تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

هذا أمر عام لكل{[64]}  الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع{[65]}  الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم .

{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، [ وزروع ] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون .

{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة{[66]}  فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه .

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك .

وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه .


[64]:- في ب: لجميع.
[65]:- في ب: وجوه.
[66]:- في ب: ولا في الألوهية والكمال.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة ، وعاقبة كل قسم منهم ، ساقت لهم نداء عاماً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا . . . }

في هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه ، وبيان البراهين الساطعة التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته .

و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء .

و " أي " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذي يأتي بعده .

و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء .

و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية .

وقد كثر النداء في القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيراً ما يقتضيه المقام .

وفي ذكره تعالى باسم الرب ، وإضافته إلى المخاطبين ، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته .

فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكاً له ، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق ، وما يجود به عليه من إنعام ، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال .

وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى ، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله . ثم بين - سبحانه - الموجبات التي من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال { الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } .

والخلق : أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية ، ويطلق في القرآن وفي عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة ، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر .

والمعنى : اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده ، لأنه هو الذي أوجدكم في أحسن تقويم بعد أن كنتم في عدم ، كما أوجد الذين تقدموكم .

وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم ، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره .

وقوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .

فكان قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى .

وجملة " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " تعليل للأمر بالعبادة ، ولذلك فصلت . و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجي ، وهو توقع حصول الشيء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه . والشيء المتوقع حصوله في الآية هو التقوى وسببه العبادة ، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درحة التقوى وهي الفوز بالهدى والفلاح ، والترجي قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب ، فيكون المترجي هو المخاطب لا المتكلم ، وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية ، لاستحالة توقع حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة ، لأن توقع الإِنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع ، وعليه فيكون المعنى : اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين ، الذين بلغوا الغاية في الهدى والفلاح .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

1

وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة ، وأمرا للبشرية جمعاء ، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة . . صورة المتقين :

( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا ، والسماء بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .

إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد بالخلق ، فوجب أن يتفرد بالعبادة . . وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه :

( لعلكم تتقون ) . . لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله . الذين أدوا حق الربوبية الخالقة ، فعبدوا الخالق وحده ؛ رب الحاضرين والغابرين ، وخالق الناس أجمعين ، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك .