البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ} (108)

الجذ القطع بالمعجمة والمهملة .

قال ابن قتيبة : جذذت وجددت ، وهو بالذال أكثر .

قال النابغة :

تجذ السلوقي المضاعف يسجه *** وتوقد بالصفاح نار الحباحب

وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار ، إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثم لا يخلد فيها ، لكن يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحاب الأعراف ، فإنهم بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخلدوا فيها صدق على العصاة المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلدوا في الجنة تخليد من دخلها لأول وهلة ، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن في الجار والمجرور ، أو في خالدين ، وتكون ما واقعة على نوع من يعقل ، كما وقعت في قوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } أو تكون واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها على من يعقل مطلقاً ، ويكون المستثنى في قصة النار عصاة المؤمنين ، وفي قصة الجنة هم ، أو أصحاب الأعراف لأنهم لم يدخلوا الجنة لأول وهلة ، ولا خلدوا فيها خلود من دخلها أول وهلة .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما معنى الاستثناء في قوله : إلا ما شاء ربك ، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الآية من غير استثناء ؟ ( قلت ) : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنّ أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده ، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب يساوي عذاب النار ، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم .

وهكذا أهل الجنة لهم مع تبوّء الجنة ما هو أكبر منها وأجل موقعاً منهم ، وهو رضوان الله تعالى .

كما قال : { وعد الله } الآية إلى قوله : { ورضوان من الله أكبر } ولهم ما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة ما لا يعرف كنهه إلا هو ، فهو المراد بالاستثناء ، والدليل عليه قوله : عطاء غير مجذوذ .

ومعنى قوله في مقابلته : إن ربك فعال لما يريد ، أنه يفعل بأهل النار ، ما يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له ، فتأمله فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ولا يخدعنك عنه قول المجبرة : المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة ، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم .

وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لما روي لهم بعض الثوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك عندما يلبثون فيها أحقاباً .

وقد بلغني أن من الضلال من اعتبر هذا الحديث ، فاعتقد أنّ الكفار لا يخلدون في النار ، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه ، وتنبيهاً عن أن نغفل عنه .

ولئن صح هذا عن أبي العاص فمعناه يخرجون من النار إلى برد الزمهرير ، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها انتهى .

وهو على طريق الاعتزال في تخليد أهل الكبائر غير التائبين من المؤمنين في النار ، وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل النار من كونهم لا يخلدون في عذاب النار ، إذ ينتقلون إلى الزمهرير فلا يضيق عليهم أنهم خالدون في عذاب النار ، فقد يتمشى .

وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل الجنة من قوله : خالدين ، فلا يتمشى لأنهم مع ما أعطاهم الله من رضوانه ، وما تفضل عليهم به من سوى ثواب الجنة ، لا يخرجهم ذلك عن كونهم خالدين في الجنة ، فلا يصح الاستثناء على هذا ، بخلاف أهل النار فإنه لخروجهم من عذابها إلى الزمهرير يصح الاستثناء .

وقال ابن عطية : وأما قوله إلا ما شاء ربك ، فقيل فيه : إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على نحو قوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط كأنه قال : إن شاء الله ، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع .

وقيل : هو استثناء من طول المدة ، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها ، وتخفق أبوابها ، فهم على هذا يخدلون حتى يصير أمرهم إلى هذا ، وهذا قول محيل .

والذي روى ونقل عن ابن مسعود وغيره : أنها تخلو من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين ، وهو الذي يسمى جهنم ، وسمى الكل به تجوزاً .

وقيل : إلا بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاء الله زائداً على ذلك .

وقيل : في هذه الآية بمعنى سوى ، والاستثناء منقطع كما تقول : لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك ، بمعنى سوى تلك الألف .

فكأنه قال : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، سوى ما شاء الله زائداً على ذلك ، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا : عطاء غير مجذوذ ، وهذا قول الفرّاء .

وقيل : سوى ما أعد لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير .

وقيل : استثناء من مدة السموات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا .

وقيل : في البرزخ بين الدنيا والآخرة .

وقيل : في المسافات التي بينهم في دخول النار إذ دخولهم إنما هو زمراً بعد زمر .

وقيل : الاستثناء من قوله ففي النار ، كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نصرة عن جابر ، أو عن أبي سعيد الخدري ، ثم أخبر منبهاً على قدرة الله تعالى فقال : إن ربك فعال لما يريد انتهى .

وقال أبو مجلز : إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه بعذاب يكون جزاؤه الخلود في النار ، فلا يدخله النار .

وقيل : معنى إلا ما شاء ربك كما شاء ربك قيل : كقوله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا من قد سلف } أي كما قد سلف .

وقرأ الحسن : شقوا بضم الشين ، والجمهور بفتحها .

وقرأ ابن مسعود ، وطلحة بن مصرّف ، وابن وثاب ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص سعدوا بضم السين ، وباقي السبعة والجمهور بفتحها .

وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية ، ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه .

وقد احتج الكسائي بقولهم : مسعود ، قيل : ولا حجة فيه لأنه يقال : مكان مسعود فيه ، ثم حذف فيه وسمى به ، وقال المهدوي : من قرأ سعدوا فهو محمول على مسعود ، وهو شاذ قليل لأنه لا يقال سعده الله ، إنما يقال : أسعده الله .

وقال الثعلبي : سعد وأسعد بمعنى واحد ، وانتصب عطاء على المصدر أي : أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله : { والله أنبتكم من الأرض نبتاً } أي إنباتاً .

ومعنى غير مجذوذ : غير مقطوع ، بل هو ممتد إلى غير نهاية .