هذا هو الجزء الأخير من القرآن الكريم ، ويتميز بقصر الآيات ، وقصر السور ، وروعة الأسلوب ، وجمال القافية ، ليستلفت الأنظار إلى قدرة الخالق ، وآثار الله في الآفاق .
وكأن هذا الجزء دعوة متكررة لقوم نيام ، أو صيحة عارمة لسكارى غارقين في اللهو ، يفيقون حينا ثم يهيمون في ضلالهم حينا آخر ، والسور توالى تنبيههم ، وتناديهم : أن أفيقوا وتنبهوا قبل فوات الأوان .
" وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان ، والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان ، وعلى مشاهد هذا الكون ، وآيات الله في كتابه المفتوح ، وعلى مشاهد القيامة العنيفة ، الطامة الصاخة القارعة الغاشية ، ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب ، في صور تقرع وتذهل وتزلزل ، كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها ، واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير ، والنشأة الآخرى وموازينها الحاسمة ، مع التقريع بها والتخويف والتحذير ، وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين " i .
والأمثلة على هذا هي الجزء كله ، ومنه هذه السورة ( سورة النبأ ) ، وهي نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد ، ومثلها سورة النازعات ، وسورة الانشقاق التي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ، ومشاهد النعيم والعذاب ، وسورة الطارق ، وسورة الغاشية .
( سورة النبأ مكية ، وآياتها 40 آية ، نزلت بعد سورة المعارج ) .
سورة النبأ نموذج لاتجاه هذا الجزء ، بموضوعاته وحقائقه ، وصوره ومشاهده .
وهي تبدأ بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام ، وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ولا شبهة ، ويعقب على ذلك بتهديدهم بيوم يعلمون حقيقته . ( الآيات 1-5 ) .
ثم يلفت السياق الأنظار إلى عدد من المشاهد والحقائق ، تتمثل في خلق الأرض ، وإرساء الجبال ، وخلق الذكر والأنثى للتناسل والتكاثر وإشباع الرغبة والحاجة في كل طرف إلى الآخر ، وخلق الليل سكنا ، والنوم راحة وأمنا ، والنهار سعيا ومعاشا ، وخلق السماء والشمس ، وإنزال المطر ، وإنبات النبات والبساتين . ( الآيات 6-16 ) .
ثم يعود إلى مشهد القيامة والبعث ( الآيات 17 -20 ) ويصف جهنم وأهوالها وعذابها ، وجحود أهلها وتكذيبهم بآيات الله . ( الآيات 21 -30 ) .
ثم يصف نعيم المتقين في الجنة وصنوف التكريم الحسي والمعنوي . ( الآيات 31-32 ) .
وتختم السورة بمشهد جليل في يوم القيامة ، يوم تصفّ الملائكة صفّا ، ويشتد الهول ، ويلقى كل إنسان جزاء عمله . ( الآيات 37-40 ) .
كان المشركون كما اجتمعوا في ناد من أنديتهم أخذوا يتحدثون ويسأل بعضهم بعضا ، ويسألون غيرهم فيقولون : أساحر هو أم شاعر ، أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء ؟ ويتحدثون في شأن القرآن أهو سحر أم شعر أم كهانة ؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه ، والرسول سائر قدما في تبليغ رسالته ، وأمامه مصباحه المنير الذي يضيء للناس سبيل الرشاد وهو الكتاب الكريم ، كما كانوا يتحدثون في شأن البعث ، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ ، فمنهم من ينكره البتة ويزعم أنه إذا مات انتهى أمره ، وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع : وما يهلكنا إلا الدهر . . . ( الجاثية : 24 ) .
ومنهم من كان يزعم أن البعث للأرواح دون الأجساد ، لأن الأجساد تأكلها الأرض وتعبث بها يد البلى ، وربما لقي أحدهم بعض من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية .
وفي هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة ، ردّا عليهم ، وإقامة للحجة على أن الله قادر على أن يبعثهم بعد موتهم ، وإن صاروا ترابا أو أكلتهم السباع أو أحرقتهم النيران ، لأن الله أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما .
1-3- عن أي شيء يتساءل مشركو مكة ؟ يتساءلون عن الخبر العظيم الشأن ، وهو البعث أو نزول الوحي على النبي صلى الأمين صلى الله عليه وسلم ، الخبر الذي اختلفوا فيه ، فمن قائل إنه مستحيل ، ومن شاك فيه متردد يقول : ما ندري ما الساعة إن نظنّ إلا ظنّا وما نحن بمستيقنين . ( الجاثية : 32 ) .
4 ، 5- ترد الآيتان على تساؤلهم وشكهم بالتهديد الملفوف ، وهو أوقع من الجواب المباشر وأعمق في التأثير ، وتقول : فليزدجروا عما هم فيه ، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال ، إذا حل بهم العذاب والنكال ، وأن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا شك فيه ، ولا ريب في وقوعه .
6-16- تنتقل الآيات من موضوع النبأ العظيم ، لتعرض أمام الأبصار والبصائر مظاهر القدرة الإلهية في خلق هذا الكون ، فتذكر تسعة مشاهد ، يشاهدونها بأعينهم ، ولا يخفى عليهم شيء منها :
1- انبساط الأرض وتمهيدها لتحصيل المعاش ، وإثراء الحياة .
2- سمو الجبال لتثبيت الأرض وحفظ التوازن .
3- خلق الناس ذكورا وإناثا ، ليتم الائتناس والتعاون ويعم النفع .
4- جعل النوم راحة للأجسام ، وسكنا للأرواح ، وانقطاعا عن الإدراك والنشاط .
5- جعل الليل لباسا وساترا ، يتم فيه السبات والانزواء .
6- جعل النهار معاشا ، تتم فيه الحركة والنشاط .
7- ارتفاع السماوات فوقنا ، مع إحكام الوضع ودقة الصنع ، وقوة البناء وشدته وتماسكه .
8- وجود الشمس المنيرة المتوهجة ، تسكب الأشعة والضوء والحرارة .
9- نزول المطر وما ينشأ عنه من الحبّ والنبات ، والجنات الألفاف ، الكثيفة ، الكثيرة الأشجار الملتفة الإغصان .
وتوالى هذه الحقائق والمشاهد على هذا النظام البديع ، والتقدير المحكم ، يوحي بأن وراء هذا الكون قوة تدبره ، وحكمة تنظمه ، وتشعر بالخالق الحكيم القدير ، الذي أبدع كل شيء خلقه ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
17-20- إن الناس لم يخلقوا عبثا ، ولن يتركوا سدى ، والذي قدّر حياتهم ذلك التقدير المحكم ، الذي يشي به المقطع الماضي في السياق قد جعل لهم يوما مؤقتا للفصل والقضاء بينهم ، في ذلك اليوم ينفخ إسرافيل في البوق ، فيأتي الناس جميعا مسرعين ، جماعات جماعات ، والسماء المبنية المتينة فتحت ، وانشقت وتصدعت على هيئة لا عهد لنا بها ، فكانت طرقا وأبوابا ، والجبال الراسية الثابتة تصبح هباء مثارا في الهواء ، ومن ثم فلا وجود لها ، كالسراب الذي ليس له حقيقة .
21- 30- تمضي الآيات خطوة وراء النفخ والحشر ، فتصور مصير الطغاة وتذكر ما يأتي :
إن جهنم خلقت ووجدت مكانا مترصدا للطاغين ، ينتظر حضورهم ، ويترقب وصولهم ، إن جهنم مرجع الطغاة ومكان إيابهم وعودتهم .
روى ابن جرير ، عن الحسن أنه قال : لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار ، فإن كان معه جواز نجا ، وإلا احتبس .
وسيمكث الطغاة في النار دهورا متلاحقة ، يتبع بعضها بعضا ، فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر ، إنهم لن يذوقوا في جهنم إلا الحميم وهو الماء المغلي ، والغشاق وهو الصديد الذي يسيل من جراح أهل النار ، جزاء وفاقا . ( النبأ : 26 ) .
قال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار .
إنهم كانوا لا يتوقعون الحساب ، وكذّبوا بجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد ، وبجميع ما جاء في القرآن ، بينما كان الله يحصى عليهم كل شيء ، إحصاء دقيقا لا يفلت منه شيء ، وسجلّ أعمالهم في اللوح المحفوظ ، أو كتبها في صحف أعمالهم : أحصاه الله ونسوه . . . ( المجادلة : 6 ) . ويقال لهم على ألسنة خزنة جهنم من باب التأنيب الميئس من كل رجاء : ذوقوا أشد العذاب بما كسبت أيديهم ، ولن نزيدكم إلا عذابا من جنسه .
31-36- تعرض الآيات المشهد المقابل ، مشهد الأتقياء في النعيم ، بعد مشهد الطغاة في الجحيم ، إن الأتقياء يفوزون بالنعيم ، والثواب ، ومن مظاهره تلك الحدائق الكثيرة والبساتين والأعناب وكواعب . وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت أثدائهن ، أترابا . متوافقات السن والجمال ، وكأسا دهاقا . مترعة بالشراب ، ولا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام ، ولا يكذب بعضهم بعضا ، وهذه النعم جزاء من الله على أعمالهم ، وهي عطاء وتفضل من الله على حسب أعمالهم ، وفي الحديث الشريف : ( إنكم تدخلون الجنة بفضل الله ، وتقتسمونها بحسب أعمالكم ) .
37-40- هذا الجزاء السابق للطغاة وللتقاة ، من مالك السماوات والأرض ، والمدبّر لشئونهما ، والمالك لما بينهما من عوالم ، وهو الرحمان ، ومن رحمته يكون الجزاء العادل المناسب للأشرار وللأخيار ، ومع الرحمة الجلال ، فلا يملك أحد مخاطبته في ذلك اليوم المهيب .
يوم يقف جبريل والملائكة جميعا مصطفين لا يتكلمون ، إجلالا لربهم ، ووقوفا عند أقدارهم ، إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا صدقا وصوابا .
ذلك اليوم هو الحق الموعود به ، فلا مجال للتساؤل والاختلاف في شأنه ، والفرصة لا تزال سانحة ، فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه ، ويدنيه من ثوابه ، إنا نحذركم عذاب يوم القيامة ، وهو قريب ليس بالبعيد ، فجهنم تنتظركم ، وتترصد لكم على النحو الذي سمعتم ، والدنيا كلها رحلة قصيرة ، وكل آت قريب .
وفي ذلك اليوم يجد الإنسان جزاء عمله ، ولقاء ما صنعه في الدنيا من الأعمال ، فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) . في ذلك اليوم يشعر الكافر بالندم والحسرة ، فيقول : يا ليتني كنت ترابا أو حجرا لا يجري عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب .
اشتملت سورة النبأ على الموضوعات الآتية :
1- سؤال المشركين عن البعث ، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
2- تهديد المشركين على إنكارهم إياه .
3- إقامة الأدلة على إمكان حصوله .
5- ما يلاقيه المكذبون من العذاب .
{ عمّ يتساءلون 1 عن النّبأ العظيم 2 الذي هم فيه مختلفون 3 كلاّ سيعلمون 4 ثم كلاّ سيعلمون 5 ألم نجعل الأرض مهادا 6 والجبال أوتادا 7 وخلقناكم أزواجا 8 وجعلنا نومكم سباتا 9 وجعلنا الليل لباسا 10 وجعلنا النهار معاشا 11 وبنينا فوقكم سبعا شدادا 12 وجعلنا سراجا وهّاجا 13 وأنزلنا من المعصرات ماء ثجّاجا 14 لنخرج به حبّا ونباتا 15 وجنّات ألفافا 16 }
عن النبأ العظيم : عن القرآن أو البعث .
أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السحن البصري قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم ، فنزلت : عمّ يتساءلون* عن النّبأ العظيم .
1 ، 2 ، 3- عمّ يتساءلون* عن النّبأ العظيم* الذي هم فيه مختلفون .
عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء الناس ؟ إنهم يتساءلون عن الأمر العظيم الذي جاءهم ، وهو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من يصدّقه ، ومنهم من يقول : هو شاعر ، ومنهم من يقول : هو كاهن ، ومنهم من يقول : هو مفتر متقوّل على الله وليس برسول ، أو هم يتساءلون عن القرآن سؤال متعجب من سمو لفظه ، وبراعة تعبيره ، وقوة معانيه ، منهم من يصفه بالسّحر أو الشعر أو الكهانة ، أو هم يتساءلون عن البعث والحشر والحساب والجزاء والقيامة وما يتصل بها ، فمنهم من يظن ظنّا ، ومنهم من ينكر ، ومنهم من يستبعد وقوع البعث ، ومنهم من يقول : البعث للأرواح فقد أمّا الأجساد فتبلى وتصير رمادا ، ومن العسير بعث الحياة في الأجساد بعد تفتتها وبلاها .
وتفيد الآيات أن دويّا عظيما ونبأ جسيما وفكرا هامّا ، قد شغل مكة كلّها ، فهذا القرآن الكريم ، أو هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الإسلام ، أو أمر البعث وما بعده ، إنه أمر عظيم شغل هؤلاء الناس ، واختلفوا بشأنه .
ويجوز أن يكون المراد بالنبأ العظيم كل ما ذكر ، أي : القرآن ، والإسلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والبعث ، فكلها مما حملته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، واختلف أهل مكة بشأن هذه الرسالة اختلافا بيّنا ، فقد كان منهم من يرفض الإيمان بالبعث ، ويقول : ما هي إلا أرحام تدفع ، وقبور تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر .
وقد حكة القرآن قول المكذّبين برسولهم في قوله تعالى : أيعدكم أنكم إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون* هيهات هيهات لما توعدون* إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين . ( المؤمنون : 35-37 ) .
وكان من الكفار من يشك أو يظن صدق البعث بدون تيقن أو تأكّد .
قال تعالى : وإذا قيل إنوعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنّا وما نحن بمستيقنين . ( الجاثية : 32 ) .
لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذر المشركين بالبعث في اليوم الآخر للجزاء – استبعدوا ذلك ؛ فمنهم من جحده وعده من المحال وقال : " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " {[1]} . ومنهم من ارتاب فيه وقال : " ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين " {[2]} . وأخذوا يتساءلون فيما بينهم سؤال استهزاء وإنكار ، فأنزل الله تعالى تقريعا لهم ووعيدا : { عم يتساءلون }
{ عم يتساءلون } عن أي شيء يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا . أو يسائلون الرسول صلى الله لعيه وسلم والمؤمنين استهزاء . و " عم " أصلها : عن ما ؛ فأدغمت النون في ما الاستفهامية ، وحذفت ألفها للتخفيف . وفي الاستفهام وإبهام المستفهم عنه إشعار بفخامة أمره ، وتشويق للسامعين على معرفة شأنه ؛ فبينه الله تعالى بقوله : { عن النبأ العظيم }
{ عم } أصله : عن ما فأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما كقوله : فيم ، و بم ؟ { يتساءلون{ ، أي : عن أي شيء يتساءلون ، هؤلاء المشركون ؟ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال الزجاج : اللفظ لفظ استفهام ومعناه التفخيم ، كما تقول : أي شيء زيد ؟ إذا عظمت أمره وشأنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الدلالة على أن يوم القيامة-الذي كانوا مجمعين على نفيه، وصاروا بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف فيه مع المؤمنين- ثابت ثباتا لا يحتمل شكا ولا خلافا بوجه، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير، بنى لهم مسكنا وأتقنه، و جعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه، فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيده -وهو تام القدرة كامل السلطان- يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب، فكيف إذا كان حاكما فكيف إذا كان أحكم الحاكمين...
افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي لا يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان، فقال معجبا منهم غاية العجب زاجرا لهم ومنكرا عليهم ومتوعدا لهم ومفخما للأمر بصيغة الاستفهام منبها على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم، ولا يعرف محل نزاعهم، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاما بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلا يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الجزء كله -ومنه هذه السورة- ذو طابع غالب.. سوره مكية فيما عدا سورتي " البينة " و " النصر " وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة -على وجه التقريب- في موضوعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها، وأسلوبها العام.
إنها طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية. وصيحات. صيحات بنوم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد: اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. إن هنالك إلها. وإن هنالك تدبيرا. وإن هنالك تقديرا. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حسابا. وإن هنالك جزاء. وإن هنالك عذابا شديدا. ونعيما كبيرا.. اصحوا. استيقظوا. انظروا تلفتوا تفكروا تدبروا وهكذا مرة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزا عنيفا.. وهم كأنما يفتحون أعينهم ينظرون في خمار مرة، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزا عنيفا؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب.. وأحيانا يتيقظ النوام ليقولوا: في إصرار وعناد: لا.. ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء.. ثم يعودون لما كانوا فيه. فيعود إلى هزهم من جديد.
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء. وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد، عظيمة القدر، ثقيلة الوزن. وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب. وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس. وعلى أحداث معينة في يوم الفصل. وأرى تكرارها مع تنوعها. هذا التكرار الموحي بأمر وقصد!
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ: (فلينظر الإنسان إلى طعامه...).. (فلينظر الإنسان مم خلق؟...).. (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السماء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت؟).
وهو يقرأ: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها؟ رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعا لكم ولأنعامكم).. (ألم نجعل الأرض مهادا؟ والجبال أوتادا؟ وخلقناكم أزواجا؟ وجعلنا نومكم سباتا؟ وجعلنا الليل لباسا؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعا شدادا؟ وجعلنا سراجا وهاجا؟ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا؟ لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا؟)... (فلينظر الإنسان الي طعامه. أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم)..
وهو يقرأ (يا أيها الإنسان. ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك؟)..
(سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى. والذي أخرج المرعى. فجعله غثاء أحوى).. (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟)..
وهو يقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ (وإذا الصحف نشرت، وإذا السماء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس ما أحضرت).. (إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وأخرت).. (إذا السماء انشقت. وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت...) (إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها.. يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها)..
وهو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها: (فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس).. (فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق).. (والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر).. (والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها).. (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى).. (والضحى. والليل إذا سجى)..
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح. وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية. ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها.. واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. مع التقريع بها والتخويف والتحذير.. وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين. والأمثلة على هذا هي الجزء كله. ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم:
هذه السورة -سورة النبأ- كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد. ومثلها سورة " النازعات " وسورة " عبس " تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة.. وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة: (يوم يفر المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة). وسورة " التكوير " وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول. وسورة " الانفطار " كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم...) الخ " وسورة " الانشقاق " وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب.. وسورة " البروج " وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار. وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار. وهو أشد وأنكى..
وسورة " الطارق".. وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع: (إنه لقول فصل، وما هو بالهزل).. وسورة " الأعلى " وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وإخراج المرعى وأطواره تمهيدا للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء.. وسورة " الغاشية".. وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب. ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال.. وهكذا.. وهكذا.. إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان. كسورة الإخلاص. وسورة الكافرون. وسورة الماعون. وسورة العصر. وسورة القدر. وسورة النصر. أو تسري عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر، كسور الضحى. والانشراح. والكوثر. والفلق. والناس.. وهي سور قليلة على كل حال..
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات.. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: (فلا أقسم بالخنس، الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس) وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر: (فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق). أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري: (والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر). (والضحى. والليل إذا سجى). وفي خطابه الموحي للقلب البشري: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك..) وفي وصف الجنة: (وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية...) ووصف النار: وأما من خفت موازينه فأمه هاوية. وما أدراك ما هيه؟ نار حامية!.. والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس.
والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد، لتحقيق التنغيم المقصود، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب..
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير.
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته: (عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون!)..
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه: (ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا؟ وخلقناكم أزواجا؟ وجعلنا نومكم سباتا؟ وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعا شدادا؟ وجعلنا سراجا وهاجا؟ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا؟ لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا؟).
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون: (إن يوم الفصل كان ميقاتا. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا. وفتحت السماء فكانت أبوابا. وسيرت الجبال فكانت سرابا)..
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: (إن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا، لابثين فيها أحقابا، لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا. إلا حميما وغساقا. جزاء وفاقا. إنهم كانوا لا يرجون حسابا، وكذبوا بآياتنا كذابا، وكل شيء أحصيناه كتابا. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا)..
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا: (إن للمتقين مفازا: حدائق وأعنابا، وكواعب أترابا، وكأسا دهاقا، لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا. جزاء من ربك عطاء حسابا).
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل: (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا. يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا. ذلك اليوم الحق. فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا. إنا أنذرناكم عذابا قريبا. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا)..
ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة {سورة النبإ} لوقوع كلمة {النبأ} في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي صحيح البخاري وفي تفسير ابن عطية والكشاف {سورة عم يتساءلون}. وفي تفسير القرطبي سماها {سورة عم}، أي بدون زيادة {يتساءلون} تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى {سورة التساؤل} لوقوع {يتساءلون} في أولها. وتسمى {سورة المعصرات} لقوله تعالى فيها {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا}. فهذه خمسة أسماء. واقتصر الإتقان على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات...
وفي ما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عم يتساءلون}.
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} يعني الخبر العظيم...
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومع ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تمتاز أغلب السور القرآنية في الجزء الأخير من القرآن بأنّها نزلت في مكّة، وتؤكّد في مواضيعها على مسألة:
المبدأ، المعاد، البشارة والإنذار، وتتّبع أُسلوب الإثارة في الحديث، وتتعامل مع الأوتار الموقظة للضمير الإنساني، وتمتاز معظم آياتها بقصر العبارة المتضمنة لإشارات جمة، حيث تبث الحياة في الأجساد الخالية من الروح، وتنقلها من عالم الغفلة واللامبالاة إلى عالم الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على العواتق، وإلى البناء الجاد الملتزم للشخصية الإنسانية الحقة.
ومع كل ذلك.. فلآياتها عالماً خاصّاً مليء بالتفاعلات والحركية.
وسورة النبأ لا تشذُّ عن الإطار العام لطبيعة السور المكيّة، حيث تستهل السورة بسؤال يستوقف الإنسان، وتختتم بجملة زاخرة بالعبرة...
ويمكننا تلخيص محتوى السورة بما يلي:
السؤال عن «النبأ العظيم» وهو يوم القيامة كحدث بالغ الخطورة.
الاستدلال على أمكانية المعاد والقيامة، من خلال الاستدلال بمظاهر القدرة الإلهية في: السماء، الأرض، الحياة الإِنسانية والنعم الرّبانية.
تصوير جوانب من عذاب الطغاة الأليم.
التشويق للجنّة، بوصف أجوائها الفياضة بالنعم.
وتختم السورة بالإنذار الشديد من عذاب قريب، بالإضافة لتصوير حال الذين كفروا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء المشركون بالله ورسوله من قريش يا محمد؟
وقيل ذلك له صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا جعلت فيما ذُكر عنها تختصم وتتجادل، في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوّته، والتصديق بما جاء به من عند الله، والإيمان بالبعث، فقال الله لنبيه: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟ و «في» و «عن» في هذا الموضع بمعنى واحد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف في التساؤل: فمنهم من ذكر أن التساؤل كان عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سألوا عن حاله: أهو نبي أم ليس بنبي؟ ومنهم من ذكر أن التساؤل كان عن القرآن أنه من الله تعالى؟ ويتساءلون في ما بينهم: هل تقدرون على إتيان مثله أم لا؟ وجائز أن يكون التساؤل عن أمر البعث وعن التوحيد كما قال الله تعالى خبرا عنهم: {أجعل الآلهة إلها واحدا}؟ [ص: 5]. ثم جائز أن يكون هذا السؤال من أهل الكفر؛ سأل بعضهم بعضا، واختلفوا فيه، ولم يحصلوا من اختلافهم على إصابة الحق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{عَمَّ} أصله عما، على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية...
والاستعمال الكثير على الحذف، والأصل: قليل ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم الشأن، كأنه قال عن أي شأن يتساءلون... {يَتَسَآءَلُونَ} يسأل بعضهم بعضاً. أو يتساءلون غيرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نحو: يتداعونهم ويتراءونهم. والضمير لأهل مكة: كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث، ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عمَّ} أي عن أي شيء -خفف لفظاً وكناية بالإدغام، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف {يتساءلون} أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم- إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته -مطلق سؤال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون).. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل، ولا يكادون يتصورون وقوعه، وهو أولى شيء بأن يكون!
(عم يتساءلون؟).. وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب. فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم. إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم، افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الإِجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن.
وإذ كان هذا الافتتاح مؤذناً بعظيم أمر كان مؤذناً بالتصدي لقول فصلٍ فيه، ولمّا كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضُهم يومئذ يُجعل افتتاحَ الكلام به من براعة الاستهلال...
والتساؤل: تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل، وتَرد كثيراً لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم: سَاءَلَ، بمعنى: سأل...
وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم: عافاك الله، وذلك إما كناية أو مجاز، ومَحملهُ في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه.
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضاً سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإِنكار.
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل (يحذر) في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة} [التوبة: 64] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء.
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يُرجَّحُ كلُّ فريق ما ذهب إليه. والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب، فعن ابن عباس: « لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب».
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس، وقيل: هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب.
فأما التساؤل الحقيقي فأنْ يَسْأَل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤولُ سائله سؤالاً عن حال آخرَ من أحوال النبأ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غيرُ الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت، أو سؤال كشف عن معتقَده، أو ما يُوصَف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض: {أفْتَرى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ: 8] وقال بعض آخر: {أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمُخرَجون} إلى قوله: {إنْ هذا إلا أساطير الأولين} [النمل: 67، 68].
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضاً عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم: هل بلغك خبر البعث؟ ويقول له الآخر: هل سمعتَ ما قال؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدُهم منه غير حقيقي بل تهكمي.
والاستفهام بما في قوله: {عم يتساءلون} ليس استفهاماً حقيقياً بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزّل الشياطين} [الشعراء: 221].
والموجَّه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين.
وضمير {يتساءلون} يجوز أن يكون ضميرَ جماعة الغائبين مراداً به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره، وإشاراته المبهمة، كالضمير في قوله تعالى: {حتى توارتْ بالحجاب} [ص: 32] (يعني الشمس) {كلا إذا بلغتْ التراقيَ} [القيامة: 26] (يعني الروح)، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضميرُ جماعة المخاطبين.
سورة عم يتساءلون{[1]} وتسمى سورة النبأ
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة-الذي{[2]} كانوا مجمعين على نفيه ، وصاروا بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف فيه مع المؤمنين- ثابت ثباتا لا يحتمل{[3]} شكا ولا خلافا بوجه ، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير ، بنى لهم مسكنا وأتقنه ، و{[4]} جعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه ، فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض ، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم ، والحكيم لا يترك عبيده{[5]}- وهو تام القدرة كامل السلطان- يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب ، فكيف إذا كان حاكما فكيف إذا كان أحكم الحاكمين ، هذا ما لا يجوز في عقل{[6]} ولا يخطر ببال أصلا ، فالعلم {[7]}واقع به{[8]} قطعا ، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره [ و-{[9]} ] غايته { بسم الله } الحكيم العليم{[10]}الذي{[11]} له جميع صفات الكمال ( الرحمن ) الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد و{[12]} الجاه والمال{[13]} ، وبيان الطريق الأقوم بالعقل الهادي والإنزال والإرسال { الرحيم* } الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم{[14]} فوفقهم لمحاسن{[15]} الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر ، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء ، افتتح هذه بأن{[16]} ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول{[17]} في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي لا يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان ، فقال معجبا منهم غاية العجب زاجرا لهم ومنكرا عليهم ومتوعدا لهم ومفخما للأمر بصيغة الاستفهام منبها على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم ، ولا يعرف محل نزاعهم ، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاما بأن ما يختلفون فيه{[18]} لوضوحه لا يصدق أن عاقلا يخالف أمره{[19]} فيه وأنه لا ينبغي التساؤل [ إلا- ]{[20]} عما هو خفي فقال :
{ عمَّ } أي عن أي شيء - خفف لفظاً وكناية بالإدغام ، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف ، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف { يتساءلون * } أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم ، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم{[71035]} وعنادهم - إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته - مطلق سؤال .