا قط عدواً في هذه المدينة إلا غلبناه ، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا ، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأي جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار ، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر : يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا ، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس صلاة الجمعة وقد جشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب ، فدخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه ، فندم اولئك القوم وقالوا : أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه ، قالوا : يا رسول الله أقم إن شئت ، فإنّا لا نريد أن نكرهك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل ثم خرج بالناس ، وسار حتى قرب من عسكر المشركين ، هناك وبات تلك الليلة ، وقد غضب عبد الله بن أبي بن سلول وقال : أطاعهم وعصاني ، فلما كان في صبيحة يوم السبت ، اعتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السير إلى مناجزة المشركين ، فنهض وهو في ألف رجل ، فانعزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل من الناس ، من منافق ومتبع ، وقالوا : نظن أنكم لا تلقون قتالاً ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سبعمائة ، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف ، ورأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين ، وكادوا أن يجبنوا ويفشلوا فعصمهم الله تعالى ، وذمر{[3474]} بعضهم بعضاً ، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين ، فتصافَّ الناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة عبد الله بن جبير ، وكانوا خمسين رجلاً ، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين ، وأسند هو إلى الجبل ، فلما أضرمت الحرب انكشف المشركون وانهزموا ، وجعل نساء المشركين تبدو خلاخلهن وهن يسندن في صفح{[3475]} جبل ، فلما رأى الرماة ذلك قالوا : الغنيمة الغنيمة أيها المسلمون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم : لا تبرحوا من هنا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فقال لهم عبد الله بن جبير وقوم منهم : اتقوا الله واثبتوا كما أمركم نبيكم ، فعصوا وخالفوا وزالوا متبعين ، وكان خالد بن الوليد قد تجرد في جريدة خيل وجاء من خلف المسلمين حيث كان الرماة ، فحمل على الناس ووقع التخاذل وصيح في المسلمين من مقدمتهم ومن ساقتهم ، وصرخ صارخ : قتل محمد ، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين نيف على سبعين ، قال مكي : قال مالك رحمه الله : قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة ، ومن الأنصار سبعون وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل وتجاوز الناس ، هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآية ، وأمر «أحد » بطوله وما تخلله من الأفعال والأقوال ، مستوعب في كتب السير ، وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره وحكى مكي عن السدي ما يظهر منه أن القتال كان يوم الجمعة ، وحكى عنه الطبري ، أن نزول أبي سفيان بأحد كان في الثالث من شوال ، وذلك كله ضعيف ، وقال النقاش ، وقعة «أحد » في الحادي عشر من شوال ، وذلك خطأ ، قال الطبري وغيره : فغدو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إلى التدبير مع الناس واستشارتهم هو الذي عبر عنه بقوله تعالى : { تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال } .
قال القاضي : ولا سيما أن غدو النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان ورأيه أن لا يخرج الناس ، فكان لا يشك في نفسه أن يقسم أقطار المدينة على قبائل الأنصار ، وقال غير الطبري : بل نهوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد الصلاة ، هو غدوه ، وبوأ المؤمنين في وقت حضور القتال ، وقيل ذلك في ليلته ، وسماه «غدواً » إذ كان قد اعتزم التدبير ، والشروع في الأمر من وقت الغدو .
قال القاضي أبو محمد : ولا سيما أن صلاة الجمعة ربما كانت قبل الزوال ، حسبما وردت بذلك أحاديث{[3476]} ، فيجيء لفظ الغدو متمكناً ، وقيل إن «الغدو » المذكور هو «غدوة » يوم السبت إلى القتال ، ومن حيث لم يكن في تلك الليلة موافقاً للغدو فهو كأنه كان في أهله وبوأ المسلمين بأمره الرماة وبغير ذلك من تدبيره مصاف الناس و { تبوىء } معناه : تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها ويثبتون تقول : تبوأت مكان كذا ، إذا حللته حلولاً متمكناً تثبت فيه ، ومنه قوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء }{[3477]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار »{[3478]} ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل مرفل ]
كم صاحب ليَ صالحٍ . . . بَوَّأْتُهُ بيديَّ لحْدا{[3479]}
وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مَنْزلاً . . . بِشَرْقِيّ أجْيَادِ الصَّفَا والْمحَرَّمِ{[3480]}
وقوله تعالى : { مقاعد } جمع مقعد وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة قولك مواقف ، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان{[3481]} يجولون ، وقوله : { والله سميع } أي ما تقول ويقال لك وقت المشاورة وغيره .
وجود حرف العطف في قوله : { وإذ غدوت } مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل { ودوا ما عنتم } [ آل عمران : 118 ] ومثل { يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] وعليه فهو آت كما أتَتْ نظائره في أوائل الآي والقِصص القرآنية ، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير : واذكر إذ غدوت . ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممَّا بعده لأنّ قوله : { تبوِّىء } لاَ يستقيم أن يكون مبدأ الغرض ، وقوله : { همت } لا يصلح لتعليق { إذ غدوت } لأنَّه مدخول ( إذْ ) أخرى .
ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين ، المنافقين ، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً ، ودخيلتهما سواء ، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود ، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد ، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم . فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحُد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكَّة ومن معهم من أحلافهم سَفْحَ جبل أحُد ، حول المدينة ، لأخذ الثَّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بنُ أبي ابن سَلُول رأسُ المنافقين ، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتَّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج ، ولبس لأْمته ، ثُمّ عرضَ للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا ينبغي لنبيء أن يلبس لأمته فيضعها حتَّى يحكم الله بينه وبين عدُوّه "