تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

{ 58 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

أمر المؤمنين أن يستأذنهم مماليكهم ، والذين لم يبلغوا الحلم منهم . قد ذكر الله حكمته وأنه ثلاث عورات للمستأذن عليهم ، وقت نومهم بالليل بعد العشاء ، وعند انتباههم قبل صلاة الفجر ، فهذا -في الغالب- أن النائم يستعمل للنوم في الليل ثوبا غير ثوبه المعتاد ، وأما نوم النهار ، فلما كان في الغالب قليلا ، قد ينام فيه العبد بثيابه المعتادة ، قيده بقوله : { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } أي : للقائلة ، وسط النهار .

ففي ثلاثة هذه الأحوال ، يكون المماليك والأولاد الصغار كغيرهم ، لا يمكنون من الدخول إلا بإذن ، وأما ما عدا هذه الأحوال الثلاثة فقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي : ليسوا كغيرهم ، فإنهم يحتاج إليهم دائما ، فيشق الاستئذان منهم في كل وقت ، ولهذا قال : { طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : يترددون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم .

{ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ } بيانا مقرونا بحكمته ، ليتأكد ويتقوى ويعرف به رحمة شارعه وحكمته ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } له العلم المحيط بالواجبات والمستحيلات والممكنات ، والحكمة التي وضعت كل شيء موضعه ، فأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، وأعطى كل حكم شرعي حكمه اللائق به ، ومنه هذه الأحكام التي بينها وبين مآخذها وحسنها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

بعد كل ذلك ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عما افتتحت به من الحديث عن الأحكام والآداب التى شرعها الله - تعالى - ، وأمر المؤمنين بالتمسك بها فقال - تعالى - : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ . . . } .

ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ . . . } روايات منها : أن امرأة يقال لها أسماء بنت أبى مرثد ، دخل عليها غلام كبير لها ، فى وقت كرهت دخوله فيه ، فأتت النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا فى حال نكرهها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية :

ومنها ما روى من أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث فى وقت الظهيرة غلاما من الأنصار يقال له مدلج ، إلى عمر بن الخطاب ، فدق الغلام الباب على عمر - وكان نائما - فاستيقظ ، وجلس فانكشف منه شىء فقال عمر : لوددت أن الله - تعالى - نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا من الدخول علينا فى هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق عمر مع الغلام إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله - تعالى - .

وقد صدرت الآية الكريمة بندائهم بصفة الإيمان . لحضهم على الامتثال لما اشتملت عليه من آداب قويمة . وتوجيهات حكيمة .

واللام فى قوله { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } هى لام الأمر والمراد بما ملكت أيمانهم : الأرقاء سواء أكانوا ذكورا أم إناثا ، ويدخل فيهم الخدم ومن على شاكلتهم .

والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم . الأطفال الذين فى سن الصبا ولم يصلوا إلى سن البلوغ إلا أنهم يعرفون معنى العورة ويميزون بين ما يصح الاطلاع عليه وما لا يصح .

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان من الرجال ، والنساء ، عليكم أن تمنعوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم الذين لم يبلغوا سن البلوغ ، من الدخول عليكم فى مضاجعكم بغير إذن فى هذه الأوقات الثلاثة ، خشية أن يطلعوا منكم على ما لا يصح الاطلاع عليه .

فقوله - تعالى - : { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } تحديد للأوقات المنهى عن الدخول فيها بدون استئذان ، أى : ثلاث أوقات فى اليوم والليلة .

ثم بين - سبحانه - هذه الأوقات فقال : { مِّن قَبْلِ صلاة الفجر } وذلك لأن هذا الوقت يقوم فيه الإنسان من النوم عادة ، وقد يكون متخففا من ثيابه . ولا يجب أن يراه أحد وهو على تلك الحالة .

{ وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة } أى : وحين تخلعون ثيابكم وتطرحونها فى وقت الظهيرة ، عند شدة الحر ، لأجل التخفيف منها وارتداء ثياب أخرى أرق من تلك الثياب ، طلبا للراحة واستعدادا للنوم .

{ وَمِن بَعْدِ صلاة العشآء } لأن هذا الوقت يتجرد فيه الإنسان من ثياب اليقظة ، ليتخذ ثيابا أخرى للنوم .

وقوله - سبحانه - : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } خبر مبتدأ محذوف ، والعورات : جمع عورة .

وتطلق على ما يجب ستره من الإنسان ، وهى - كما يقول الراغب - مأخوذة من العار ، وذلك لأن المظهر لها يلحقه العار والذم بسبب ذلك .

أى : هذه الأوقات من ثلاث عورات كائنة لكم - فعليكم أن تعودوا مماليككم وخدمكم وصبيانكم . على الاستئذان عند إرادة الدخول عليكم فيها ، لأنها أوقات يغلب فيها اختلاء الرجل بأهله ، كما يغلب فيها التخفف من الثياب ، وانكشاف ما يجب ستره .

وقوله - سبحانه - : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } بيان لمظهر من مظاهر التيسير فى شريعة الإسلام .

أى : وليس عليكم أيها المؤمنون والمؤمنات ، ولا عليهم ، أى : أرقائكم وصبيانكم " جناح " اآ : حرج أو إثم فى الدخول بدون استئذان " بعدهن " أى : بعد كل وقت من تلك الأوقات الثلاثة .

وقوله - تعالى - { طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } تعليل لبيان العذر المرخص فى ترك الاستئذان فى غير الأوقات التى حددها الله - تعالى - .

أى : لا حرج فى دخول مماليككم وصبيانكم عليكم فى غير هذه الأوقات بدون استئذان لأنهم تكثر حاجتهم فى التردد عليكم ، وأنتم كذلك لا غنى لكم عنهم فأنتم وهم يطوف بعضكم على بعض لقضاء المصالح فى كثير من الأوقات .

وبذلك يجمع الإسلام فى تعاليمه بين التستر والاحتشام والتأدب بآدابه القويمة ، وبين السماحة وإزالة الحرج والمشقة .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الايات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

أى : مثل هذا البيان الحكيم يبين الله - تعالى - لكم الآيات التى توصلكم متى تمسكتم بها ، إلى طريق الخير و السعادة ، والله - عز وجل - عليم بما يصلح عباده ، حكيم فى كل ما يأمر به ، أو ينهى عنه .

وهكذا تسوق لنا الآية الكريمة ألوانا من الأدب السامى ، الذى يجعل الكبار والصغار يعيشون عيشة فاضلة ، عامرة بالطهر والعفاف والحياء ، والنقاء من كل ما يجرح الشعور ، ومن كل تصور يتنافى مع الخلق الكريم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

58

( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ؛ ثلاث مرات : من قبل صلاة الفجر ، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ، ومن بعد صلاة العشاء . ثلاث عورات لكم . ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن . طوافون عليكم بعضكم على بعض . كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) . .

لقد سبقت في السورة أحكام الاستئذان على البيوت . وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت .

فالخدم من الرقيق ، والأطفال المميزون الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون بلا استئذان . إلا في ثلاثة أوقات تنكشف فيها العورات عادة ، فهم يستأذنون فيها . هذه الأوقات هي : الوقت قبل صلاة الفجر حيث يكون الناس في ثياب النوم عادة أو أنهم يغيرونها ويلبسون ثياب الخروج . ووقت الظهيرة عند القيلولة ، حيث يخلعون ملابسهم في العادة ويرتدون ثياب النوم للراحة . وبعد صلاة العشاء حين يخلعون ملابسهم كذلك ويرتدون ثياب الليل . .

وسماها( عورات )لانكشاف العورات فيها . وفي هذه الأوقات الثلاثة لا بد أن يستأذن الخدم ، وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم ، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم . وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية ، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة ! وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر . بينما يقرر النفسيون اليوم - بعد تقدم العلوم النفسية - أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها ؛ وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها .

والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب ؛ وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب ، سليمة الصدور ، مهذبة المشاعر ، طاهرة القلوب ، نظيفة التصورات .

ويخصص هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها لأنها مظنة انكشاف العورات . ولا يجعل استئذان الخدم و الصغار في كل حين منعا للحرج . فهم كثيرو الدخول والخروج على أهليهم بحكم صغر سنهم أو قيامهم بالخدمة : ( طوافون عليكم بعضكم على بعض ) . . وبذلك يجمع بين الحرص على عدم انكشاف العورات ، وإزالة الحرج والمشقة لو حتم أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسۡتَـٔۡذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَبۡلُغُواْ ٱلۡحُلُمَ مِنكُمۡ ثَلَٰثَ مَرَّـٰتٖۚ مِّن قَبۡلِ صَلَوٰةِ ٱلۡفَجۡرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِنۢ بَعۡدِ صَلَوٰةِ ٱلۡعِشَآءِۚ ثَلَٰثُ عَوۡرَٰتٖ لَّكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ وَلَا عَلَيۡهِمۡ جُنَاحُۢ بَعۡدَهُنَّۚ طَوَّـٰفُونَ عَلَيۡكُم بَعۡضُكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (58)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرّاتٍ مّن قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

اختلف أهل التأويل في المعنى بقوله : ليَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ فقال بعضهم : عُني بذلك الرجال دون النساء ، ونهوا عن أن يدخلوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة هؤلاء الذين سُمّوا في هذه الآية إلاّ بإذن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عَنبسة ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قوله : لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ قال : هي على الذكور دون الإناث .

وقال آخرون : بل عُنِي به الرجال والنساء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتأذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ قال : هي في الرجال والنساء ، يستأذنون على كلّ حال ، بالليل والنهار .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُني به الذكور والإناث لأن الله عمّ بقوله : الّذِينَ مَلَكَتْ أيمانُكُمْ جميع أملاك أيماننا ، ولم يخصص منهم ذكرا ولا أنثى فذلك على جميع من عمه ظاهر التنزيل .

فتأويل الكلام : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، ليستأذنكم في الدخول عليكم عبيدُكم وإماؤكم ، فلا يدخلوا عليكم إلاّ بإذن منكم لهم .

وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ يقول : والذين لم يحتلموا من أحراركم ثلاث مرّات ، يعني ثلاث مرات في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، في قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ قال : عبيدكم المملوكون . وَالّذينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ منْكُمْ قال : لم يحتلموا من أحراركم .

قال ابن جُرَيج : قال لي عطاء بن أبي رباح : فذلك على كل صغير وصغيرة أن يستأذن ، كما قال : ثَلاَثَ مرّاتٍ منْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ قالوا : هي العَتَمة . قلت : فإذا وضعوا ثيابهم بعد العتمة استأذنوا عليهم حتى يصبحوا ؟ قال نعم . قلت لعطاء : هل استئذانهم إلاّ عند وضع الناس ثيابهم ؟ قال : لا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن صالح بن كيسان ويعقوب بت عُتبة وإسماعيل بن محمد ، قالوا : لا استئذان على خدم الرجل عليه إلاّ في العورات الثلاث .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : لِيَسْتأذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ يقول : إذا خلا الرجل بأهله بعد صلاة العشاء ، فلا يدخل عليه خادم ولا صبيّ إلاّ بإذن حتى يصلّي الغداة ، فإذا خلا بأهله عند صلاة الظهر فمثل ذلك .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني قرة بن عبد الرحمن ، عن ابن شهاب ، عن ثعلبة ، عن أبي مالك القرظي : أنه سأل عبد الله بن سُوَيد الحارثيّ ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الإذن في العورات الثلاث ، فقال : إذا وضعت ثيابي من الظهيرة ، لم يلج عليّ أحد من الخدم الذي بلغ الحلم ولا أحد ممن لم يبلغ الحلم من الأحرار ، إلاّ بإذن .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عطاء يقول : قال ابن عباس : ثلاث آيات جَحَدَهنّ الناس : الإذن كله ، وقال : إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ وقال الناس : أكرمكم أعظمكم بيتا ، ونسيت الثالثة .

حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، في هذه الآية : لِيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمانُكُمْ قال : كان الحسن يقول : إذا أبات الرجل خادمه معه فهو إذنه ، وإن لم يبته معه استأذن في هذه الساعات .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبيّ في قوله : لِيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ قال : لم تُنسخ . قلت : إن الناس لا يعملون به قال : الله المستعان .

قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن الشعبيّ ، وسألته عن هذه الآية : لِيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ قلت : منسوخة هي ؟ قال : لا والله ما نُسخت ، قلت : إن الناس لا يعملون بها قال : الله المستعان .

قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، قال : إن ناسا يقولون نسخت ، ولكنها مما يتهاون الناس به .

قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير في هذه الآية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ . . . إلى آخر الآية ، قال : لا يعمل بها اليوم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حنظلة ، أنه سمع القاسم بن محمد يُسْأَل عن الإذن ، فقال : يستأذن عند كلّ عورة ، ثم هو طوّاف يعني الرجل على أمه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا عبد العزيز بن أبي رَوّاد ، قال : أخبرني رجل من أهل الطائف ، عن غَيلان بن شُرَحبيل ، عن عبد الرحمن بن عوف ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا يَغْلِبَنّكُمُ الأعْرَابُ عَلى اسْمِ صَلاَتِكُمْ ، قالَ اللّهُ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ وإنّمَا العَتَمَةُ عَتَمَةُ الإبِلِ » .

وقوله : ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة : ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ برفع «الثلاث » ، بمعنى الخبر عن هذه الأوقات التي ذكرت . كأنه عندهم قيل : هذه الأوقات الثلاثة التي أمرناكم بأن لا يدخل عليكم فيها من ذكرنا إلاّ بإذن ، ثلاثُ عورات لكم لأنكم تضعون فيها ثيابكم وتخلُون بأهليكم . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : «ثَلاثَ عَوْرَاتٍ » بنصب «الثلاث » على الردّ على «الثلاث » الأولى . وكأن معنى الكلام عندهم : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاثَ مرّات ، ثلاثُ عورات لكم .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنّ ، طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ يقول تعالى ذكره : ليس عليكم معشر أرباب البيوت والمساكن ، ولا عَلَيْهِمْ يعني : ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء والذين لم يبلغوا الحلم من أولادكم الصغار حرج ولا إثم بعدهنّ ، يعني بعد العورات الثلاث . والهاء والنون في قوله : بَعْدَهُنّ عائدتان على «الثلاث » من قوله : ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ . وإنما يعني بذلك أنه لا حرج ولا جُناح على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير إذن بعد هذه الأوقات الثلاث اللاتي ذكرهنّ في قوله : مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشاءِ . )

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم رخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن ، يعني فيما بين صلاة الغداة إلى الظهر ، وبعد الظهر إلى صلاة العشاء أنه رخص لخادم الرجل والصبيّ أن يدخل عليه منزله بغير إذن . قال : وهو قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنّ فأما من بلغ الحلُم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلاّ بإذن على كل حال .

وقوله : طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ رفع «الطوّافون » بمضمر ، وذلك «هم » . يقول لهؤلاء المماليك والصبيان الصغار هم طوّافون عليكم أيها الناس ، ويعني بالطوّافين : أنهم يدخلون ويخرجون على مواليهم وأقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن ، يطوفون عليهم بعضكم على بعض في غير الأوقات الثلاث التي أمرهم أن لا يدخلوا على ساداتهم وأقربائهم فيها إلاّ بإذن . كَذلكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ يقول جلّ ثناؤه : كما بينت لكم أيها الناس أحكام الاستئذان في هذه الآية ، كذلك يبين الله لكم جميع أعلامه وأدلته وشرائع دينه . وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول : والله ذو علم بما يصلح عباده ، حكيم في تدبيره إياهم وغير ذلك من أموره .