{ 1-12 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
1- سورة " الواقعة " هي السورة السادسة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فقد كان نزولها بعد سورة " طه " وقبل سورة " الشعراء " .
وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ، فعن ابن عباس قال : قال أبو بكر –رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اله قد شبت . قال : شيبتني هود والواقعة والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت .
وعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا . . . " ( {[1]} ) .
2- وعدد آياتها ست وتسعون آية عند الكوفيين . وسبع وتسعون عند البصريين ، وتسع وتسعون عند الحجازيين والمدنيين .
3- وسورة " الواقعة " من السور المكية الخالصة ، واستثنى بعضهم بعض آياتها ، وعدها من الآيات المدنية ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين ] .
وقوله –سبحانه- : [ فلا أقسم بمواقع النجوم . . . ] إلى قوله –تعالى- : [ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ] .
والذي تطمئن إليه النفس أن السورة كلها مكية ، وأن ما استثنى منها لم يقم دليل يعتد به على صحته .
4- وقد افتتحت سورة " الواقعة " بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن أقسام الناس في هذا اليوم . .
قال –تعالى- : [ وكنتم أزواجا ثلاثة ، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ، والسابقون السابقون . . . ] .
5- وبعد أن فصل –سبحانه- الحديث عن كل قسم من هذه الأقسام ، وبين ما أعد له من جزاء عادل . . . أتبع ذلك بالحديث عن مظاهر قدرته ، وسعة رحمته ، وعظيم فضله ، فقال –تعالى- : [ نحن خلقناكم فلولا تصدقون . أفرأيتم ما تمنون ، أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون . . . ] .
[ أفرأيتم ما تحرثون ، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون . . . ] .
[ أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ] .
[ أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنزلون ] .
6- وكما افتتحت السورة الكريمة ببيان أهوال يوم القيامة ، وبيان أنواع الناس في هذا اليوم . . اختتمت –أيضا- بالحديث عن أقسام الناس يوم الحساب ، وعاقبة كل قسم ، قال –تعالى- : [ فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة ونعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين ، فسلام لك من أصحاب اليمين ، وأما إن كان من المكذبين الضالين ، فنزل من حميم ، وتصلية جحيم ، إن هذا لهو حق اليقين ، فسبح باسم ربك العظيم ] .
7- هذا والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها قد ساقت بأسلوب بليغ مؤثر ، ما يحمل الناس على حسن الاستعداد ليوم القيامة ، عن طريق الإيمان العميق ، والعمل الصالح ، وما يبين لهم عن طريق المشاهدة مظاهر قدرة الله –تعالى- ووحدانيته ، وما يكشف لهم النقاب عن أقسام الناس في يوم الحساب ، وعن عاقبة كل قسم ، وعن الأسباب التي وصلت بكل قسم منهم إلى ما وصل إليه من جنة أو نار . .
وما يريهم عجزهم المطلق أمام قدرة الله –تعالى- وأمام قضائه وقدره . . فهم يرون بأعينهم أعز إنسان عندهم ، تنتزع روحه من جسده . . ومع ذلك فهم عاجزون عن أن يفعلوا شيئا . .
وصدق الله إذ يقول : [ فلولا إذا بلغت الحلقوم ، وأنتم حينئذ تنظرون ، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين ] . .
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا من عباده المقربين . . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
افتتحت سورة " الواقعة " بتقرير الحقيقة التى لا شك فيها ، وهى أن يوم القيامة حق وأن الحساب حق ، وأن الجزاء حق . . .
وقد اختير الافتتاح بالظرف المتضمن معنى الشرط ، لأنه ينبه الأذهان ويحرك النفوس لترقب الجواب .
والواقعة من أسماء القيامة كالقارعة ، والحاقة ، والآزفة . . . .
قال الجمل : وفى { إِذَا } هنا أوجه : أحدهما : أنها ظرف محض ، ليس فيها معنى الشرط ، والعامل فيها ليس ، من حيث ما فيها من معنى النفى ، كأنه قيل : ينتفى التكذيب بوقوعها إذا وقعت .
والثانى : أن العامل فيها اذكر مقدار ، الثالث : أنها شرطية وجوابها مقدر ، أى : إذا وقت الواقعة كان ، كيت وكيت ، وهو العامل فيها .
وقال بعض العلماء : والذى يظهر لى صوابه ، أن إذا هنا : هى الظرفية المتضمنة معنى الشرط ، وأن قوله الآنى : { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } بدل من قوله : { وَقَعَتِ الواقعة } وأن الجواب إذا هو قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة . . } .
وعليه فالمعنى : إذا قامت القيامة ، وحصلت هذه الأحوال العظيمة ، ظهرت منزلة أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة . . .
سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون
الواقعة . . اسم للسورة وبيان لموضوعها معا . فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة ، ردا على قولة الشاكين فيها ، المشركين بالله ، المكذبين بالقرآن : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? . .
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة . وصفها بصفتها التي تنهي كل قول ، وتقطع كل شك ، وتشعر بالجزم في هذا الأمر . . الواقعة . . ( إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة ) . . وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم ، حيث تتبدل أقدار الناس ، وأوضاع الأرض ، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض ، كما يبدل القيم غير القيم سواء : خافضة رافعة . . إذا رجت الأرض رجا ، وبست الجبال بسا ، فكانت هباء منبثا . وكنتم أزواجا ثلاثة . . . الخ .
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة : السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أوفى تفصيل ، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع ، لا مجال للشك فيه ، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان . حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين . وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين . وكانوا يصرون على الحنث العظيم . وكانوا يقولون : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون . . وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح . ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب !
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة . ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها ، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول ؛ بلمسات مؤثرة ، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر ، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان ، أيا كانت بيئته ، ودرجة معرفته وتجربته .
يعرض نشأتهم الأولى من مني يمنى . ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى ، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى ، التي يعرفونها جميعا .
ويعرض صورة الحرث والزرع ، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها . إنشاؤها بيد الله وقدرته . ولو شاء الله لم تنشأ ، ولو شاء لم تؤت ثمارها .
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها . وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب . ولو شاء جعله ملحا أجاجا ، لا ينبت حياة ، ولا يصلح لحياة .
وصورة النار التي يوقدون ، وأصلها الذي تنشأ منه . . الشجر . . وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذرا . ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها .
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة ، يلمس بها قلوبهم ، ولا يكلفهم فيها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها .
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن " الواقعة " فيشكون في وعيده . فيلوح بالقسم بمواقع النجوم ، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه تنزيل من رب العالمين .
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار . في لمسة عميقة مؤثرة . حين تبلغ الروح الحلقوم ، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر ؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين ، لا يملكون له شيئا ، ولا يدرون ما يجري حوله ، ولا ما يجري في كيانه . ويخلص أمره كله لله ، قبل أن يفارق هذه الحياة . ويرى هو طريقه المقبل ، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير !
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق ، وتسبيح الله الخالق : ( إن هذا لهو حق اليقين . فسبح باسم ربك العظيم ) . . فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام . .
( إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة . إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . . . ) .
هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل . وهو يتبع أسلوبا خاصا يلحظ فيه هذا المعنى ، ويتناسق مع مدلولات العبارة . فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها . ( إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة ) . . ولا يقول : ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة ، وهي خافضة رافعة . ولكن يبدأ حديثا جديدا : ( إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباء منبثا . ) . . ومرة أخرى لا يقول : ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم . . فكأنما هذا الهول كله مقدمة ، لا يذكر نتائجها ، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ ، أو تعبر عنها العبارة !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رّافِعَةٌ * إِذَا رُجّتِ الأرْضُ رَجّاً * وَبُسّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَآءً مّنبَثّاً } .
يعني تعالى ذكره بقوله : إذَا وَقَعَتِ الوَاقَعةُ : إذا نزلت صيحة القيامة ، وذلك حين يُنفخ في الصور لقيام الساعة . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إذَا وَقَعتِ الوَاقِعَةُ يعني : الصيحة .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : إذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةِ الواقعة والطامة والصاخة ، ونحو هذا من أسماء القيامة ، عظّمه الله ، وحذّره عباده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجبار. وقال ابن عباس وقتادة إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون"...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
سورة الواقعة هي مكية بلا خلاف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
مكية بإجماع ممن يعتد بقوله من المفسرين، وقيل إن فيها آيات مدنية أو مما نزل في السفر... فيها ذكر القيامة وحظوظ النفس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه شغل بالاستعداد.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال أبو إسحاق عن عِكْرِمَة، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، قد شبتَ؟ قال: "شيَّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت". رواه الترمذي وقال: حسن غريب... وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري: حدثنا السُّرِّي بن يحيى الشيباني، عن أبي شجاع، عن أبي ظبية قال: مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك من بعدك؟ قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة، لم تصبه فاقة أبدا"..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
شرح أحوال الأقسام الثلاثة المذكورة في الرحمن للأولياء من السابقين واللاحقين والأعداء المشاققين من المصارحين والمنافقين من الثقلين للدلالة على تمام القدرة بالفعل بالاختيار الذي دل عليه آخر الرحمن بإثبات الكمال ودل عليه آخر هذه بالتنزيه بالنفي لكل شيء به نقص ثم الإثبات بوصف العظمة بجميع الكمال من الجمال والجلال، ولو استوى الناس لم يكن ذلك من بليغ الحكمة، فإن استواءهم يكون شبهة لأهل الطبيعة، واسمها الواقعة دال على ذلك بتأمل آياته وما يتعلق الظرف به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الواقعة.. اسم للسورة وبيان لموضوعها معا. فالقضية الأولى التي تعالجها هذه السورة المكية هي قضية النشأة الآخرة، ردا على قولة الشاكين فيها، المشركين بالله، المكذبين بالقرآن: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون؟..
ومن ثم تبدأ السورة بوصف القيامة. وصفها بصفتها التي تنهي كل قول، وتقطع كل شك، وتشعر بالجزم في هذا الأمر.. الواقعة.. (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة).. وتذكر من أحداث هذا اليوم ما يميزه عن كل يوم، حيث تتبدل أقدار الناس، وأوضاع الأرض، في ظل الهول الذي يبدل الأرض غير الأرض، كما يبدل القيم غير القيم سواء: خافضة رافعة.. إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا. وكنتم أزواجا ثلاثة... الخ.
ثم تفصل السورة مصائر هذه الأزواج الثلاثة: السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وتصف ما يلقون من نعيم وعذاب وصفا مفصلا أوفى تفصيل، يوقع في الحس أن هذا أمر كائن واقع، لا مجال للشك فيه، وهذه أدق تفصيلاته معروضة للعيان. حتى يرى المكذبون رأي العين مصيرهم ومصير المؤمنين. وحتى يقال عنهم هنالك بعد وصف العذاب الأليم الذي هم فيه: إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون: أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون؟ أو آباؤنا الأولون.. وكأن العذاب هو الحاضر والدنيا هي الماضي الذي يذكر للترذيل والتقبيح. ترذيل حالهم في الدنيا وتقبيح ما كانوا عليه من تكذيب!
وبهذا ينتهي الشوط الأول من السورة. ويبدأ شوط جديد يعالج قضية العقيدة كلها، متوخيا توكيد قضية البعث التي هي موضوع السورة الأول؛ بلمسات مؤثرة، يأخذ مادتها وموضوعها مما يقع تحت حس البشر، في حدود المشاهدات التي لا تخلو منها تجربة إنسان، أيا كانت بيئته، ودرجة معرفته وتجربته.
يعرض نشأتهم الأولى من مني يمنى. ويعرض موتهم ونشأة آخرين مثلهم من بعدهم في مجال التدليل على النشأة الأخرى، التي لا تخرج في طبيعتها ويسرها عن النشأة الأولى، التي يعرفونها جميعا.
ويعرض صورة الحرث والزرع، وهو إنشاء للحياة في صورة من صورها. إنشاؤها بيد الله وقدرته. ولو شاء الله لم تنشأ، ولو شاء لم تؤت ثمارها.
ويعرض صورة الماء العذب الذي تنشأ به الحياة كلها. وهو معلق بقدرة الله ينزله من السحائب. ولو شاء جعله ملحا أجاجا، لا ينبت حياة، ولا يصلح لحياة.
وصورة النار التي يوقدون، وأصلها الذي تنشأ منه.. الشجر.. وعند ذكر النار يلمس وجدانهم منذرا. ويذكرهم بنار الآخرة التي يشكون فيها.
وكلها صور من مألوفات حياتهم الواقعة، يلمس بها قلوبهم، ولا يكلفهم فيها إلا اليقظة ليد الله وهي تنشئها وتعمل فيها.
كذلك يتناول هذا الشوط قضية القرآن الذي يحدثهم عن "الواقعة " فيشكون في وعيده. فيلوح بالقسم بمواقع النجوم، ويعظم من أمر هذا القسم لتوكيد أن هذا الكتاب هو قرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، وأنه تنزيل من رب العالمين.
ثم يواجههم في النهاية بمشهد الاحتضار. في لمسة عميقة مؤثرة. حين تبلغ الروح الحلقوم، ويقف صاحبها على حافة العالم الآخر؛ ويقف الجميع مكتوفي الأيدي عاجزين، لا يملكون له شيئا، ولا يدرون ما يجري حوله، ولا ما يجري في كيانه. ويخلص أمره كله لله، قبل أن يفارق هذه الحياة. ويرى هو طريقه المقبل، حين لا يملك أن يقول شيئا عما يرى ولا أن يشير!
ثم تختم السورة بتوكيد الخبر الصادق، وتسبيح الله الخالق: (إن هذا لهو حق اليقين. فسبح باسم ربك العظيم).. فيلتئم المطلع والختام أكمل التئام..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... هذه السورة جامعة للتذكير، قال مسروق: من أراد أن يعلم نبأ الأولين والآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ أهل الدنيا ونبأ أهل الآخرة فليقرأ سورة الواقعة اهـ.
التذكير بيوم القيامة وتحقيق وقوعه.
ووصف ما يعرف وهذا العالم الأرضي عند ساعة القيامة.
وصفة أهل النار وما هم فيه من العذاب وأن ذلك لتكذيبهم بالبعث. وإثبات الحشر والجزاء والاستدلال على إمكان الخلق الثاني بما أبدعه اللام من الموجودات بعد أن لم تكن.
والاستدلال بدلائل قدرة الله تعالى.
والاستدلال بنزع الله الأرواح من الأجساد والناس كارهون لا يستطيع أحد منعها من الخروج، على أن الذي قدر على نزعها بدون مدافع قادر على إرجاعها متى أراد أن يميتهم.
وتأكيد أن القرآن منزل من عند الله وأنه نعمة أنعم بها عليهم فلم يشكروها وكذبوا بما فيه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
سورة الواقعة كما هو واضح من اسمها تتحدّث عن القيامة وخصوصياتها، وهذا المعنى واضح في جميع آيات السورة الستّ والتسعين. ولذا فإنّ هذا الموضوع هو الأساس في البحث.
إلاّ أنّنا نستطيع أن نلخّص موضوعات السورة في ثمانية أقسام:
بداية ظهور القيامة والحوادث المرعبة المقترنة بها.
تقسيم أنواع الناس في ذلك اليوم إلى ثلاثة طوائف: (أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والمقرّبين).
بحث مفصّل حول مقام المقرّبين، وأنواع الجزاء لهم في الجنّة.
بحث مفصّل حول القسم الثاني في الناس وهم أصحاب اليمين، وأنواع الهبات الإلهيّة الممنوحة لهم.
بحث حول أصحاب الشمال وما ينتظرهم من جزاء مؤلم في نار جهنّم.
بيان أدلّة مختلفة حول مسألة المعاد من خلال بيان قدرة الله عز وجل، وخلق الإنسان من نطفة حقيرة، وظهور الحياة في النباتات، ونزول المطر، اشتعال النار.. والتي تدخل أيضاً ضمن أدلّة التوحيد.
وصف حالة الاحتضار والانتقال من هذا العالم إلى حيث العالم الأخروي والتي تعتبر من مقدّمات يوم القيامة.
وأخيراً نظرة إجمالية كليّة حول جزاء المؤمنين وعقاب الكافرين.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذا وقعت الواقعة} يعني إذا وقعت الصيحة، وهي النفخة الأولى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إذَا وَقَعَتِ الوَاقَعةُ": إذا نزلت صيحة القيامة، وذلك حين يُنفخ في الصور لقيام الساعة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(إذا) متعلقة بمحذوف، وتقديره اذكروا (إذا وقعت الواقعة)، قال المبرد: إذا وقعت معناه إذا تقع، وإنما وقع الماضي -ههنا- لأن (إذا) للاستقبال ومعناه إذا ظهرت القيامة وحدثت. والوقوع ظهور الشيء بالحدوث، وقع يقع وقوعا فهو واقع، والأنثى واقعة (وإذا) تقع للجزاء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعِتهَا كَاذِبةٌ}. إذا قامت القيامة لا يردُّها شيءٌ. ويقال: إذا وقعت الواقعة فَمَنْ سَلَكَ منهاج الصحة والاستقامة وَصَلَ إلى السلامة ولقي الكرامة، ومَنْ حادَ عن نهج الاستقامة وَقَعَ في الندامة والغرامة، وعند وقوعها يتبين الصادق من المماذق.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وسميت القيامة واقعة؛ لأنه لا بد من وقوعها. والعرب تسمي كل متوقع لا بد منه واقعا، وعن بعضهم: لأنها تقع على غفلة من الناس. فإن قيل: أين جواب قوله: (إذا)؟ ولا بد لهذه الكلمة من جواب، والجواب: أن جوابه قوله: (فأصحاب الميمنة).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَقَعَتِ الواقعة} كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة،... والمراد القيامة: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله. يقال: وقع ما كنت أتوقعه، أي: نزل ما كنت أترقب نزوله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الواقعة}: اسم من أسماء القيامة ك {الصاعقة} [البقرة: 55، النساء: 153] و {الآزفة} [غافر: 18، النجم: 57] و {الطامة} [النازعات: 34] قاله ابن عباس، وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها...
إذا وقعت القيامة الواقعة أو الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد، ولا يتمكن أحد من إنكارها، ويبطل عناد المعاندين فتخفض الكافرين في دركات النار، وترفع المؤمنين في درجات الجنة، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم.
{إذا وقعت الواقعة} يظهر وقوعها لكل أحد، وكيفية وقوعها، فلا يوجد لها كاذبة ولا متأول يظهر فقوله: {خافضة رافعة} معطوف على {كاذبة} نسقا، فيكون كما يقول القائل: ليس لي في الأمر شك ولا خطأ، أي لا قدرة لأحد على رفع المنخفض ولا خفض المرتفع.
{إذا وقعت الواقعة} يحتمل أن تكون الواقعة صفة لمحذوف وهي القيامة أو الزلزلة على ما بينا، ويحتمل أن يكون المحذوف شيئا غير معين، وتكون تاء التأنيث مشيرة إلى شدة الأمر الواقع وهوله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذا وقعت الواقعة} أي التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق للحكم بينهم على الانفراد الظاهر الذي لا مدعى للمشاركة فيه بوجه من الوجوه، ويجوز أن يكون {إذا} منصوباً بالمحذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، فيكون أهول أي إذا وقعت كانت أموراً يضيق عنها نطاق الحصر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة. إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا...). هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل. وهو يتبع أسلوبا خاصا يلحظ فيه هذا المعنى، ويتناسق مع مدلولات العبارة. فمرتين يبدأ بإذا الشرطية يذكر شرطها ولا يذكر جوابها. (إذا وقعت الواقعة. ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة).. ولا يقول: ماذا يكون إذا وقعت الواقعة وقعة صادقة ليس لها كاذبة، وهي خافضة رافعة. ولكن يبدأ حديثا جديدا: (إذا رجت الأرض رجا. وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا.).. ومرة أخرى لا يقول: ماذا يكون إذا كان هذا الهول العظيم.. فكأنما هذا الهول كله مقدمة، لا يذكر نتائجها، لأن نتائجها أهول من أن يحيط بها اللفظ، أو تعبر عنها العبارة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة بالظرف المتضمنِ الشرط، افتتاح بديع لأنه يسترعي الألباب لترقب ما بعد هذا الشرط الزماني مع ما في الاسم المسند إليه من التهويل بتوقع حدث عظيم يحدث. و {إذا} ظرف زمان وهو متعلق بالكون المقدر في قوله: {في جنات النعيم} [الواقعة: 12] الخ وقوله: {في سدر مخضود} [الواقعة: 28] الخ وقوله: {في سموم وحميم} [الواقعة: 42] الخ. وضمّن {إذا} معنى الشرط...
كلمة وقع تدل على أن شيئا سقط من أعلى سقوطا لازما لا يستطيع أحد أن يمنعه، ونقول: إن الجاذبية هي التي أسقطته، وتأتي هذه المادة (وقع) في المسائل الهامة التي فيها هيبة، كما قوله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم.. (82)} [النمل] وقال: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118)} [الأعراف] وقال: {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب (71)} [الأعراف].
إذن: وقع تدل على أمر حاسم وحاصل بذاته بأمر الله الذي قدّره وضبطه على أن يقع بهذه الصورة، كما تضبط المنبه ليوقظك لصلاة الفجر، وحين يرن المنبه في وقت الفجر يوقظك لا يكون الفضل والعظمة للمنبه، إنما للذي ضبطه على هذا الوقت، كذلك إذا وقع الحق تكن العظمة لمن أوقعه.
فكلمة (وقعت) يعني: هي أمر واقع لا مرد له، فقال سبحانه: {إذا وقعت الواقعة (1)} [الواقعة] أي: القيامة واقعة أزلا وتدبيرا، كأنها وقعت بالفعل لأن الذي تكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه الذي لا راد لأمره.
لذلك سماها أزلا وقال بعدها {ليس لوقعتها كاذبة (2)} [الواقعة] لأنهم كانوا يكذبون وبها وينكرون الرجعة بعد الموت، فالحق سبحانه يخبر عن القيامة بأنها وقت بالفعل {ليس لوقعتها كاذبة (2)} [الواقعة] كأنها حدثت.
فالله تعالى سماها أزلا الواقعة، ولها أسماء عدة لكل منها معنى، ويعطينا لقطة من هذا اليوم الخطير المفزع، تأمل فهي: الطامة والحاقة والقارعة والصاخة والواقعة، فلكل منها ملحظ وهي جامعة لكل هذه المعاني من زوايا مختلفة في الوقت الواحد.