تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَحُشِرَ لِسُلَيۡمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّيۡرِ فَهُمۡ يُوزَعُونَ} (17)

15

المفردات :

حشر : جمع .

يوزعون : يحبس أولهم ليلحق آخرهم ، فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد .

التفسير :

17-{ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون }

كان لسليمان جيش كبير ، في غاية النظام والترتيب ، يصطف الإنس ثم الجن ، وتصطف الطير فوق رءوسهم لحمايتهم من وهج الشمس ، ولكل فئة من الثلاث قائد أو وازع ينظمهم ، ويحبس أوّلهم حتى يحضر آخرهم .

ومعنى : يُوزعُون . أي : يحبسون ويمنعون من المضي حتى يتلاحقوا ويجتمعوا .

والإيزاع : الحث على الوزع ، وهو الكفّ والمنع .

ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن .

وقول الشاعر :

ومن لم يزعه لبّه وحياؤه *** فليس له من شيب فوديه وازع

لقد أعطى الله سليمان ملكا لم يعطه لأحد من بعده ، مثل ملك الجن والريح والطير ، استجابة لدعائه ، { قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب*فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب*والشياطين كل بناء وغواص*وآخرين مقرنين في الأصفاد } [ ص : 35-38 ] .

وقال تعالى : { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير*يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات . . } [ سبأ 12 ، 13 ]

كل هذا الملك ، والجيوش المتعددة الأنواع ، ومعرفة لغة الطير ، وتسخير الجن ، والتفوق في القضاء ، قابله داود بالشكر والعرفان .

قال تعالى : { اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ]

وعندما رأى سليمان عرش بلقيس مستقرا عنده ، قال : { هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم } [ النمل : 40 ]

عبرة بالآية

جاء في أحكام القرآن لابن العربي –تعليقا على قول عثمان : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن- قد جهل قوم المراد بهذا الكلام ، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن ، وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ، فإن الله تعالى ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق ، ولكن الظلمة خاسوا بها ، وقصروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نية منها ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ، فلم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا العدل ، وأخلصوا النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور .

لغة الطير

يتسابق العلماء الآن في معرفة لغة الطير والحيوانات ، وقد علمها الله تعالى لسليمان ، وأشار القرآن إلى تنظيم أمة النحل وأمة النمل ، وأمثالها من الأمم ، حيث قال تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء . . } [ الأنعام : 38 ] .

وقد سبق القرآن الكشوف العلمية ، وأيدته المشاهدة ، فالنحل له ملكة تدبر أمره ، وتسوسه ، وبلغ من دقة إدراكه أنه يصنع بيوتا مسدسة الأضلاع لتجميع عسله فيها ، بمقاييس غاية في الدقة ، وبالجملة فدراسة مملكة النحل وأمته تحير الأفكار ، ومثلها النمل وجميع الكائنات الحية ، ومن أغرب المشاهدات تلك الطيور ، التي تقطع آلاف الأميال في موسم الشتاء طلبا للدفء والرزق ، ثم تعود أدراجها في مواسم معينة ، إلى نفس العش الذي تركته ، فوق مبنى أو فوق شجرة ، ولا تخطئ طريقها ، وكل طائفة تسير خلف نذيرها ومرشدها ، وهي تطير على هدى إدراك داخلي أقوى من [ الرادار ] ، لقد ألهمها الخالق سبحانه البحث عن رزقها ، والسير في الفضاء والهواء ، بإلهام من الله العلي القدير ، وتجد أنواعا من السمك ، تهاجر آلاف الأميال ، لتضع البيض ، ثم يفقس البيض ، ويتحول إلى سمك ، ويبدأ السمك رحلة العودة من حيث جاءت أصوله ، فسبحان الذي ألهم هذه الكائنات ، أسرار وجودها ، وطريقة حياتها ، ونظام معيشتها ، بما يفيد أن وراء هذا الكون البديع ، يدا حانية تحفظ وجوده ، وتدعّم تماسكه وتقدر أقواته ، وانظر إلى قوله تعالى : { قال فمن ربكما يا موسى*قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 49 ، 50 ] .

وقال تعالى : { وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 10 ] .