{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ْ } أي : حصلت لهم السعادة ، والفلاح ، والفوز { فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ْ } ثم أكد ذلك بقوله : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ْ } أي : ما أعطاهم الله من النعيم المقيم ، واللذة العالية ، فإنه دائم مستمر ، غير منقطع بوقت من الأوقات ، نسأل الله الكريم من فضله .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك من الآيات ما فيه تسلية للنبى - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من قومه من أذى ، وما فيه تثبيت لقلوب المؤمنين ، وما فيه إرشاد لهم إلى ما يقربهم من الخير ، ويبعدهم عن الشر فقال - تعالى :
{ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي . . . } .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء
{ وَأَمّا الّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاّ مَا شَآءَ رَبّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبضع الكوفيين : { وأما الّذِينَ سَعِدُوا } ، بفتح السين ، وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة : { وأمّا الّذِينَ سُعِدُوا } ، بضم السين ، بمعنى : رُزقوا السعادة .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ؛ فبأيتهما قرأ القارىء ، فمصيب الصواب .
فإن قال قائل : وكيف قيل : " سُعِدُوا " ، فيما لم يسمّ فاعله ، ولم يقل : «أُسعدوا » ، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمى فاعله : " سعده الله " ، بل إنما تقول : " أسعده الله " ؟ قيل : ذلك نظير قولهم : هو مجنون محبوب فيما لم يسم فاعله ، فإذا سموا فاعله ، قيل : أجنّه الله وأحبّه ، والعرب تفعل ذلك كثيرا . وقد بيّنا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا .
وتأويل ذلك : وأما الذين سُعدوا برحمة الله ، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، يقول : أبدا ، إلا ما شاء ربك . فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : إلا ما شاء ربك من قدْر ما مكثوا في النار قبل دخولهم الجنة ، قالوا : وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الضحاك ، في قوله : { وأمّا الّذِينَ سُعِدُوا ففي الجَنّةِ خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاء رَبّكَ } ، قال : هو أيضا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة ، يقول : خالدين في الجنة ما دامت السماوات والأرض ، { إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، يقول : إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة .
وقال آخرون : معنى ذلك : إلا ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدّة دوام السماوات والأرض ، قال : وذلك هو الخلود فيها أبدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن أبي مالك ، يعني ثعلبة ، عن أبي سنان : { وأمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنّةِ خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شاءَ رَبّكَ } ، قال : ومشيئته خلودهم فيها ، ثم أتبعها ، فقال : { عطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } .
واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع ؛ فقال بعضهم : في ذلك معنيان : أحدهما أن تجعله استثناء يستثنيه ولا يفعله ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وعزمك على ضربه ، قال : فكذلك قال : { خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شَاءَ رَبّكَ } ، ولا يشاؤه . قال : والقول الاَخر : إن العرب إذا استثنت شيئا كثيرا مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى إلا ومعنى الواو «سوى » ، فمن ذلك قوله : خَالدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَاوَاتُ والأرْضُ سوى ما شاء الله من زيادة الخلود ، فيجعل «إلا » مكان «سوى » ، فيصلح ، وكأنه قال : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد . ومثله في الكلام أن تقول : لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبله . قال : وهذا أحبّ الوجهين إليّ ، لأن الله لا يخلف وعده . وقد وصل الاستثناء بقوله : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، فدلّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطع عنهم .
وقال آخر منهم بنحو هذا القول ، وقالوا : جائز فيه وجه ثالث ، وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ ، إلى أن يصيروا إلى الجنة . ثم هو خلود الأبد ، يقول : فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ .
وقال آخر منهم : جائز أن يكون دوام السموات والأرض بمعنى : الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل وتستثنى المشيئة من داومها ، لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماوات والأرض في الدنيا لا في الجنة ، فكأنه قال : خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، القول الذي ذكرته عن الضحاك ، وهو { وأمّا الّذِينَ سُعِدُوا فَفِي ا لجَنّةِ خالِدِينَ فِيها ما دَامَتِ السّمَوَاتُ والأرْضُ إلاّ ما شَاءَ رَبّكَ } من قدر مكثهم في النار ، من لدن دخلوها إلى أن أدخلوا الجنة ، وتكون الآية معناها : الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في «إلا » توجيهها إلى معنى الاستثناء وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها إلا أن يكون معها دلالة تدل على خلاف ذلك ، ولا دلالة في الكلام ، أعني : في قوله : { إلاّ ما شَاءَ رَبّكَ } ، تدلّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام فيوجه إليه .
وأما قوله : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، فإنه يعني عطاء من الله غير مقطوع عنهم ، من قولهم : جذذت الشيء أجذّه جذّا : إذا قطعته ، كما قال النابغة :
تَجُذّ السّلُوقيّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ *** ويُوقِدْنَ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِب
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، قال : غير مقطوع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذ } ، يقول : غير منقطع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، يقول : عطاء غير مقطوع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مجذوذ } ، قال : مقطوع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، قال : غير مقطوع .
قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج . عن ابن جريج ، مثله .
قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قوله : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، قال : أما هذه فقد أمضاها ، يقول : عطاء غير منقطع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { عَطاءً غيرَ مَجْذُوذٍ } ، غير منزوع منهم .
{ وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } غير مقطوع ، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع ، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأبيد . وقرأ حمزة والكسائي وحفص { سعدوا } على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده ، و{ عطاء } نصب على مصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة .
أمّا الاستثناء الثاني الواقع في جانب { الذّين سعدوا } فيحتمل معنيين :
أحدهما أن يراد : إلاّ ما شاء ربك في أوّل أزمنة القيامة ، وهي المدّة التي يدخل فيها عصاة المؤمنين غير التّائبين في العذاب إلى أن يعفو الله عنهم بفضله بدون شفاعة ، أو بشفاعة كما في الصّحيح من حديث أنس : « يدخل ناسٌ جهنّم حتى إذا صاروا كالحُمَمَة أخرجوا وأدخلوا الجنّة فيقال : هؤلاء الجهنميون » .
ويحتمل أن يقصد منه التّحذير من توهّم استحقاق أحد ذلك النعيم حقاً على الله بل هو مظهر من مظاهر الفضل والرّحمة .
وليس يلزم من الاستثناء المُعلّق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنّما يقتضي أنّها لو تعلّقت المشيئة لوقع المستثنى ، وقد دلّت الوعود الإلهية على أنّ الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها . وأيّاً ما كان فهم إذا أدخلوا الجنّة كانوا خالدين فيها فلا ينقطع عنهم نعيمها . وهو معنى قوله : { عطاء غير مجذوذ } .
وقرأ الجمهور { سَعِدوا } بفتح السّين ، وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف بضم السّين على أنّه مبني للنائب ، وإن كان أصل فعله قاصراً لا مفعول له ؛ لكنّه على معاملة القاصر معاملة المتعدّي في معنى فُعِل به ما صيّره صاحب ذلك الفعل ، كقولهم : جُنّ فلان ، إذا فُعل به ما صار به ذَا جنون ، ف { سُعِدوا } بمعنى أسعدوا . وقيل : سَعِد متعدّ في لغة هذيل وتميم ، يقولون : سَعِدَه اللّهُ بمعنى أسْعَدَهُ . وخُرّج أيضاً على أن أصله أسعدوا ، فحُذف همز الزيادة كما قالوا مجنُوب ( بموحدة في آخره ) ، ومنه قولهم : رجل مَسعود .