هذا هو الجزء الأخير من القرآن الكريم ، ويتميز بقصر الآيات ، وقصر السور ، وروعة الأسلوب ، وجمال القافية ، ليستلفت الأنظار إلى قدرة الخالق ، وآثار الله في الآفاق .
وكأن هذا الجزء دعوة متكررة لقوم نيام ، أو صيحة عارمة لسكارى غارقين في اللهو ، يفيقون حينا ثم يهيمون في ضلالهم حينا آخر ، والسور توالى تنبيههم ، وتناديهم : أن أفيقوا وتنبهوا قبل فوات الأوان .
" وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان ، والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان ، وعلى مشاهد هذا الكون ، وآيات الله في كتابه المفتوح ، وعلى مشاهد القيامة العنيفة ، الطامة الصاخة القارعة الغاشية ، ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب ، في صور تقرع وتذهل وتزلزل ، كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها ، واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير ، والنشأة الآخرى وموازينها الحاسمة ، مع التقريع بها والتخويف والتحذير ، وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين " i .
والأمثلة على هذا هي الجزء كله ، ومنه هذه السورة ( سورة النبأ ) ، وهي نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد ، ومثلها سورة النازعات ، وسورة الانشقاق التي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ، ومشاهد النعيم والعذاب ، وسورة الطارق ، وسورة الغاشية .
( سورة النبأ مكية ، وآياتها 40 آية ، نزلت بعد سورة المعارج ) .
سورة النبأ نموذج لاتجاه هذا الجزء ، بموضوعاته وحقائقه ، وصوره ومشاهده .
وهي تبدأ بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام ، وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ولا شبهة ، ويعقب على ذلك بتهديدهم بيوم يعلمون حقيقته . ( الآيات 1-5 ) .
ثم يلفت السياق الأنظار إلى عدد من المشاهد والحقائق ، تتمثل في خلق الأرض ، وإرساء الجبال ، وخلق الذكر والأنثى للتناسل والتكاثر وإشباع الرغبة والحاجة في كل طرف إلى الآخر ، وخلق الليل سكنا ، والنوم راحة وأمنا ، والنهار سعيا ومعاشا ، وخلق السماء والشمس ، وإنزال المطر ، وإنبات النبات والبساتين . ( الآيات 6-16 ) .
ثم يعود إلى مشهد القيامة والبعث ( الآيات 17 -20 ) ويصف جهنم وأهوالها وعذابها ، وجحود أهلها وتكذيبهم بآيات الله . ( الآيات 21 -30 ) .
ثم يصف نعيم المتقين في الجنة وصنوف التكريم الحسي والمعنوي . ( الآيات 31-32 ) .
وتختم السورة بمشهد جليل في يوم القيامة ، يوم تصفّ الملائكة صفّا ، ويشتد الهول ، ويلقى كل إنسان جزاء عمله . ( الآيات 37-40 ) .
كان المشركون كما اجتمعوا في ناد من أنديتهم أخذوا يتحدثون ويسأل بعضهم بعضا ، ويسألون غيرهم فيقولون : أساحر هو أم شاعر ، أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء ؟ ويتحدثون في شأن القرآن أهو سحر أم شعر أم كهانة ؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه ، والرسول سائر قدما في تبليغ رسالته ، وأمامه مصباحه المنير الذي يضيء للناس سبيل الرشاد وهو الكتاب الكريم ، كما كانوا يتحدثون في شأن البعث ، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ ، فمنهم من ينكره البتة ويزعم أنه إذا مات انتهى أمره ، وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع : وما يهلكنا إلا الدهر . . . ( الجاثية : 24 ) .
ومنهم من كان يزعم أن البعث للأرواح دون الأجساد ، لأن الأجساد تأكلها الأرض وتعبث بها يد البلى ، وربما لقي أحدهم بعض من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية .
وفي هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة ، ردّا عليهم ، وإقامة للحجة على أن الله قادر على أن يبعثهم بعد موتهم ، وإن صاروا ترابا أو أكلتهم السباع أو أحرقتهم النيران ، لأن الله أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما .
1-3- عن أي شيء يتساءل مشركو مكة ؟ يتساءلون عن الخبر العظيم الشأن ، وهو البعث أو نزول الوحي على النبي صلى الأمين صلى الله عليه وسلم ، الخبر الذي اختلفوا فيه ، فمن قائل إنه مستحيل ، ومن شاك فيه متردد يقول : ما ندري ما الساعة إن نظنّ إلا ظنّا وما نحن بمستيقنين . ( الجاثية : 32 ) .
4 ، 5- ترد الآيتان على تساؤلهم وشكهم بالتهديد الملفوف ، وهو أوقع من الجواب المباشر وأعمق في التأثير ، وتقول : فليزدجروا عما هم فيه ، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال ، إذا حل بهم العذاب والنكال ، وأن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا شك فيه ، ولا ريب في وقوعه .
6-16- تنتقل الآيات من موضوع النبأ العظيم ، لتعرض أمام الأبصار والبصائر مظاهر القدرة الإلهية في خلق هذا الكون ، فتذكر تسعة مشاهد ، يشاهدونها بأعينهم ، ولا يخفى عليهم شيء منها :
1- انبساط الأرض وتمهيدها لتحصيل المعاش ، وإثراء الحياة .
2- سمو الجبال لتثبيت الأرض وحفظ التوازن .
3- خلق الناس ذكورا وإناثا ، ليتم الائتناس والتعاون ويعم النفع .
4- جعل النوم راحة للأجسام ، وسكنا للأرواح ، وانقطاعا عن الإدراك والنشاط .
5- جعل الليل لباسا وساترا ، يتم فيه السبات والانزواء .
6- جعل النهار معاشا ، تتم فيه الحركة والنشاط .
7- ارتفاع السماوات فوقنا ، مع إحكام الوضع ودقة الصنع ، وقوة البناء وشدته وتماسكه .
8- وجود الشمس المنيرة المتوهجة ، تسكب الأشعة والضوء والحرارة .
9- نزول المطر وما ينشأ عنه من الحبّ والنبات ، والجنات الألفاف ، الكثيفة ، الكثيرة الأشجار الملتفة الإغصان .
وتوالى هذه الحقائق والمشاهد على هذا النظام البديع ، والتقدير المحكم ، يوحي بأن وراء هذا الكون قوة تدبره ، وحكمة تنظمه ، وتشعر بالخالق الحكيم القدير ، الذي أبدع كل شيء خلقه ، فتبارك الله أحسن الخالقين .
17-20- إن الناس لم يخلقوا عبثا ، ولن يتركوا سدى ، والذي قدّر حياتهم ذلك التقدير المحكم ، الذي يشي به المقطع الماضي في السياق قد جعل لهم يوما مؤقتا للفصل والقضاء بينهم ، في ذلك اليوم ينفخ إسرافيل في البوق ، فيأتي الناس جميعا مسرعين ، جماعات جماعات ، والسماء المبنية المتينة فتحت ، وانشقت وتصدعت على هيئة لا عهد لنا بها ، فكانت طرقا وأبوابا ، والجبال الراسية الثابتة تصبح هباء مثارا في الهواء ، ومن ثم فلا وجود لها ، كالسراب الذي ليس له حقيقة .
21- 30- تمضي الآيات خطوة وراء النفخ والحشر ، فتصور مصير الطغاة وتذكر ما يأتي :
إن جهنم خلقت ووجدت مكانا مترصدا للطاغين ، ينتظر حضورهم ، ويترقب وصولهم ، إن جهنم مرجع الطغاة ومكان إيابهم وعودتهم .
روى ابن جرير ، عن الحسن أنه قال : لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار ، فإن كان معه جواز نجا ، وإلا احتبس .
وسيمكث الطغاة في النار دهورا متلاحقة ، يتبع بعضها بعضا ، فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر ، إنهم لن يذوقوا في جهنم إلا الحميم وهو الماء المغلي ، والغشاق وهو الصديد الذي يسيل من جراح أهل النار ، جزاء وفاقا . ( النبأ : 26 ) .
قال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار .
إنهم كانوا لا يتوقعون الحساب ، وكذّبوا بجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد ، وبجميع ما جاء في القرآن ، بينما كان الله يحصى عليهم كل شيء ، إحصاء دقيقا لا يفلت منه شيء ، وسجلّ أعمالهم في اللوح المحفوظ ، أو كتبها في صحف أعمالهم : أحصاه الله ونسوه . . . ( المجادلة : 6 ) . ويقال لهم على ألسنة خزنة جهنم من باب التأنيب الميئس من كل رجاء : ذوقوا أشد العذاب بما كسبت أيديهم ، ولن نزيدكم إلا عذابا من جنسه .
31-36- تعرض الآيات المشهد المقابل ، مشهد الأتقياء في النعيم ، بعد مشهد الطغاة في الجحيم ، إن الأتقياء يفوزون بالنعيم ، والثواب ، ومن مظاهره تلك الحدائق الكثيرة والبساتين والأعناب وكواعب . وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت أثدائهن ، أترابا . متوافقات السن والجمال ، وكأسا دهاقا . مترعة بالشراب ، ولا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام ، ولا يكذب بعضهم بعضا ، وهذه النعم جزاء من الله على أعمالهم ، وهي عطاء وتفضل من الله على حسب أعمالهم ، وفي الحديث الشريف : ( إنكم تدخلون الجنة بفضل الله ، وتقتسمونها بحسب أعمالكم ) .
37-40- هذا الجزاء السابق للطغاة وللتقاة ، من مالك السماوات والأرض ، والمدبّر لشئونهما ، والمالك لما بينهما من عوالم ، وهو الرحمان ، ومن رحمته يكون الجزاء العادل المناسب للأشرار وللأخيار ، ومع الرحمة الجلال ، فلا يملك أحد مخاطبته في ذلك اليوم المهيب .
يوم يقف جبريل والملائكة جميعا مصطفين لا يتكلمون ، إجلالا لربهم ، ووقوفا عند أقدارهم ، إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا صدقا وصوابا .
ذلك اليوم هو الحق الموعود به ، فلا مجال للتساؤل والاختلاف في شأنه ، والفرصة لا تزال سانحة ، فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه ، ويدنيه من ثوابه ، إنا نحذركم عذاب يوم القيامة ، وهو قريب ليس بالبعيد ، فجهنم تنتظركم ، وتترصد لكم على النحو الذي سمعتم ، والدنيا كلها رحلة قصيرة ، وكل آت قريب .
وفي ذلك اليوم يجد الإنسان جزاء عمله ، ولقاء ما صنعه في الدنيا من الأعمال ، فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره . ( الزلزلة : 7 ، 8 ) . في ذلك اليوم يشعر الكافر بالندم والحسرة ، فيقول : يا ليتني كنت ترابا أو حجرا لا يجري عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب .
اشتملت سورة النبأ على الموضوعات الآتية :
1- سؤال المشركين عن البعث ، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
2- تهديد المشركين على إنكارهم إياه .
3- إقامة الأدلة على إمكان حصوله .
5- ما يلاقيه المكذبون من العذاب .
{ عمّ يتساءلون 1 عن النّبأ العظيم 2 الذي هم فيه مختلفون 3 كلاّ سيعلمون 4 ثم كلاّ سيعلمون 5 ألم نجعل الأرض مهادا 6 والجبال أوتادا 7 وخلقناكم أزواجا 8 وجعلنا نومكم سباتا 9 وجعلنا الليل لباسا 10 وجعلنا النهار معاشا 11 وبنينا فوقكم سبعا شدادا 12 وجعلنا سراجا وهّاجا 13 وأنزلنا من المعصرات ماء ثجّاجا 14 لنخرج به حبّا ونباتا 15 وجنّات ألفافا 16 }
عن النبأ العظيم : عن القرآن أو البعث .
أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السحن البصري قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم ، فنزلت : عمّ يتساءلون* عن النّبأ العظيم .
1 ، 2 ، 3- عمّ يتساءلون* عن النّبأ العظيم* الذي هم فيه مختلفون .
عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء الناس ؟ إنهم يتساءلون عن الأمر العظيم الذي جاءهم ، وهو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من يصدّقه ، ومنهم من يقول : هو شاعر ، ومنهم من يقول : هو كاهن ، ومنهم من يقول : هو مفتر متقوّل على الله وليس برسول ، أو هم يتساءلون عن القرآن سؤال متعجب من سمو لفظه ، وبراعة تعبيره ، وقوة معانيه ، منهم من يصفه بالسّحر أو الشعر أو الكهانة ، أو هم يتساءلون عن البعث والحشر والحساب والجزاء والقيامة وما يتصل بها ، فمنهم من يظن ظنّا ، ومنهم من ينكر ، ومنهم من يستبعد وقوع البعث ، ومنهم من يقول : البعث للأرواح فقد أمّا الأجساد فتبلى وتصير رمادا ، ومن العسير بعث الحياة في الأجساد بعد تفتتها وبلاها .
وتفيد الآيات أن دويّا عظيما ونبأ جسيما وفكرا هامّا ، قد شغل مكة كلّها ، فهذا القرآن الكريم ، أو هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الإسلام ، أو أمر البعث وما بعده ، إنه أمر عظيم شغل هؤلاء الناس ، واختلفوا بشأنه .
ويجوز أن يكون المراد بالنبأ العظيم كل ما ذكر ، أي : القرآن ، والإسلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والبعث ، فكلها مما حملته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، واختلف أهل مكة بشأن هذه الرسالة اختلافا بيّنا ، فقد كان منهم من يرفض الإيمان بالبعث ، ويقول : ما هي إلا أرحام تدفع ، وقبور تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر .
وقد حكة القرآن قول المكذّبين برسولهم في قوله تعالى : أيعدكم أنكم إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون* هيهات هيهات لما توعدون* إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين . ( المؤمنون : 35-37 ) .
وكان من الكفار من يشك أو يظن صدق البعث بدون تيقن أو تأكّد .
قال تعالى : وإذا قيل إنوعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنّا وما نحن بمستيقنين . ( الجاثية : 32 ) .
لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذر المشركين بالبعث في اليوم الآخر للجزاء – استبعدوا ذلك ؛ فمنهم من جحده وعده من المحال وقال : " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " {[1]} . ومنهم من ارتاب فيه وقال : " ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين " {[2]} . وأخذوا يتساءلون فيما بينهم سؤال استهزاء وإنكار ، فأنزل الله تعالى تقريعا لهم ووعيدا : { عم يتساءلون }
{ عم يتساءلون } عن أي شيء يسأل هؤلاء الجاحدون بعضهم بعضا . أو يسائلون الرسول صلى الله لعيه وسلم والمؤمنين استهزاء . و " عم " أصلها : عن ما ؛ فأدغمت النون في ما الاستفهامية ، وحذفت ألفها للتخفيف . وفي الاستفهام وإبهام المستفهم عنه إشعار بفخامة أمره ، وتشويق للسامعين على معرفة شأنه ؛ فبينه الله تعالى بقوله : { عن النبأ العظيم }
سورة النبأ مكية وآياتها أربعون ، نزلت بعد سورة المعارج . وهذا الجزء هو الثلاثون من أجزاء القرآن الكريم وهو آخرها ، ويحتوي على سبع وثلاثين سورة كلها مكية ما عدا ثلاث سور هي : البيّنة والزلزلة والنصر . وهو كسائر السور المكية ، ولكنه يمتاز بسوره القصيرة ، وطابعها الخاص الذي يجعلها وحدة على وجه التقريب : في موضوعها واتجاهها وإيقاعها وأسلوبها العام . ويكاد يحس القارئ وهو يقرأ : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } . { فلينظر الإنسان ممّ خلق } { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ؟ وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت } إلخ . . يكاد يحس ويلمس هذا التذكير بالأنفس والآفاق وهذا الكون العجيب ويتّعظ به ويملأ نفسه وقلبه .
وتعرض سورة النبأ سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وتهديد المشركين على إنكارهم لوحدانية الله ورسالات المرسلين . ثم تتحدث عن أحداث يوم القيامة ، وما يلاقيه المكذبون من العذاب ، وفوز المتقين بجنات النعيم ، في ذلك اليوم الذي هو حق لا ريب فيه ، حيث يتمنى الكافرون لو كانوا ترابا . وفي السورة الكريمة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه ومشاهده وصوره وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة . وأن اختيار الألفاظ والعبارات لَيوقع أثرا كبيرا في الحس والنفس والضمير .
عم ، أصلها عن ما : عن أي شيء يتساءلون .
كان الناس في مكة وغيرها في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يسأل بعضُهم بعضا عن رسالة النبي ، ويسألون غيرهم ممن عنده عِلم فيقولون : هل هو رسول من عند الله ؟ وما هذا الخبر الذي جاء به ويدعي أنه مرسَل من قِبل الله ، ويدعو إلى توحيده وإلى الاعتقاد بالبعث واليوم الآخر ؟ وكان هذا شيئا جديدا عليهم ، فردّ الله عليهم بقوله تعالى :
{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }
{ عم } أصله : عن ما فأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما كقوله : فيم ، و بم ؟ { يتساءلون{ ، أي : عن أي شيء يتساءلون ، هؤلاء المشركون ؟ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت ، وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون : ماذا جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال الزجاج : اللفظ لفظ استفهام ومعناه التفخيم ، كما تقول : أي شيء زيد ؟ إذا عظمت أمره وشأنه .
سورة عم يتساءلون{[1]} وتسمى سورة النبأ
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة-الذي{[2]} كانوا مجمعين على نفيه ، وصاروا بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في خلاف فيه مع المؤمنين- ثابت ثباتا لا يحتمل{[3]} شكا ولا خلافا بوجه ، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير ، بنى لهم مسكنا وأتقنه ، و{[4]} جعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه ، فكان ذلك أشد لألفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض ، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم ، والحكيم لا يترك عبيده{[5]}- وهو تام القدرة كامل السلطان- يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب ، فكيف إذا كان حاكما فكيف إذا كان أحكم الحاكمين ، هذا ما لا يجوز في عقل{[6]} ولا يخطر ببال أصلا ، فالعلم {[7]}واقع به{[8]} قطعا ، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره [ و-{[9]} ] غايته { بسم الله } الحكيم العليم{[10]}الذي{[11]} له جميع صفات الكمال ( الرحمن ) الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة : الإيجاد و{[12]} الجاه والمال{[13]} ، وبيان الطريق الأقوم بالعقل الهادي والإنزال والإرسال { الرحيم* } الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم{[14]} فوفقهم لمحاسن{[15]} الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر ، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء ، افتتح هذه بأن{[16]} ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول{[17]} في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي لا يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان ، فقال معجبا منهم غاية العجب زاجرا لهم ومنكرا عليهم ومتوعدا لهم ومفخما للأمر بصيغة الاستفهام منبها على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم ، ولا يعرف محل نزاعهم ، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتى العالم به إعلاما بأن ما يختلفون فيه{[18]} لوضوحه لا يصدق أن عاقلا يخالف أمره{[19]} فيه وأنه لا ينبغي التساؤل [ إلا- ]{[20]} عما هو خفي فقال :
{ عمَّ } أي عن أي شيء - خفف لفظاً وكناية بالإدغام ، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف ، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف { يتساءلون * } أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم ، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم{[71035]} وعنادهم - إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته - مطلق سؤال .