ليعبدون : ليخضعوا لي وليتذلَّلوا ، أو ليعرفوني .
56- { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } .
لم أخلق الناس لأستكثر بهم من قلة ، ولا لأستأنس بهم من وحشة ، وإنما خلقتهم ليذكروني كثيرا ، ويعبدوني طويلا ، وعبادة الجن والإنس لله لا تنفعه سبحانه ، ومعصيتهم لا تضرّه . لكن العباد في حاجة إلى طاعتهم لتهدأ نفوسهم ، وتطمئن قلوبهم ، وتقوى ثقتهم بأنفسهم ، فالعبادة والطاعة وسيلة إلى مرضاة الله ، واستجلاب فضله ومعونته وبركته ، والعبادة حقّ لله على عباده ، والعبادة تحمي الإنسان من الإحباط والتردد والخوف ، وتمنحه زادا من التقوى والهدوء ، والأمان ونقاء الروح ، وسلامة السريرة .
وفي الحديث الشريف : " إن النور إذا دخل القلب اتسع له الصدر وانشرح " ، قيل : يا رسول الله ، هل لذلك من علامة ؟ قال : " نعم ، التجافي عن دار الغرور ، والإنابةُ إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه13 . . . ( الزمر : 22 ) .
ويقول الله سبحانه وتعالى : { يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } . ( فاطر : 15 ) .
وقال ابن جريج ومجاهد : إلاَّ ليعبدون . إلا ليعرفوني أه .
فإن المؤمن إذا داوم على عبادة ربه ، والتذلل إليه ، وتلاوة القرآن ، وذكر الرحمان والتهجُّد ، والاستغفار بالأسحار ، والمواظبة على صلاة الفجر ، وتلاوة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء ، فإن ذلك يزيده توفيقا وفضلا وقربا من الله ، ومعرفة به وحبّا له ، وهذا إشارة إلى ما صحّحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه : " كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأُعرف " 14 .
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي لم أخلق الثقلين إلا مهيئين لعبادتي بما ركبت فيهم من العقول والحواس والقوى ؛ فهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها ، فذكرهم بوجودي وتوحيدي وعبادتي . فمن جرى على موجب استعداده وفطرته آمن بي وعبدني وحدي . ومن عاند استعداده وفطرته واتبع هواه ، سلك غير سبيل المؤمنين . وفي جعل الخلق مغيا بالعبادة مبالغة ؛ بتنزيل استعدادهم للعبادة منزلة العبادة نفسها . أو أنه تعالى ما خلقهم إلا لغاية كمالية وهي عبادته ؛ وتخلف بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كونها غاية كمالية للخلق . وقيل : المراد بالجن والإنس : المؤمنون ؛ واللام للغاية
{ 56-58 } { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }
هذه الغاية ، التي خلق الله الجن والإنس لها ، وبعث جميع الرسل يدعون إليها ، وهي عبادته ، المتضمنة لمعرفته ومحبته ، والإنابة إليه والإقبال عليه ، والإعراض عما سواه ، وذلك يتضمن{[866]} معرفة الله تعالى ، فإن تمام العبادة ، متوقف على المعرفة بالله ، بل كلما ازداد العبد معرفة لربه ، كانت عبادته أكمل ، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله ، فما خلقهم لحاجة منه إليهم .
قوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قال الكلبي والضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين ، يدل عليه قراءة ابن عباس : { وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون }( الاعراف-179 ) ، ثم قال في آية أخرى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس } . وقال بعضهم : وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي ، وهذا معنى قول زيد بن أسلم ، قال : هم على ما عليه من الشقاوة والسعادة . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { إلا ليعبدون } أي : إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي ، يؤيده قوله عز وجل : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً }( التوبة-31 ) . وقال مجاهد : إلا ليعرفوني . وهذا حسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده ، دليله : قوله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله }( الزخرف-87 ) . وقيل : معناه إلا ليخضعوا إلي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة : التذلل والانقياد ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، متذلل للمشيئة لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق عليه قدر ذرة من نفع ولا ضر . وقيل : ( إلا ليعبدون ) إلا ليوحدون ، فأما المؤمن فيجده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيجده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، بيانه قوله عز وجل : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } ( العنكبوت-65 ) .
ولما كان هذا ربما أوهم أن سواهم غير مقدور عليهم ، قال مؤكداً بالحصر دالاًّ على أنه هو الذي قسم الناس إلى طاغين ومؤمنين بالعطف على ما تقديره : فما حكم عليهم بذلك الضلال والهدى غيري ، وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لاستخلاص المؤمنين وإقامة الحجة على الضالين : { وما خلقت الجن والإنس } الذين أكثرهم كافرون{[61460]} { إلا ليعبدون * } أي لينجروا تحت أقضيتي على وجه ينفعون به أنفسهم أو يضرونها لا لشيء يلحقني أنا منه شيء من نفع أو ضرر ، فإني بنيتهم على العجز وأودعتهم نوازع الهوى ، وركبت فيهم غرائز فهيأتهم لاتباع الهدى ، فمن أطاع عقله كان عابداً لي فارّاً إليّ مع جريه تحت الإرادة ، عبادة شرعية أمرية يستفيد بها الثواب{[61461]} ، ومن أطاع الهوى كان عابداً لي مع مخالفته أمري عبادة إرادية قسرية يستحق بها العقاب ، وكل تابع لهواه{[61462]} إذا حقق{[61463]} النظر علم أن الخير في غير ما هو مرتكبه ، فما ألزمه ما{[61464]} هو فيه مع علمه بأن غيره خير منه إلا قهر إرادتي ، فهذه عبادة لغوية ، وذاك عبادة شرعية ، وقد مر في آخر هود ما ينفع هنا ، وهذا كله معنى قول ابن عباس{[61465]} : إلا ليقروا لي بالعبادة طوعاً وكرهاً .