فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّـٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (72)

ثم ذكر تفصيل ما يدخل تحت آثار الرحمة إجمالا باعتبار الرحمة في الدار الآخرة فقال : { وعد الله المؤمنين والمؤمنات } أي كل مؤمن ومؤمنة { جنات تجري من تحتها الأنهار } الإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بعلية وصف الإيمان للوعد المذكور ، ومعنى جري الأنهار من تحت الجنات أنها تجري تحت أشجارها وغرفها ، والمراد البساتين التي يتحير في حسنها الناظر .

{ خالدين } أي مقدرين الخلود { فيها } وقد تقدم تحقيق الآية في البقرة { ومساكن } أي منازل يسكنون فيها من الدر والياقوت { طيبة } تستطيبها النفوس ويطيب فيها العيش { في جنات عدن } إقامة ، يقال عدن بالمكان إذا أقام به ومنه المعدن أي بساتين خلد ، وقيل هي أعلى الجنة ، وقيل أوسطها ، وقيل قصورها من ذهب لا يدخلها إلا نبي أو صديق أو شهيد .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبري بسنده عن عمران وابن مردويه عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير قوله تعالى : { ومساكن طيبة في جنات عدن } قالا : على الخبير سقطت ، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع : قلت : ووصف الله الجنة هنا بأوصاف .

الأول : جري الأنهار من تحتها ليميل الطبع إليها .

والثاني : أنهم فيها خالدون لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير .

والثالث : طيب مساكنها الخالية عن الكدورات ، والرابع : أنها ذات عدن أي إقامة غير منقطعة ، هذا ما هو معنى عدن لغة وقيل هو علم .

قال الرازي : والحاصل أن في عدن قولين : أحدهما أنه اسم علم لموضع معين في الجنة ، والآثار والأخبار تقوي ذلك ، وقال الزمخشري : أنه علم بدليل قوله جنات عدن التي وعد الرحمن عباده . والثاني أنه صفة للجنة بمعنى إقامة ، فبهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها عدن ، والأحاديث في صفة الجنات وأصنافها كثيرة ، وقد أوضحت المقام في كتابي مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام فليرجع إليه .

{ ورضوان } يسير { من الله أكبر } من ذلك كله الذي أعطاهم الله إياه عليه يدور فوز كل خير وسعادة ، وبه يناط كل شرف وسيادة ولعل عدم نظمه في سلك الموعود به مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود ، ولأنه مستمر في الدارين .

وفيه دليل على أنه لا شيء من النعم وإن جلت وعظمت يماثل رضوان الله سبحانه ، وإن أدنى رضوان الله لا يساويه شيء من اللذات الجسمانية وإن كانت على غاية ليس وراءها غاية ، اللهم ارض عنا رضا لا يشوبه سخط ، ولا يكدره نكد يا من بيده الخير دقه وجله .

{ ذلك } أي ما تقدم مما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات { هو الفوز العظيم } دون كل فوز مما يعده الناس فوزا من حطام الدنيا ، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ، فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول هل رضيتم ؟ فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك ، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا : يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ، قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) {[905]} .


[905]:- مسلم 282973- البخاري 2458.