{ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ْ }
أي : ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا ، أي : أوثانا وأصناما مسميات بأسماء الإناث ك " العزى " و " مناة " ونحوهما ، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى . فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة ، دل ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء ، وفقدها لصفات الكمال ، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه ، أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تدفع عن عابديها بل ولا عن نفسها ؛ نفعا ولا ضرا ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء ، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة ، فكيف يُعبد من هذا وصفه ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال ، والمجد والجلال ، والعز والجمال ، والرحمة والبر والإحسان ، والانفراد بالخلق والتدبير ، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير ؟ " هل هذا إلا من أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه ، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور ، أو يصفه واصف ؟ "
ومع ذلك{[238]} فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة . وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلاكهم ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه ، الذي هو في غاية البعد من الله ،
ثم فصل - سبحانه - ما عليه المشركون من ضلال فقال : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } .
و { إِن } هنا هى النافية . ويدعون من الدعاء وهو هنا بمعنى العبادة لأن من عبد شيئا فإنه يدعوه عند احتياجه إليه .
والمراد بالإِناث : الأصنام التى كانوا يعبدونها من دون الله .
أى : أن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما ، أو ما ينادون من دون الله لقضاء حاوئجهم إلا أوثاناً لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا .
وعبر عن الأصنام بالإِناث لأن المشركين سموا أكثر هذه الأصنام بأسماء الإِناث ، كاللات والعزى ومناة .
قال الحسن : كان لكل حى من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بنى فلان وكانوا يزينونه بالحلى كالنساء .
وقيل : المراد بالإِناث هنا الملائكة ، لأن بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون عنها : بنات الله . قال - تعالى - { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } وقيل : المراد بها هنا : الجمادات التى لا حياة فيها ومع ذلك يعبدونها .
قال أبو حيان : قال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة . فبكتهم الله أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلا من كل وجه . وعلى هذا نبه إبراهيم - عليه السلام - أباه بقوله : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وقد رجح ابن جرير القول الأول فقال : وأولى التأويلات التى ذكرت بتأويل ذلك تأويل من قال : عنى بذلك الآلهة التى كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ، ويسمونها بالإِناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ؛ لأن الأظهر من معانى الإِناث فى كلام العرب ، ما عرف بالتأنيث دون غيره فإذا كان ذلك كذلك فالواجب توجيه تأويله إلا الأشهر من معانيه . فكأنه - تعالى - يقول : فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه حجةعليهم فى ضلالهم وكفرهم أنهم يعبدون إناثا . والإِناث من كل شئ أخسه . فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته وبمتنعون من إخلاص العبودية للذى ملك كل شئ وبيده الخلق والأمر .
وقوله { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } بيان لما دفعهم إلى الوقوع فى ذلك الضلال الذى انغمسوا فيه .
ومريداً . أى عاتيا متمردا بالغا الغاية فى الشرور والفساد .
قال الراغب : والمراد والمريد من شياطين الجن والإِنس المتعرى من الخيرات . من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق . ومنه قيل رملة مرداء أى : لم تنبت شيئا . ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر .
فأصل مادة مرد للملاسة والتجرد . ومنه قوله - تعالى - { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } أى أملس . ووصف الشيطان بالتمرد لتجرده للشر .
وعدم علوق شئ من الخير به . أو لظهور شره ظهور عيدان الشجرة المرداء .
والمعنى : إن هؤلاء المشركين ما يعبدون من دون الله إلا أصناما سموها بأسماء الإِناث ، وما يطيعون فى عبادتها إلا شيطانا عاتيا متجردا من كل خير ، ومتعريا من كل فضيلة . فهذا الشيطان الشرير دعاهم لعبادة غير الله فانقادوا له انقيادا تاما . وخضعوا له خضوعا لا مكان معه لتعقل أو تدبر .
ثم يصف بعض أوهام الجاهلية العربية في شركها . وأساطيرها حول اتخاذ الله بنات - هن الملائكة - وحول عبادتهم للشيطان - وقد عبدوه كما عبدوا الملائكة وتماثيلها الأصنام - كما يصف بعض شعائرهم في تقطيع أو تشقيق آذان الأنعام المنذورة للآلهة ! وفي تغييرهم خلق الله . والشرك بالله . وهو مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها :
( إن يدعون من دونه إلا إناثا ، وإن يدعون إلا شيطانا مريدا ، لعنه الله وقال : لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ، ولأضلنهم ، ولأمنينهم ، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ؛ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله . . ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا . يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) .
لقد كان العرب - في جاهليتهم - يزعمون أن الملائكة بنات الله . ثم يتخذون لهذه الملائكة تماثيل يسمونها أسماء الإناث : " اللات . والعزى . ومناة " وأمثالها ثم يعبدون هذه الأصنام - بوصفها تماثيل لبنات الله - يتقربون بها إلى الله زلفى . . كان هذا على الأقل في مبدأ الأمر . . ثم ينسون أصل الأسطورة ، ويعبدون الأصنام ذاتها ، بل يعبدون جنس الحجر ، كما بينا ذلك في الجزء الرابع .
كذلك كان بعضهم يعبد الشيطان نصا . . قال الكلبي : كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن . .
على أن النص هنا أوسع مدلولا ، فهم في شركهم كله إنما يدعون الشيطان ، ويستمدون منه : هذا الشيطان صاحب القصة مع أبيهم آدم ؛ الذي لعنه الله ، بسبب معصيته وعدائه للبشر . والذي بلغ من حقده بعد طرده ولعنته ، أن يأخذ من الله - سبحانه - إذنا بأن يغوي من البشر كل من لا يلجأ إلى حمى الله :
( إن يدعون من دونه إلا إناثا . وإن يدعون إلا شيطانا مريدا . لعنه الله . وقال : لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا . ولأضلنهم ، ولأمنينهم ، ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.