{ 110 - 111 } { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } .
أي : ثم إن ربك الذي ربى عباده المخلصين بلطفه وإحسانه لغفور رحيم لمن هاجر في سبيله ، وخلى دياره وأمواله طلبا لمرضاة الله ، وفتن على دينه ليرجع إلى الكفر ، فثبت على الإيمان ، وتخلص ما معه من اليقين ، ثم جاهد أعداء الله ليدخلهم في دين الله بلسانه ويده ، وصبر على هذه العبادات الشاقة على أكثر الناس .
فهذه أكبرالأسباب التي تنال بها أعظم العطايا وأفضل المواهب ، وهي مغفرة الله للذنوب صغارها وكبارها المتضمن ذلك زوال كل أمر مكروه ، ورحمته العظيمة التي بها صلحت أحوالهم واستقامت أمور دينهم ودنياهم ، فلهم الرحمة من الله في يوم القيامة
وقوله - سبحانه - : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ، أي : عذبوا وأوذوا من أجل أن يرتدوا إلى الكفر .
وأصل الفتن : إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته ، ثم استعمل في الاختبار والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن ، وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة .
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا - كما يقول ابن كثير - : جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا . .
والمعنى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } - أيها الرسول الكريم - تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإِسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم .
قال الآلوسي : وقرأ ابن عامر : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ، بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أي : عذبوا المؤمنين ، كالحضرمي ، أكره مولاه " جبرا " حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا . . .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } ، أي : جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله - تعالى - .
والضمير في قوله : { من بعدها } ، يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر . أي : إن ربك - أيها الرسول الكريم - من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين ، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم ، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله وصبروا على جهادهم ، { إنّ رَبّكَ منْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } يقول : إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور ، يقول : لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم .
وذُكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلّفوا بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاشتدّ المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم ، فأيسوا من التوبة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئنّ بالإيمَانِ } قال : ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ، ففتنوهم وكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
قال ابن جريج : قال الله تعالى ذكره : ل{ مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ{ ثم نسخ واستثنى ، فقال : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ، ذكر لنا أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يُقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة . فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله . فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قُتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله تعالى : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَرُوا منْ بَعْدِ ما فُتِنُوا . . . } الآية .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا ، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالإِسْلاَمِ ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضٌ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلاَءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ ، فَنَزَلَتْ : *إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ* إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، قَالَ : وَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الآيَةَ : لاَ عُذْرَ لَهُمْ ، قَالَ : فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ ، فَأَعْطُوهُمُ الْفِتْنَةَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : *وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ* إِلَى آخِرِ الآيَةِ ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ ، فَخَرَجُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ : *ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا ، فَخَرَجُوا ، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ ، ثُمَّ نَجَا مَنْ نَجَا ، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ "
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سَلَمَةُ ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ، قَالَ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، ( وَالْوَلِيدِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ) ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ : *ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا* " .
وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي شَأْنِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ
حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ ، عَنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ يَزِيدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالاَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ : *مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* ثُمَّ نُسِخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : *ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ، ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بِعَدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ* وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بن سعد بْنُ أَبِي سَرْحٍ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ ، فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَاسْتَجَارَ لَهُ أَبُو عَمْرٍو ، فَأَجَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
وقوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، قال ابن عباس : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم }{[7426]} [ النساء : 97 ] ، إلى آخر الآية قال : وكتب بها إلى من بقي بمكة من المسلمين وأن لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } [ البقرة : 8 العنكبوت : 10 ] إلى آخر الآية{[7427]} ، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : { ثم إن ربك للذين هاجروا } الآية ، فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل .
قال القاضي أبو محمد : جاءت هذه الرواية هكذا أن بعد نزول الآية خرجوا ، فجيء الجهاد الذي ذكر في الآية ، جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروت طائفة أنهم خرجوا وأتبعوا ، وجاهدوا متبعيهم ، فقتل من قتل ، ونجا من نجا فنزلت الآية حينئذ ، فعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم ، وقال ابن إسحاق : ونزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد .
قال القاضي أبو محمد : وذكر عمار في هذا عندي غير قويم ، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء ، وإنما هؤلاء من شرح بالكفر صدراً{[7428]} فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية ، وقال عكرمة والحسن : نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه ، فكأنه يقول من بعد ما فتنهم الشيطان وهذه الآية مدَنية ، ولا أعلم في ذلك خلافاً ، وإن وجد فهو ضعيف ، وقرأ الجمهور : «من بعد ما فُتِنوا » ، بضم الفاء وكسر التاء ، وقرأ ابن عامر وحده «فَتَنوا » ، بفتح الفاء والتاء ، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول ، كما فعل عمار ، وإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم المشركون ، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى من بعد ما فتنهم الشيطان . والضمير في : { بعدها } ، عائد على الفتنة ، أو على الفعلة ، أو الهجرة ، أو التوبة ، والكلام يعطيها ، وإن لم يجر لها ذكر صريح .
عطف على جملة { من كفر بالله من بعد إيمانه إلى قوله : { هم الخاسرون } [ سورة النحل : 106 109 ] .
و { ثمّ } للترتيب الرتبي ، كما هو شأنها في عطفها الجمل . وذلك أن مضمون هذه الجلة المعطوفة أعظمُ رُتبة من المعطوف عليها ، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال تعالى : { ورضوان من الله أكبر } [ سورة آل عمران : 15 ] .
والمراد { بالذين هاجروا } المهاجرون إلى الحبشة الذين أذِن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلّص من أذى المشركين . ولا يستقيم معنى الهجرة هنا إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة .
قال ابن إسحاق : « فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكاً لا يُظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مَخافة الفتنة وفراراً بدينهم » اهـ .
فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى وعذر الذين اتّقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقاً آخر فازوا بفرار من الفتنة ، لئلا يتوهّم متوهّم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدّة يوهن جامعة المسلمين فاستُوفِيَ ذكر فرق المسلمين كلها . وقد أومَأ إلى حظّهم من الفضل بقوله : { هاجروا من بعد ما فتنوا } ، فسمّى عملهم هِجرة .
وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين ، كما حكي عن إبراهيم عليه السلام { وقال إني مهاجر إلى ربي } [ سورة العنكبوت : 26 ] . وقال في الأنصار يحبّون من هاجر إليهم ، أي المؤمنين الذين فارقوا مكّة .
وسمّى ما لقوه من المشركين فتنة . والفتنة : العذاب والأذى الشديد المتكرّر الذي لا يترك لمن يقع به صبراً ولا رأياً ، قال تعالى : { يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم } [ سورة الذاريات : 14 ] ، وقال : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ سورة البروج : 10 ] . وتقدم بيانها عند قوله تعالى : { والفتنة أشدّ من القتل } في سورة البقرة ( 191 ) . أي فقد نالهم الأذى في الله .
والمجاهدة : المقاومة بالجُهد ، أي الطاقة .
والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر .
وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين .
والصبر : الثبات على تحمّل المكروه والمشاق ، وتقدم في قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } في سورة البقرة ( 45 ) .
وأكّد الخبر بحرف التوكيد وبالتوكيد اللفظي لتحقيق الوعد ، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل .
ويدلّ على ذلك ما في صحيح البخاري : أن أسماء بنت عُميس ، وهي ممّن قدم من أرض الحبشة ، دخلت على حفصة فدخل عمر عليهما فقال لها : سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم ، فغضبت أسماء وقالت : كلا والله ، كنتم مع النبي يُطعم جائعَكم ويعظ جاهلكم ، وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونُخاف ، وذلك في الله ورسوله ، وأيم الله لا أطعَم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله ، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيتَ حفصة قالت أسماء : يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا ، قال : فما قلتتِ له ؟ قالت : قلت له كذا وكذا ، قال : " ليست بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هِجرة واحدة ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان " . واللام في قوله : { للذين هاجروا } متعلّق ب« غفور » مقدّم عليه للاهتمام . وأعيد { إن ربك } ثانياً لطول الفصل بين اسم { إن } وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللّفظي .
وتعريف المسند إليه الذي هو اسم { إن } بطريق الإضافة دون العلمية لما يُومىء إليه إضافة لفظ ( ربّ ) إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه ربّ محمد صلى الله عليه وسلم حاصلاً بأسلوب يدلّ على الذّات العليّة وعلى الذّات المحمدية .
وهذا من أدقّ لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه .
وضمير { من بعدها } عائد إلى الهجرة المستفادة من { هاجروا } ، أو إلى المذكورات : من هجرة وفتنة وجهاد وصبر ، أو إلى الفتنة المأخوذة من { فتنوا } . وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلّها .
وقرأ ابن عامر { فَتَنوا } بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل ، وهي لغة في افتتن ، بمعنى وقع في الفتنة .