الأحزاب : الجماعات الذين تحزبوا على الرسل في كل أمة .
ليدحضوا به الحق : ليبطلوه ويزيلوه .
5- { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } .
لقد وقف قوم نوح في وجه دعوته زمانا طويلا : { قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } . ( هود : 32 ) .
وكذلك كذبت الأحزاب الذين تحزبوا على رسلهم ، مثل عاد وثمود وفرعون ، وحاولت كل دولة ظالمة أن تقيّد الرسول أو تأسره أو تقتله ، أو تسكت صوته بأي وسيلة ، وجادلت كل أمة رسولها بالباطل ، رغبة في إسكات صوت الحق ، والتغلّب عليه ، فأهلكتُ هؤلاء الكفار هلاكا شديدا ، فانظر كيف كان عقابي لهم ، لقد أغرق الطوفان قوم نوح ، وهلكت عاد وثمود ، وغرق فرعون وهامان .
قال تعالى : { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . ( العنكبوت : 39 ، 40 ) .
ثم هدد من جادل بآيات الله ليبطلها ، كما فعل من قبله من الأمم من قوم نوح وعاد والأحزاب من بعدهم ، الذين تحزبوا وتجمعوا على الحق ليبطلوه ، وعلى الباطل لينصروه ، { و } أنه بلغت بهم الحال ، وآل بهم التحزب إلى أنه { هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ } من الأمم { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : يقتلوه . وهذا أبلغ ما يكون الرسل الذين هم قادة أهل الخير الذين معهم الحق الصرف الذي لا شك فيه ولا اشتباه ، هموا بقتلهم ، فهل بعد هذا البغي والضلال والشقاء إلا العذاب العظيم الذي لا يخرجون منه ؟ ولهذا قال في عقوبتهم الدنيوية والأخروية : { فَأَخَذْتُهُمْ } أي : بسبب تكذيبهم وتحزبهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } كان أشد العقاب وأفظعه ، ما هو إلا صيحة أو حاصب ينزل عليهم أو يأمر الأرض أن تأخذهم ، أو البحر أن يغرقهم فإذا هم خامدون .
قوله تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم } وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح . { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } قال ابن عباس : ليقتلوه ويهلكوه ، وقيل : ليأسروه . والعرب تسمي الأسير أخيذا . { وجادلوا بالباطل ليدحضوا } ليبطلوا . { به الحق } الذي جاء به الرسل ، ومجادلتهم ، مثل قولهم : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } ( إبراهيم-10 ) { لولا أنزل علينا الملائكة { ( الفرقان-21 ) ونحو ذلك .
قوله تعالى : " كذبت قبلهم قوم نوح " على تأنيث الجماعة أي كذبت الرسل . " والأحزاب من بعدهم " أي والأمم الذين تحزبوا عل أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود فمن بعدهم . " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " أي ليحبسوه ويعذبوه . وقال قتادة والسدي : ليقتلوه . والأخذ يرد بمعنى الإهلاك ، كقوله : " ثم أخذتهم فكيف كان نكير " [ الحج : 44 ] . والعرب تسمي الأسير الأخيذ ؛ لأنه مأسور للقتل ، وأنشد قطرب قول الشاعر :
فإما تأخذوني تقتلوني *** فكم من آخذ يهوى خُلُودِي{[13357]}
وفي وقت أخذهم لرسولهم قولان : أحدهما عند دعائه لهم . الثاني عند نزول العذاب بهم . " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " أي ليزيلوا . ومنه مكان دحض أي مزلقة ، والباطل داحض ؛ لأنه يزلق ويزل فلا يستقر . قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان . " فأخذتهم " أي بالعذاب . " فكيف كان عقاب " أي عاقبة الأمم المكذبة . أي أليس وجدوه حقا .
ولما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله ، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين ، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة ، وتلاشيهم عند المصادمة ، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم : { كذبت } ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم ، جعل مستغرقاً بجميع الزمان ، فقال من غير خافض : { قبلهم } ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع ، وحدهم فقال : { قوم نوح } أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء . ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان ، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال : { والأحزاب } أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً ، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله : { من بعدهم } .
ولما كان التكذيب وحده كافياً في الأذى ، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة ، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال : { وهمَّت كل أمة } أي من الأحزاب المذكورين { برسولهم } أي الذي أرسلناه إليهم . ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال : { ليأخذوه } ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره ، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً : { وجادلوا بالباطل } أي الأمر الذي لا حقيقة له ، وليس له من ذاته إلا الزوال ، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب ، ثم بين علة مجادلتهم فقال : { ليدحضوا } أي ليزلقوا فيزيلوا { به الحق } أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته .
ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب ، وأن فعله مسبب لغضب المرسل عليه ، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للالباس ، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم : { فأخذتهم } أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم . ولما كان أخذه عظيماً ، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال : { فكيف كان عقاب * } ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه ، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد .