تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الطارق

أهداف سورة الطارق

( سورة الطارق مكية ، وآياتها 17 آية ، نزلت بعد سورة البلد )

وهي سورة تشترك في خصائص سور هذا الجزء ، التي تمثل طرقات متوالية على الحس ، طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بقوم غارقين في النوم . . تتوالى على حسهم تلك الطرقات تناديهم : تيقظوا ، تنبهوا ، انظروا ، تفكروا ، تدبروا ، إن هناك إلها ، وحسابا وجزاء ، وعذابا شديدا ، ونعيما كبيرا .

وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق ، دقيق ملحوظ ، يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل .

مع آيات السورة

1-4- والسماء والطّارق* وما أدراك ما الطّارق* النجم الثّاقب* إن كل نفس لمّا عليها حافظ .

أي : والسماء ونجومها الثاقبة للظلام ، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء .

وقد كثر في القرآن الحلف بالسماء وبالشمس ، وبالقمر وبالليل ، لأن في أحوالها وأشكالها ومسيرها ومطالعها ومغاربها ، سمات القدرة وآيات الإبداع والحكمة .

والطّارق . الذي يطرق ليلا ، والنجم الثّاقب . هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ، ونهتدي به في ظلمات البر والبحر ، وهو الثريا عند جمهرة العلماء ، أو جنس الشهب التي يرجم بها الشياطين ، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب ، لأن له ضوءا ثاقبا لا محالة .

يقسم الله تعالى بالسماء ونجمها الثاقب ، إن كل نفس عليها من أمر الله رقيب : إن كل نفس لمّا عليها حافظ . وفي هذا التعبير بهذه الصيغة معنى التوكيد ، وما من نفس إلا عليها حافظ يراقبها ويحصى عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله . وقد خص النفس هنا لأنها مستودع الأسرار والأفكار ، وهي التي يناط بها العمل والجزاء .

5-7- فلينظر الإنسان ممّ خلق* خلق من ماء دافق* يخرج من بين الصّلب والترائب .

فلينظر الإنسان من أي شيء خلق ، وإلى أي شيء صار ، إنه خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل ، وهو عظام ظهره الفقارية ، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية . . ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر ، حتى جاء القرن العشرون ، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث يلتقيان في قرار ، فينشأ منهما الإنسان .

( وقد ثبت في علم الأجنة أن البويضة ذات الخلية الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدة ، ثم تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا ، ثم تصير المضغة جنينا صغيرا وزّعت خلاياه إلى طبقات ثلاث يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة في أول الأمر ، فإذا تم نموها كوّنت جسم الإنسان )i .

( وما وراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، تشهد كلها بالتقدير والتدبير ، وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة ، وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق ، كما تمهد للحقيقة التالية -حقيقة النشأة الآخرة- التي لا يصدّقها المشركون المخاطبون أول مرة بهذه السورة )ii .

8-10- إنه على رجعه لقادر . إن الذي قدر على خلق الإنسان وأنشأه ورعاه ، لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدد بعد البلى ، فالنشأة الأولى تشهد بقدرته وحكمته ، هذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر ، وتجزي جزاءها العادل .

يوم تبلى السّرائر . تبلى أي تختبر وتمتحن ، والمراد تظهر . السّرائر . ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيّات ، وما خفي من الأعمال ، واحدها سريرة .

قال الأحوص :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا *** سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

إن الله قادر على إعادة الإنسان للحياة يوم تتكشف السرائر ، وتظهر الخفايا ، ويتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل عون .

فما له من قوة ولا ناصر . فلا تكون للإنسان قوة ذاتية أو منعة من نفسه يمتنع بها ، وما له من ناصر خارج ذاته ينصره ويحميه مما حتم أن يقع عليه .

والخلاصة : إن القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه ، إما من ذاته وقد نفاها بقوله : فما له من قوة . وإما من غيره وقد نفاها بقوله : ولا ناصر . وبذلك يحشر الإنسان منفردا ، مكشوف السرائر ، متجردا من القوة والنصير .

11-14- يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات المطر ينزل منها ، وقد كان أصله ماء الأرض فتبخر وصعد إلى السماء ، ثم رجع منها مطرا إلى الأرض ، ليحييها بعد موتها ، ويقسم بالأرض التي تتشقق عن النبات والعيون ، يقسم بذلك على أن القرآن تنزيل من رب العالمين ، وهو القول الفاصل بين الحق والباطل ، وليس بالهزل ولا باللهو واللعب .

أخرج الترمذي ، والدارمي ، عن عليّ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنها ستكون فتن ) قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : ( كتاب الله ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن لما سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدي إلى الرشد . . . ( الجن : 1 ، 2 ) . من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم )iii .

15-17- إنهم يكيدون كيدا* وأكيد كيدا* فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا .

إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق ، يمكرون مكرا شديدا ، ويتآمرون على إطفاء نور القرآن ، والله سبحانه يقابل كيدهم وتآمرهم بما يحبطه ويبطله ، وشتان بين عمل الإنسان وعمل الواحد الديان ، فالمعركة ذات طرف واحد ، وإن صورت ذات طرفين لمجرد المشاكلة ، إنهم يكيدون . . وأنا الله أكيد كيدا أنا المنشئ المبدئ الهادي ، الحافظ المعيد ، المبتلي القادر القاهر ، خالق السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ، أنا الله أكيد كيدا ، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين ، وبشارة للمؤمنين بأن الله معهم يدبر أمرهم ، ومن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء ، وإذا كان الله معنا فمن علينا ؟

فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا . لا تستعجل نزول العذاب بهم ، ولا تستبطئ نهايتهم ، بل أمهلهم قليلا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال .

وفي الآيات إيناس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وبعث للطمأنينة في قلوبهم ، وتأكيد لهم بأن عناية الله ترعاهم ، وأن كيد الكافرين ضعيف ، وأن العاقبة للمتقين .

قال تعالى : نمتّعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ . ( لقمان : 24 ) .

مقاصد السورة

1- إثبات حفظ الله للإنسان ورعايته له .

2- إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق مرة أخرى .

3- إن القرآن منزل من عند الله ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله .

4- تهديد الكافرين بالعذاب والنكال .

القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها

بسم الله الرحمان الرحيم

{ والسماء والطّارق 1 وما أدراك ما الطّارق 2 النجم الثّاقب 3 إن كل نفس لمّا عليها حافظ 4 فلينظر الإنسان ممّ خلق 5 خلق من ماء دافق 6 يخرج من بين الصّلب والتّرائب 7 إنه على رجعه لقادر 8 يوم تبلى السّرائر 9 فما له من قوة ولا ناصر 10 }

المفردات :

الطارق : كل آت ليلا ، ومنه النجوم لطلوعها ليلا ، والطارق في الأصل : اسم فاعل من الطرق ، بمعنى الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت .

التفسير :

1- والسماء والطّارق .

أقسم بالسماء بالطارق الذي يطرق ليلا ، وهو النجوم والكواكب تظهر بالليل وتختفي بالنهار ، وقد أقسم الله بالشمس والقمر والفجر ، والليل والضحى ، والنجوم والرياح ، وكلها مظاهر تدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى .