فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

فأجاب الله سبحانه بقوله :{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } يعني النبوة أو ما هو أعم منها والاستفهام للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة وترسم هذه التاء مجرورة إتباعا لرسم المصحف الإمام كما نص عليه ابن الجزري ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال :

{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد ، فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا ، وهذا مالكا ، وهذا مملوكا ، وهذا قويا ، وهذا ضعيفا ، ولم نفوض ذلك إليهم ، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده ، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة ؟ وتفويضها إلى من يشاء من خلقه ؟ قال مقاتل : يقول بأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاؤوا ، قرأ الجمهور معيشتهم الأفراد ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن ، معايشهم بالجمع .

{ وَ } معنى { رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم ، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض فقال :

{ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } أي ليستخدم بعضهم بعضا فيستخدم الغني الفقير ، والرئيس المرؤوس والقوي والضعيف ، والحر والعبد ، والعاقل من دونه في العقل والعالم الجاهل وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا ، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم ، ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه ، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين فيجعل البعض محتاجا إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متع الدنيا ويحتاج هذا إلى هذا ويصنع هذا لهذا ويعطي هذا هذا .

وقال السدي وابن زيد سخريا خولا وخدما ، يسخر الأغنياء الفقراء ، فيكون سببا لمعاش بعض ، وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا ، وقيل هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء ، قال الأخفش سخرت به ، وسخرت منه ، وضحكت به ، وضحكت منه ، وهزأت به ، وهزأت منه ، وهذا وإن كان مطابقا للمعنى اللغوي لكنه بعيد من معنى القرآن ، ومناف لما هو مقصود السياق ، وعلى هذا القول تكون اللام للصيرورة والعاقبة ، لا للعلة والسببية .

{ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ } يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة . وقيل هي النبوة لأنها المرادة بالرحمة المتقدمة في قوله { أهم يقسمون رحمة ربك } ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولا أو بدلا { خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي مما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا لأن الدنيا على شرف الزوال والانقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآبدين .