ثم تحدثت الآيات الكريمة بعد ذلك عن فتنة سليمان - عليه السلام - فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ . . }
وقوله : { فَتَنَّا } من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار والامتحان . تقول : فتنت الذهب بالنار ، أى : اختبرته لتعلم جودته . . قال الآلوسى : وأظهر ما قيل فى فتنة سليمان - عليه السلام - أنه قال : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . تأتى كل واحدة بفارس يجاهد فى سبيل الله - تعالى - ولم يقل إن شاء الله . فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل . وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة مرفوعا ، وفيه : " فوالذى نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا " . ولكن الذى فى صحيح البخارى أربعين بدل سبعين . وأن الملك قال له : قل إن شاء الله ، فلم يقل - أى فلم يقل ذلك على سبيل النسيان .
والمراد بالجسد ذلك الشق الذى ولدته له . ومعنى إلقائه على كرسيه : وضع القابلة له عليه ليراه .
وقد ذكروا أن سليمان : إنما قال : " تحمل كل امرأة فارسا يجاهد فى سبيل الله " على سبيل التمنى للخير ، وطلب الذرية الصالحة المجاهدة فى سبيل الله .
ومعى " فلم يقل " أى : بلسانه على سبيل النسيان ، والنسيان معفو عنه ، إلا أن سليمان - عليه السلام - لسمو منزلته اعتبر لك ذنبا يستحق الاستغفار منه ، فقال بعد ذلك " اغفر لى . . . "
وقوله : " لأطوفن الليلة . . . " كناية عن الجماع ، قالوا : ولعل المقصود . طوافه عليهن ابتداء من تلك الليلة ، ولا مانع من أن يستغرق طوافه بهن عدة ليال .
وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن فتنة سليمان ، هى تركه تعليق ما طلبه على مشيئة الله ، وأن عقابه على ذلك كان عدم تحقق ما طلبه .
وهذا الرأى فى تقديرنا هو الرأى الصواب فى تفسير الآية الكريمة لأنه مستند إلى حديث صحيح ثابت فى الصحيحين وفى غيرهما ، ولأنه يتناسب مع عصمة الأنبياء وسمو منزلتهم ، فإن النسيان الذى لا يترتب عليه ترك شئ من التكاليف التى كلفهم الله - تعالى - بها جائز عليهم .
وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً . إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أن الوحى مكث فترة لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نسى أن يقول - عندما سأله المشركون عن بعض الأشياء إن شاء الله ، وقال سأجيبكم على ما سألتمونى عنه غدا .
ومن العلماء من آثر عدم تعيين الفتنة التى اختبر الله - تعالى - بها سيدنا سليمان - عليه السلام - ، بتركه المشيئة ، فقال بعد أن ذكر الحديث السابق : وجائز أن تكون هذه الفتنة التى تشير إليها الآيات هنا وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق ، ولكن هذا مجرد احتمال .
ثم قال : وكل ما نخرج به هو أنه كان عناك ابتلاء من الله وفتنة لنبى الله سليمان - عليه السلام - فى شأن يتعلق بتصرفاته فى الملك والسلطان ، كما يبتلى الله أنباءه ليوجههم ويرشدهم ، ويبعد خطاهام عن الزلل ، وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع . وطلب المغفرة ، واتجه إلى الله بالرجاء والدعاء . .
ونرى أنه رأى لا بأس به ، وإن كنا نؤثر عليه الرأى السابق لاستناده فى استنباط المراد من الفتنة هنا إلى الحديث الصحيح .
هذا . وهناك أقوال أخرى ذكروها فى المقصود بفتنة سليمان وبالجسد الذى ألقاه الله على كرسى سليمان ، وهى أقوال ساقطة ، تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليه السلام - .
ومن هذه الأقوال قول بعضهم : إن الجسد الذى ألقى على كرسى سليمان ، عبارة عن شيطان تمثل له فى صورة إنسان ، ثم أخذ من سليمان خاتمه الذى كان يصرف به ملكه .
وقعد ذلك الشيطان على كرسى سليمان ، ولم يعد لسليمان ملكه إلا بعد أن عثر على خاتمه .
وقول بعضهم : إن سبب فتنة سليمان - عليه السلام - هو سجود إحدى زوجاته لتمثال أبيها الذى قتله سليمان فى إحدى الحروب ، وقد بقيت على هذه الحال هى وجواريها أربعين ليلة ، دون أن تعلم سليمان بذلك .
وقول بعضهم : إن سبب فتنة سليمان أنه وُلِدَ له ولد فخاف عليه من الشياطين ، فأمر السحاب بحفظه وتغذيته . ولكن هذا الولد وقع ميتا على كرسى سليمان ، فاستغفر سليمان ربه لأنه لم يعتمد عليه فى حفظ ابنه . إلى غير ذلك من الأقوال الساقطة الباطلة ، التى تتنافى مع عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وتتنافى - أيضا - مع كل عقل سليم ، ولا مستند لها إلا النقل عن الإِسرائيليات وعن القصاص الذين يأتون بقصص ما أنزل الله بها من سلطان .
قال أبو حيان - رحمه الله - : نقل المفسرون فى هذه الفتنة وفى إلقاء الجسد أقوال يجب براءة الأنبياء منها ، يوقف عليها فى كتبهم ، وهى مما لا يحل نقلها ، وهى إم من أوضاع اليهود ، أو الزنادقة ، ولم يبين الله - تعالى - الفتنة ما هى ، ولا الجسد الذى ألقاه على كرسى سليمان .
وأقرب ما قيل فيه ، أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن فى الحديث الذى قال فيه : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة . . والجسد الملقى هو المولود شق رجل . .
وقوله - سبحانه - : { قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي . . . } بيان لما قاله سليمان - عليه السلام - بعد الابتلاء والاختبار من الله - تعالى - له .
أى : قال سليمان - عليه السلام - يا رب اغفر لى لى ما فرط منى من ذنوب وزلات . . { وَهَبْ لِي مُلْكاً } عظيما { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } أى : لا يحصل مثله لأحد من الناس من بعدى { إِنَّكَ أَنتَ } يا إلهى { الوهاب } أى : الكثير العطاء لمن تريد عطاءه .
وقدم سليمان - عليه السلام - طلب المغفرة على طلب الملك ، للإِشارة إلى أنها هى الأهم عنده .
قال الإِمام الرازى - رحمه الله - : دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم بعدها طلب المملكة ، وأيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله - تعالى - سبب لانفتاح أبواب الخيرات فى الدنيا ، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ، ثم توسل به إلى طلب المملكة .
ولايقال كيف طلب سليمان - عليه السلام - الدنيا والملك مع حقارتهما إلى جانب الآخرة وما فيها من نعيم دائم ؛ لأن سليمان - عليه السلام - ما طلب ذلك إلا من أجل خدمة دينه وإعلاء كلمة الله فى الأرض ، والتمكن من أداء الحقوق لأصحابها ، ونشر العدالة بين الناس ، وإنصاف المظلوم ، وإعانة المحتاج .
وتنفيذ شرع الله - تعالى - على الوجه الأكمل .
فهو - عليه السلام - لم يطلب الملك للظلم أو البغى . . وإنما طلبه للتقوى به على تنفيذ شريعة الله - تعالى - فى الأرض .
ولقد وضح الإِمام القرطبى هذا المعنى فقال : كيف أقدم سليمان على طلب الدنيا ، مع ذمها من الله - تعالى - . . . ؟ فالجواب : أن ذلك محمول عند العلماء على أداء حقوق الله - تعالى - وسياسة ملكه ، وترتيب منازل خلقه ، وإقامة حدوده ، والمحافظة على رسومه وتعظيم شعائره ، وظهور عبادته ، ولزوم طاعته . . . وحوشى سليمان - عليه السلام - أن يكون سؤالا طلبا لنفس الدنيا . لأنه هو والأنبياء ، أزهد خلق الله فيها ، وإنما سأل مملكتها لله . كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله ، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك .
ومعنى قوله { لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } أى : أن يسأله . فكأنه سأل منه السؤال بعده ، حتى لا يتعلق به أمل أحد ، ولم يسأل منع الإِجابة . .
قوله : ( قالَ رَبّ اغفرْ لي وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحدٍ مِنْ بَعْدي ) يقول تعالى ذكره : قال سليمان راغبا إلى ربه : ربّ استر عليّ ذنبي الذي أذنبت بيني وبينك ، فلا تعاقبني به وَهَبْ لي مُلكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يسلبنيه أحدكما سلبنيه قبل هذه الشيطان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( قالَ رَبّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) يقول : ملكا لا أسلَبه كما سُلبتُه .
وكان بعض أهل العربية يوجه معنى قوله : لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إلى : أن لا يكون لأحد من بعدي ، كما قال ابن أحمر :
ما أُمّ غُفْرٍ على دعْجاءَ ذِي عَلَقٍ *** يَنْفي القَراميدَ عنها الأعْصَمُ الوَقِلُ
فِي رأْسِ حَلْقاءَ مِن عَنقاءَ مُشْرِفة *** لا يَنْبَغِي دُوَنها سَهْلٌ وَلا جَبَلُ
بمعنى : لا يكون فوقها سهل ولا جبل أحصن منها .
وقوله : ( إنّكَ أنْتَ الوَهّابُ ) يقول : إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن كلّ شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت .
{ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي ، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال ، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة ، وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ووجوب تقديم ما يجعل للدعاء بصدد الإجابة . وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء . { إنك أنت الوهاب } : المعطي ما تشاء لمن تشاء .
ثم إن سليمان عليه السلام استغفر ربه واستوهبه ملكاً . واختلف المتأولون في معنى قوله : { لا ينبغي لأحد من بعدي } فقال جمهور الناس : أراد أن يفرده بين البشر لتكون خاصة له وكرامة ، وهذا هو الظاهر من قول النبي صلى الله عليه وسلم في خبر العفريت الذي عرض له في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسرية من سواري المسجد ، قال : «ثم ذكرت قول أخي سليمان : { رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } فأرسلته » ، وقال قتادة وعطاء بن أبي رباح : إنما أراد سليمان : { لا ينبغي لأحد من بعدي } مدة حياتي ، أي لا أسلبه ويصير إلى أحد كما صار إلى الجني . وروي في مثالب الحجاج بن يوسف أنه لما قرأ هذه الآية قال : لقد كان حسوداً ، وهذا من فسق الحجاج . وسليمان عليه السلام مقطوع بأنه إنما قصد بذلك قصداً براً جائزاً ، لأن للإنسان أن يرغب من فضل الله فيما لا يناله أحد ، لا سيما بحسب المكانة والنبوءة ، وانظر أن قول عليه السلام : { ينبغي } إنما هي لفظة محتملة ليست بقطع في أنه لا يعطي الله نحو ذلك الملك لأحد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم لو ربط الجني لم يكن ذلك نقصاً لما أوتيه سليمان ، لكن لما كان فيه بعض الشبه تركه جرياً منه عليه السلام على اختياره أبداً أيسر الأمرين وأقربهما إلى التواضع .