{ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } فإنها معاذير لا تقبل ، ولا تقابل ما يقرر به العبد{[1293]} ، فيقر به ، كما قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } .
فالعبد وإن أنكر ، أو اعتذر عما عمله ، فإنكاره واعتذاره لا يفيدانه شيئا ، لأنه يشهد عليه سمعه وبصره ، وجميع جوارحه بما كان يعمل ، ولأن استعتابه قد ذهب وقته وزال نفعه : { فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ }
{ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } أى : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها
وعن الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وقال : المعاذير : الستور ، واحدها معذار ، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب ، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب .
فإن قلت : أليس قياس المعذرة أن تجمع لا معاذير ؟ قلت : المعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها .
فالمقصود بهاتين الآيتين : بيان أن الإِنسان لن يستطيع أن يهرب من نتائج عمله مهما حاول ذلك ، لأن جوارحه شاهدة عليه ، ولأن أعذاره لن تكون مقبولة ، لأنها جاءت فى غير وقتها ،
ومهما اعتذر الإنسان بشتى المعاذير عما وقع منه ، فلن يقبل منها عذر ، لأن نفسه موكولة إليه ، وهو موكل بها ، وعليه أن يهديها إلى الخير ويقودها . فإذا انتهى بها إلى الشر فهو مكلف بها وحجة عليها :
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ) . .
ومما يلاحظ أن كل شيء سريع قصير : الفقر . والفواصل . والإيقاع الموسيقي . والمشاهد الخاطفة . وكذلك عملية الحساب : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر )هكذا في سرعة وإجمال . . ذلك أنه رد على استطالة الأمد والاستخفاف بيوم الحساب !
وقوله : ولَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ اختلف أهل الرواية في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : بل للإنسان على نفسه شهود من نفسه ، ولو اعتذر بالقول مما قد أتى من المآثم ، وركب من المعاصي ، وجادل بالباطل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ يعني الاعتذار ، ألم تسمع أنه قال : لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ، وقال الله : «وألقوا إلى الله يومئذٍ السّلَم ما كنا نعمل من سوء » وقولهم : وَاللّهِ رَبّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سعيد بن جُبير ، في قولهّ : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةُ قال : شاهد على نفسه ولو اعتذر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَو ألْقَى مَعاذِيرَهُ ولو جادل عنها ، فهو بصيرة عليها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عمران بن حدير ، قال : سألت عكرمة ، عن قوله : بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصيرَةٌ وَلَوْ ألْقَى مَعاذيرَهُ قال : فسكت ، فقلت له : إن الحسن يقول : ابن آدم عملك أولى بك ، قال : صدق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ قال : معاذيرهم التي يعتذرون بها بوم القيامة فلا ينتفعون بها ، قال : يوم لا يؤذن لهم فيعتذرون ويوم يؤذن لهم فيعتذرون فلا تنفعهم ، ويعتذرون بالكذب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل للإنسان على نفسه من نفسه بصيرة ولو تجرّد . ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : ثني أبي ، عن خالد بن قيس ، عن قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن ابن عباس ، في قوله : وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ قال : لو تجرّد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا رَوّاد ، عن أبي حمزة ، عن السديّ ، في قوله : وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ ولو أرخى الستور ، وأغلق الأبواب .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ لم تقبل . ذكر من قال ذلك :
حدثني نصر بن عليّ ، قال : ثني أبي ، عن خالد بن قيس ، عن قتادة ، عن الحسن : وَلَوْ ألْقَى مَعاذِيرَهُ لم تُقبل معاذيره .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معناه : ولو اعتذر لأن ذلك أشبه المعاني بظاهر التنزيل وذلك أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن الإنسان أن عليه شاهدا من نفسه بقوله بَلِ الإنْسانُ على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ فكان الذي هو أولى أن يتبع ذلك ، ولو جادل عنها بالباطل ، واعتذر بغير الحقّ ، فشهادة نفسه عليه به أحقّ وأولى من اعتذاره بالباطل .
و «المعاذير » هنا قال الجمهور : هي الأعذار جمع معذرة ، وقال السدي والضحاك : هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر : المعذار{[11470]} ، وقال الحسن : المعنى { بل الإنسان على نفسه } بلية ومحنة ، كأنه ذهب إلى البصيرة التي هي طريقة الدم وداعية طلب الثأر{[11471]} وفي هذا نظر .
وجملة { ولو ألقَى معاذيرَه } في موضع الحال من المبتدأ وهو الإِنسان ، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها .
{ لو } هذه وَصْلِيَّةٌ كما تقدم عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به } في آل عمران ( 91 ) . والمعنى : هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره .
والإِلقاء : مراد به الإِخبار الصريح على وجه الاستعارة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فألْقَوا إليهم القول إنكم لكاذبون } في سورة النحل ( 86 ) .
والمعاذير : اسم جمع مَعذرة ، وليس جمعاً لأن معذرة حقه أن يُجمع على معَاذر ، ومثل المعاذير قولهم : المناكير ، اسم جمع مُنْكَر . وعن الضحاك : أن معاذير هُنا جمع مِعْذار بكسر الميم وهو السِتر بلغة اليمن يكون الإِلقاء مستعملاً في المعنى الحقيقي ، أي الإِرخاء ، وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذباً بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه .
والمعنى : أن الكافر يعلم يومئذٍ أعماله التي استحق العقاب عليها ويحاول أن يعتذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره .
و{ معاذيره } : جمع معرف بالإِضافة يدل على العموم . فمن هذه المعاذير قولهم : { رب ارجعون لعليَ أعْمَلُ صالحاً فيما تركتُ } [ المؤمنون : 99 ، 100 ] ومنها قولهم : { ما جاءَنا من بشير } [ المائدة : 19 ] وقولهم : { هؤلاء أضَلونا } [ الأعراف : 38 ] ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة .