فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٖ} (222)

{ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } الأفاك الكثير الإفك ، والأثيم كثير الإثم ، والمراد به كل من كان كاهنا ، فإن الشياطين كانت تسترق السمع ، ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم مثل مسيلمة من المتنبئة ، وكسطيح من الكهنة ، وهو معنى قوله :

{ يُلْقُونَ السَّمْعَ } أي : ما يسمعونه مما يسترقونه ، فالمعنى حال كون الشياطين ملقين السمع ، أي : ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان ، ويجوز أن يكون المعنى أن الشياطين يلقون السمع ، أي : يصغون إلى الملأ الأعلى ليسترقوا منهم شيئا ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع ، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع .

ويجوز أن تكون جملة يلقون السمع راجعة إلى كل أفاك أثيم ، على أنها صفة أو مستأنفة ، ومعنى الإلقاء أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها ، وتكذب المائة الكلمة ، ويلقونها إلى عوام الخلق .

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : سأل أناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : إنهم ليسوا بشيء ، قالوا يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بشيء يكون حقا قال : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة . وفي لفظ البخاري فيزيدون معها مائة كذبة .

{ وَ } جملة { أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } راجعة إلى كل أفاك أثيم ، أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين ، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيرا من أكاذيبهم المختلقة أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع أي المسموع من الشياطين ، إلى الناس ، أو هذه الجملة راجعة إلى الشياطين أي أكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه ، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرا من الكذب ، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء .

وقد قيل : كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون ، بعدما وصفوا جميعا بالإفك ؟ وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب ، لا الذي لا ينطق إلا بالكذب ، فالمراد بقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } أنه قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الشياطين ، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي صلى الله عليه وسلم من جملة من يلقي إليه الشيطان السمع من الكهنة ؛ ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب ، ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلا الصدق . فكيف يكون كما زعموا ؟ ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين ، وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ، ويأمر بالتعوذ منهم .