السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ} (108)

{ وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } كما تقدّم ، ودل عليه قوله تعالى : { عطاء غير مجذوذ } ، أي : مقطوع ، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء ، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء ؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء ، . لما روي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال : «يخرج قوم من النار بالشفاعة » ، وفي رواية : «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة » . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : «ليصيبن قوماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة » وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين » . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد » ، أي : من أهل الكبائر من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار ، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم ، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى : { فمنهم شقيّ وسعيد } تقسيماً صحيحاً ؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه ؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي ، أو مانع من الجميع من الجنة والنار ، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة وقوفهم للحساب ، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار . وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء ؛ لأنه تعالى حكم بالخلود . وقال الفراء : هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه .

وقال أهل المعاني : هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون : لا آتيك ما دامت السماوات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبداً . وقيل : إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً ، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر } [ التوبة ، 72 ] . وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها ، وعطاء نصب على المصدر المؤكد ، أي : أعطوا عطاء ، أو الحال من الجنة ،