تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (36)

{ 36 } { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ }

أي : ضلوا بسببها ، { فَمَنْ تَبِعَنِي } على ما جئت به من التوحيد والإخلاص لله رب العالمين { فَإِنَّهُ مِنِّي } لتمام الموافقة ومن أحب قوما وتبعهم التحق بهم .

{ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من شفقة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث دعا للعاصين بالمغفرة والرحمة من الله والله تبارك وتعالى أرحم منه بعباده لا يعذب إلا من تمرد عليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (36)

وقوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس . . } تعليل لسؤال إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام .

أى : يا رب لقد تضرعت إليك بأن تعصمنى وبنىّ عن عبادة الأصنام ، لأنها كانت سببا فى إضلال كثير من الناس عن اتباع الحق ، وعن الهداية إلى الصراط المستقيم .

وأسند الإضلال إليها مع أنها جمادات لا تعقل ، لأنها كانت سببا فى إضلال كثير من الناس ، فكأنها أضلتهم ، فنسبة الإضلال إليها مجازية من باب نسبة الشئ إلى سببه ، كما يقال : فلان فتنته الدنيا وأضلته ، وهو إنما فتن وضل بسببها .

وقوله - سبحانه - { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان لموقفه - عليه السلام - من المهتدين والضالين .

أى : فمن تبعنى من الناس فى ديني وعقيدتى ، فإنه يصير بهذا الاتباع من أهل دينى وهو دين الإِسلام ، ومن عصانى ولم يقبل الدخول فى الدين الحق ، فإنى أفوض أمره إليك ، فأنت - سبحانك - لا تسأل عما تفعل وغيرك يسأل .

فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامى ، والخلق العالى ، الذى كان يتحلى به إبراهيم - عليه السلام - فى مخاطبته لربه - عز وجل - حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيه برأى ، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع فى العذاب الأليم .

وشبيه بهذه الآية ما حكاه - سبحانه - عن عيسى - عليه السلام - فى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } هذا ، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين ، من أن قول إبراهيم - عليه السلام - { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كان قبل أن يعلم بأن الله لا يغفر الشرك ، أو أن المراد بالمعصية هنا ما دون الشرك ، أون المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك . . "

نقول : لا نرى وجها لكل ذلك ، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء بالمغفرة لمن عصى ، وإنا المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى الله - تعالى - إن شاء غفر لهم ورحمهم ، وإن شاء عذبهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (36)

وقوله : رَبّ إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يقول : يا ربّ إن الأصنام أضللن : يقول : أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحقّ حتى عبدوهنّ ، وكفروا بك .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيدُ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يعني الأوثان .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا هشام ، عن عمرو ، عن سعيد ، عن قتادة : إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ قال : الأصنام .

وقوله : فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي يقول : فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان ، فإنه مني : يقول : فإنه مستنّ بسنّتِي ، وعامل بمثل عملي . وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه ، وأشرك بك ، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك ، رحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِني وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم ، لا والله ما كانوا طَعّانين ولا لَعّانين وكان يقال : إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان ، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام : إنْ تُعَذّبْهُمْ فَإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سَوادة ، حدّثه عن عبد الرحمن بن جُبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم : رَبّ إنّهُنّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فإنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فإنّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وقال عيسى : إنْ تُعَذّبْهُمْ فإنّهُمْ عِبادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ فرفع يديه ثم قال : اللّهُمّ أُمّتِي ، اللّهُمّ أُمّتِي وبكى . فقال الله تعالى : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يُبكيه ؟ فأتاه جبرئيل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال . قال : فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءُك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (36)

ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس - تجوز - إذ كانت عرضة الإضلال ، والأسباب المنصوبة للغيّ ، وعليها تنشأ الأغيار ، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه ، وقيل : أراد الأصنام هنا الدنانير والدراهم .

وقوله : { ومن عصاني } ظاهره بالكفر ، بمعادلة قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، وإذا كان ذلك كذلك فقوله : { فإنك غفور رحيم } معناه : بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا ، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب - صلى الله عليه وسلم - قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم ، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين ، وكذلك قال نبي الله عيسى { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[2]} [ المائدة : 118 ] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته ، فبشر فيهم{[3]} وكان إبراهيم التيمي يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام ؟ .


[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُۥ مِنِّيۖ وَمَنۡ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (36)

إعادة النداء في قوله : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } لإنشاء التحسر على ذلك .

وجملة { إنهن أضللن كثيراً من الناس } تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس ، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها ، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ( إنّ ) في هذا المقام من معنى التعليل .

وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام ، فقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ سورة الصافات : 99 ] وقال لقومه : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ سورة مريم : 48 ] . فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام ، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام . ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد . وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل ، وأراد أن يكون مأوى التوحيد ، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد . فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد .

ففرع على ذلك قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني ، فدخل في ذلك أبوه وقومه ، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل .

و ( من ) في قوله : { مِني } اتصالية . وأصلها التبعيض المجازي ، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله .

وقوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه . والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك . وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى . وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته . ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [ سورة البقرة : 126 ] وقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } [ سورة الزخرف : 27 ] . وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام .

وإذ كان قوله : { فإنك غفور رحيم } تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به .