{ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي صبرناهم وثبتناهم ، وجعلنا قلوبهم مطمئنة في تلك الحالة المزعجة ، وهذا من لطفه تعالى بهم وبره ، أن وفقهم للإيمان والهدى ، والصبر والثبات ، والطمأنينة .
{ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : الذي خلقنا ورزقنا ، ودبرنا وربانا ، هو خالق السماوات والأرض ، المنفرد بخلق هذه المخلوقات العظيمة ، لا تلك الأوثان والأصنام ، التي لا تخلق ولا ترزق ، ولا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، فاستدلوا بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية ، ولهذا قالوا : { لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } أي : من سائر المخلوقات { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا } أي : إن دعونا معه آلهة ، بعد ما علمنا أنه الرب الإله الذي لا تجوز ولا تنبغي العبادة ، إلا له { شَطَطًا } أي : ميلا عظيما عن الحق ، وطريقا بعيدة عن الصواب ، فجمعوا بين الإقرار بتوحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، والتزام ذلك ، وبيان أنه الحق وما سواه باطل ، وهذا دليل على كمال معرفتهم بربهم ، وزيادة الهدى من الله لهم .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ } .
وأصل الربط : الشد ، يقال ، ربطت الدابة ، أى : شددتها برباط ، والمراد به هنا : ما غرسه الله فى قلوبهم من قوة ، وثبات على الحق ، وصبر على فراق أهليهم ، ومنه قولهم : فلان رابط الجأش ، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب .
والمراد بقيامهم : عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل ، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة .
ويصح أن يكون المراد بقيامهم : وقوفهم فى وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة ، دون أن يبالوا به عندما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم ، وإعلانهم دين التوحيد ، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { إذ قاموا } يحتمل ثلاثة معان . أحدها : أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدى الملك الكافر ، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه ، ورفضوا ما دعاهم إليه .
والمعنى الثانى فيما قيل : إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد ، وتعاهدوا على عبادة الله وحده .
والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله - تعالى - ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ، إذا عزم عليه بغاية الجد .
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذى اهتدت إليه ، معتزة بالإِيمان الذى أشربته ، مستبشرة بالإِخاء الذى جمع بينها على غير ميعاد ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول :
" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " .
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن استقر الإِيمان فى نفوسهم فقال : { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها . . } .
أى : أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله - عز وجل - حين قاموا فى وجه أعدائهم ، وقالوا بكل شجاعة وجرأة : ربنا - سبحانه - هو رب السموات والأرض ، وهو خالقهما وخالق كل شئ ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر .
ونفوا عبادتهم لغيره - سبحانه - بحرف - " لن " للإِشعار بتصميمهم على ذلك فى كل زمان وفى كل مكان ، إذ النفى بلن أبلغ من النفى بغيرها .
قال الآلوسى : وقد يقال ؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى - وهى : ربنا رب السموات والأرض - إلى توحيد الربوبية ، وأشاروا بالجملة الثانية - لن ندعو من دونه إلها - إلى توحيد الألوهية ، وهما أمران متغايران ، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ، ويقولون بالأول : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } وحكى - سبحانه - عنهم أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } وصح أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .
وقوله - سبحانه - { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله - تعالى - .
والشطط : مصدر معناه مجاوزة الحد فى كل شئ ، ومنه : أشط فلان فى السَّومْ إذا جاوز الحد ، وأشط فى الحكم إذا جاوز حدود العدل : وهو صفة لموصوف محذوف ، وفى الكلام قسم مقدر ، واللام فى " لقد " واقعة فى جوابه ، و " إذا " حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر .
أى : ربنا رب السموات والأرض ، لن ندعو من دون إلها . ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر ، والله لنكونن فى هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا ، أى : بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب .
والأية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية ، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله - تعالى - قلبه ، وقواه على تحمل الشدائد ، كما تدل على أن من أشرك مع الله - تعالى - إلها آخر ، يكون بسبب هذا الإِشراك ، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
( وربطنا على قلوبهم ) فإذا هي ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت . معتزة بالإيمان الذي اختارت ( إذ قاموا ) . . والقيام حركة تدل على العزم والثبات . ( فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض ) . . فهو رب هذا الكون كله ( لن ندعو من دونه إلها ) . . فهو واحد بلا شريك . ( لقد قلنا إذن شططا ) . . وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب .
وقوله : وَرَبَطْنا على قُلُوبِهمْ يقول عزّ ذكره : وألهمناهم الصبر ، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة وَرَبَطْنا على قُلُوبِهمْ يقول : بالإيمان .
وقوله : إذْ قامُوا فقالُوا رَبّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : حين قاموا بين يدي الجبار دقينوس ، فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته : ربّنا رَبّ السّمَوَاتِ والأرْضِ يقول : قالوا ربنا ملك السموات والأرض وما فيهما من شيء ، وآلهتك مربوبة ، وغير جائز لنا أن نترك عبادة الربّ ونعبد المربوب لَنْ نَدْعُوَ منْ دُونِه إلَها يقول : لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها ، لأنه لا إله غيره ، وإن كلّ ما دونه فهو خلقه لَقَدْ قُلْنا إذا شَططا يقول جلّ ثناؤه : لئن دعونا إلها غير إله السموات والأرض ، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها ، شططا من القول : يعني غاليا من الكذب ، مجاوزا مقداره في البطول والغلوّ : كما قال الشاعر :
ألا يا لَقَوْمي قَدْ أشْطَتْ عَوَاذِلي *** ويزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَقّيَ باطلي
يقال منه : قد أشط فلان في السوم إذا جاوز القدر وارتفع ، يشطّ إشطاطا وشططا . فأما من البعد فإنما يقال : شطّ منزل فلان يشطّ شطوطا ومن الطول : شطت الجارية تشطّ شطاطا وشطاطة : إذا طالت . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله شَطَطا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا يقول كذبا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله لَقَدْ قُلْنا إذا شَطَطا قال : لقد قلنا إذن خطأ ، قال : الشطط : الخطأ من القول .