( سورة الطارق مكية ، وآياتها 17 آية ، نزلت بعد سورة البلد )
وهي سورة تشترك في خصائص سور هذا الجزء ، التي تمثل طرقات متوالية على الحس ، طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بقوم غارقين في النوم . . تتوالى على حسهم تلك الطرقات تناديهم : تيقظوا ، تنبهوا ، انظروا ، تفكروا ، تدبروا ، إن هناك إلها ، وحسابا وجزاء ، وعذابا شديدا ، ونعيما كبيرا .
وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق ، دقيق ملحوظ ، يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل .
1-4- والسماء والطّارق* وما أدراك ما الطّارق* النجم الثّاقب* إن كل نفس لمّا عليها حافظ .
أي : والسماء ونجومها الثاقبة للظلام ، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء .
وقد كثر في القرآن الحلف بالسماء وبالشمس ، وبالقمر وبالليل ، لأن في أحوالها وأشكالها ومسيرها ومطالعها ومغاربها ، سمات القدرة وآيات الإبداع والحكمة .
والطّارق . الذي يطرق ليلا ، والنجم الثّاقب . هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ، ونهتدي به في ظلمات البر والبحر ، وهو الثريا عند جمهرة العلماء ، أو جنس الشهب التي يرجم بها الشياطين ، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب ، لأن له ضوءا ثاقبا لا محالة .
يقسم الله تعالى بالسماء ونجمها الثاقب ، إن كل نفس عليها من أمر الله رقيب : إن كل نفس لمّا عليها حافظ . وفي هذا التعبير بهذه الصيغة معنى التوكيد ، وما من نفس إلا عليها حافظ يراقبها ويحصى عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله . وقد خص النفس هنا لأنها مستودع الأسرار والأفكار ، وهي التي يناط بها العمل والجزاء .
5-7- فلينظر الإنسان ممّ خلق* خلق من ماء دافق* يخرج من بين الصّلب والترائب .
فلينظر الإنسان من أي شيء خلق ، وإلى أي شيء صار ، إنه خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب ، خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل ، وهو عظام ظهره الفقارية ، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية . . ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر ، حتى جاء القرن العشرون ، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة ، حيث يلتقيان في قرار ، فينشأ منهما الإنسان .
( وقد ثبت في علم الأجنة أن البويضة ذات الخلية الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدة ، ثم تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا ، ثم تصير المضغة جنينا صغيرا وزّعت خلاياه إلى طبقات ثلاث يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة في أول الأمر ، فإذا تم نموها كوّنت جسم الإنسان )i .
( وما وراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، تشهد كلها بالتقدير والتدبير ، وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة ، وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق ، كما تمهد للحقيقة التالية -حقيقة النشأة الآخرة- التي لا يصدّقها المشركون المخاطبون أول مرة بهذه السورة )ii .
8-10- إنه على رجعه لقادر . إن الذي قدر على خلق الإنسان وأنشأه ورعاه ، لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدد بعد البلى ، فالنشأة الأولى تشهد بقدرته وحكمته ، هذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر ، وتجزي جزاءها العادل .
يوم تبلى السّرائر . تبلى أي تختبر وتمتحن ، والمراد تظهر . السّرائر . ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيّات ، وما خفي من الأعمال ، واحدها سريرة .
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا *** سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
إن الله قادر على إعادة الإنسان للحياة يوم تتكشف السرائر ، وتظهر الخفايا ، ويتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل عون .
فما له من قوة ولا ناصر . فلا تكون للإنسان قوة ذاتية أو منعة من نفسه يمتنع بها ، وما له من ناصر خارج ذاته ينصره ويحميه مما حتم أن يقع عليه .
والخلاصة : إن القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه ، إما من ذاته وقد نفاها بقوله : فما له من قوة . وإما من غيره وقد نفاها بقوله : ولا ناصر . وبذلك يحشر الإنسان منفردا ، مكشوف السرائر ، متجردا من القوة والنصير .
11-14- يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات المطر ينزل منها ، وقد كان أصله ماء الأرض فتبخر وصعد إلى السماء ، ثم رجع منها مطرا إلى الأرض ، ليحييها بعد موتها ، ويقسم بالأرض التي تتشقق عن النبات والعيون ، يقسم بذلك على أن القرآن تنزيل من رب العالمين ، وهو القول الفاصل بين الحق والباطل ، وليس بالهزل ولا باللهو واللعب .
أخرج الترمذي ، والدارمي ، عن عليّ رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنها ستكون فتن ) قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : ( كتاب الله ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن لما سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآنا عجبا* يهدي إلى الرشد . . . ( الجن : 1 ، 2 ) . من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم )iii .
15-17- إنهم يكيدون كيدا* وأكيد كيدا* فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا .
إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق ، يمكرون مكرا شديدا ، ويتآمرون على إطفاء نور القرآن ، والله سبحانه يقابل كيدهم وتآمرهم بما يحبطه ويبطله ، وشتان بين عمل الإنسان وعمل الواحد الديان ، فالمعركة ذات طرف واحد ، وإن صورت ذات طرفين لمجرد المشاكلة ، إنهم يكيدون . . وأنا الله أكيد كيدا أنا المنشئ المبدئ الهادي ، الحافظ المعيد ، المبتلي القادر القاهر ، خالق السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ، أنا الله أكيد كيدا ، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين ، وبشارة للمؤمنين بأن الله معهم يدبر أمرهم ، ومن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء ، وإذا كان الله معنا فمن علينا ؟
فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا . لا تستعجل نزول العذاب بهم ، ولا تستبطئ نهايتهم ، بل أمهلهم قليلا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال .
وفي الآيات إيناس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وبعث للطمأنينة في قلوبهم ، وتأكيد لهم بأن عناية الله ترعاهم ، وأن كيد الكافرين ضعيف ، وأن العاقبة للمتقين .
قال تعالى : نمتّعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ . ( لقمان : 24 ) .
1- إثبات حفظ الله للإنسان ورعايته له .
2- إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق مرة أخرى .
3- إن القرآن منزل من عند الله ، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله .
القسم على أن لكل نفس حافظا من الملائكة يراقبها
{ والسماء والطّارق 1 وما أدراك ما الطّارق 2 النجم الثّاقب 3 إن كل نفس لمّا عليها حافظ 4 فلينظر الإنسان ممّ خلق 5 خلق من ماء دافق 6 يخرج من بين الصّلب والتّرائب 7 إنه على رجعه لقادر 8 يوم تبلى السّرائر 9 فما له من قوة ولا ناصر 10 }
الطارق : كل آت ليلا ، ومنه النجوم لطلوعها ليلا ، والطارق في الأصل : اسم فاعل من الطرق ، بمعنى الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت .
أقسم بالسماء بالطارق الذي يطرق ليلا ، وهو النجوم والكواكب تظهر بالليل وتختفي بالنهار ، وقد أقسم الله بالشمس والقمر والفجر ، والليل والضحى ، والنجوم والرياح ، وكلها مظاهر تدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.