{ سأل سائل بعذاب واقع 1 للكافرين ليس له دافع 2 من الله ذي المعارج 3 تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 4 فاصبر صبرا جميلا 5 إنهم يرونه بعيدا 6 ونراه قريبا 7 يوم تكون السماء كالمهل 8 وتكون الجبال كالعهن 9 ولا يسأل حميم حميما 10 يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه 11 وصاحبته وأخيه 12 وفصيلته التي تؤويه 13 ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه 14 كلاّ إنها لظى 15 نزّاعة للشوى 16 تدعوا من أدبر وتولّى 17 وجمع فأوعى 18* }
ليس له دافع : إنه واقع لا محالة ، ونازل وحاصل ، لا مانع يردّه .
المعارج : واحدها معرج وهو المصعد ( أسانسير ) ، أي صاحب المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة من سماء إلى سماء .
1 ، 2 ، 3 ، 4- سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع* من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
دعا داع ، وطلب كافر من كفار مكة لنفسه ولقومه نزول عذاب واقع لا محالة ، والسائل هو النضر ابن الحارث ، من صناديد قريش وطواغيتها ، لما خوّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب قال استهزاء : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . ( الأنفال : 32 ) .
فأهلكه الله يوم بدر ، ومات شرّ ميتة ، ونزلت الآية بذمّه ، وهذا العذاب نازل بالكافرين لا محالة ، لا يستطيع أحد أن يدفعه أو يمنعه ، لأنه من الله الغالب ، ولا يغلب الله غالب .
هذا العذاب نازل وصادر من الله تعالى ، صاحب المصاعد التي تصعد منها الملائكة وتنزل بأمره ووحيه .
تعرج الملائكة والروح إليه . . .
تصعد الملائكة وجبريل الأمين من سماء إلى سماء ، إلى عرش الرحمان ، حيث تهبط أوامره سبحانه وتعالى ، ويد القدرة تمسك بزمام هذا الكون ، وترفع السماء ، وتبسط الأرض ، وتسخّر السحاب والفضاء ، وتيسّر مصاعد الملائكة إليه ومعها أعمال العباد .
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة العصر وفي صلاة الفجر ، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ( الإسراء : 78 ) . فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربّهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : يا ربنا ، تركناهم وهم يصلّون ، وأتيناهم وهم يصلّون ، فاغفر لهم يوم الدّين )iv .
والملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
أي : ذلك العذاب واقع لهؤلاء الكفار في يوم طويل ، يمتد إلى خمسين ألف سنة .
قال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .
والجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون . ( السجدة : 5 ) .
أن القيامة مواقف ومواطن ، فيها خمسون موطنا ، كل موطن ألف سنة ( وأن هذه المدة الطويلة تخفّ على المؤمن حتى تكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا )v .
قوله تعالى : " تعرج الملائكة والروح " أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم . وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي " يعرج " بالياء على إرادة الجمع ، ولقوله : اذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم . وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة . " والروح " جبريل عليه السلام ، قاله ابن عباس . دليله قوله تعالى : " نزل به الروح الأمين{[15337]} " [ الشعراء : 193 ] . وقيل : هو ملك آخر عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس . قال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين يقبض .
" إليه " أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ؛ لأنها محل بره وكرامته . وقيل : هو كقول إبراهيم " إني ذاهب إلى ربي{[15338]} " [ الصافات : 99 ] . أي إلى الموضع الذي أمرني به . وقيل : " إليه " أي إلى عرشه . " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " قال وهب والكلبي ومحمد بن إسحاق : أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة . وقال وهب أيضا : ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة . وهو قول مجاهد . وجمع بين هذه الآية وبين قوله : " في يوم كان مقداره ألف سنة " في سورة السجدة{[15339]} ، فقال : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة . وقوله تعالى في ( آلم تنزيل ) : " في يوم كان مقداره ألف سنة " [ السجدة : 5 ] يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام . وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة : هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة . لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل . وقيل : المراد يوم القيامة ، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة ، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب . يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة . وقال الحسن : هو يوم القيامة ، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين . وقال يمان : هو يوم القيامة ، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة . وقال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .
قلت : وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله ، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " . فقلت : ما أطول هذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ) . واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من رجل لم يؤد زكاة ماله إلا جُعِلَ شجاعاً{[15340]} من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس ) . قال : فهذا يدل على أنه يوم القيامة . وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين ) . ذكره الماوردي . وقيل : بل يكون الفراغ لنصف يوم ، كقوله تعالى : " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا{[15341]} " [ الفرقان : 24 ] . وهذا على قدر فهم الخلائق ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن . وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة ، قال الله تعالى : " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة{[15342]} " [ لقمان : 28 ] . وعن ابن عباس أيضا أنه سماها هذه الآية وعن قوله تعالى : " في يوم كان مقداره ألف سنة " [ السجدة : 5 ] فقال : أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون ، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم . وقيل : معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل ، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف ، وما يلقى الناس فيه من الشدائد . والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر ، قال الشاعر :
ويومٍ كظلِّ الرُّمْحِ قَصَّر طولَه *** دمُ الزِّقِّ عنَّا واصْطِفَاقُ المَزَاهِرِ{[15343]}
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه . وهذا القول هو معنى ما اخترناه ، والموفق الإله .
ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله : { تعرج الملائكة } أي وهم أشد الخلق وأقدره{[68275]} على اختراق الطباق ، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق{[68276]} الخفاق { والروح } أي جبريل عليه السلام ، خصه{[68277]} تعظيماً له ، أو هو خلق هو أعظم من{[68278]} الملائكة ، وقيل : روح العبد المؤمن إذا قبض { إليه } أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته ، وعلق بالعروج{[68279]} أو بواقع قوله : { في يوم } أي من أيامكم ، وبين عظمته بقوله ( كان ) أي كونا هو في غاية الثبات ( مقداره ) أي لو كان الصاعد فيه آدمياً { خمسين ألف } وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال : { سنة * } ولم يقل : عاماً - مثلاً ، ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة ، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه{[68280]} ورد أنه يخفف على المؤمن حتى يكون بمقدار صلاة واحدة - انتهى .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما{[68281]} أن المعنى أنه{[68282]} لو ولي الحساب غير الله لم يفرغ منه إلا في هذا المقدار ، ويفرغ منه هو سبحانه في نصف يوم من أيام الدنيا ، وقال مجاهد والحكم وعكرمة : هو عمر الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلا الله ، وقد مضى في سورة { ألم السجدة } ما ينفع ههنا .
قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه } والروح هو جبريل ( عليه السلام ) وهو الوحي الأمين . فهو والملائكة جميعا يصعدون المعارج وهي الدرجات جعلها الله لهم ليصعدوا فيها إلى حيث يأمرهم الله { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } يعني تصعد الملائكة وجبريل بأمر الله من منتهى الأرض إلى السماء السابعة في يوم كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة .